قرأ ابن محيْصِن{[8946]} : " يَدَّبَّرون " : بإدغام التَّاء في الدَّال ، والأصْل : يَتَدبرون ، وهي مخالفةٌ للسَّوَاد والتَّدْبير والتَّدَبُّر عبارة عن النَّظَر في عَوَاقِب الأمُور وأدْبَارِهَا ، ودُبُرُ الشَّيْء آخره ، ومنه قوله : إلامَ تدبَّرُوا أعْجَاز أمُورٍ قَدْ ولت صُدُورَها ، ويقال في فَصِيح الكَلاَم : لو استَقبلتُ من أمري ما اسْتَدْبَرْت ، أي : لو عَرَفْت في صَدْرِي ما عَرَفْتَ [ من ]{[8947]} عاقِبَتِهِ ، لامْتَنَعْت .
ووجه النظم أنه - تعالى - [ لمَّا ]{[8948]} حكى أنواعَ مكر{[8949]} المُنَافِقِين وكَيْدِهم ؛ لأجل عَدَم اعتِقَادِهم صحَّة دَعْوَى النَّبي صلى الله عليه وسلم للرِّسَالَة ، فلا جَرَم أمرهم [ الله ]{[8950]} تعالى بأن يَنْظُروا ويتفكروا في الدَّلائِل [ الدَّالَّة ]{[8951]} على صِحَّة النُّبوَّة ؛ فقال [ - تعالى - ]{[8952]} { أفلا يتدبرون القرآن } والعلماء قَالُوا{[8953]} : دلالة القُرْآنِ على صِدْق نُبُوَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوْجُه :
وثانيها : اشْتِمَاله على الإخْبَارِ عن الغُيُوبِ .
والثالث : سلامَتُه عن الاخْتِلاَف ، وهاذ هو المذكُور في هَذِهِ الآية ، وذكروا في تَفْسِير سَلاَمَتِه عن الاخْتِلاَف ثلاثة أوْجُه :
الأول : قال أبو بَكر الأصَم{[8954]} : معناه أنَّ هؤلاء المُنَافِقِين كانوا يَتواطَئُون في السَِّرِّ على أنْواع كَثِيرةٍ من الكيد والمَكْر ، والله - تعالى - [ كان ]{[8955]} يُطْلِعُ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على تلك الأحْوَال ، ويخبره عَنْهَا مُفَصَّلة ، فقيل لهم : إن ذلك لو لم يَحْصُل بإخْبَارِ الله - تعالى - ، وإلا لما اطَّردَ الصِّدْق فيه ، ولظَهَر الاخْتِلاف والتَّفَاوت في قول مُحمَّد - [ عليه السلام ]{[8956]} - ، فلمَّا لم يظهر ذلك عَلِمْنا أنَّ ذلك بإعْلام اللَّه - تعالى- .
الثاني : قال أكثر المُتَكَلِّمين : إن القُرْآن كتاب كَبِير{[8957]} مشتمِلٌ على أنْوَاع كثيرةٍ من العُلُوم ، فلو كَان ذَلِك مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه ، لوقع فيه أنْواعٌ من الكَلِمَات المُتَنَاقِضَة ؛ لأن الكِتَاب الكَبِير لا ينْفَكُّ من ذَلِكَ ، ولمّا لم يُوجد فيه ذلك ، عَلِمْنَا : أنه لَيْس من عِنْد غَيْر اللَّه ؛ قاله ابن عبَّاسٍ .
فإن قيل : أليس أنَّ قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22- 23 ] كالمناقض لقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [ الأنعام : 103 ] ، وآيات الجِبْرِ كالمناقِضَةِ لآيات القَدَرِ ، وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] كالمناقَضِ لقوله :
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] .
فالجواب أنا بَيَنَّا أنه لا مُنَافَاة ولا مُنَاقَضَةَ بَيْن شَيْءٍ مِنْهَا .
الثالث : قال [ أبُو ]{[8958]} مسلم الأصْفَهَانِي : المراد منه عدم الاخْتِلاف في رُتب الفَصَاحَةِ فيه من أوَّله إلى آخره على نَهْج وَاحدٍ ، ومن المَعْلُوم أن الإنْسَان وَإنْ كان في غَايَة البَلاغَة ونهاية الفَصَاحة ، إذا كَتَب كِتَاباً طويلاً مُشْتَمِلاً عَلَى المعاني الكثيرة ، فلا بُدَّ وأن يقع التَّفَاوُت في كَلاَمه ، بحيْث يكون بَعْضُه قريباً مُبَيِّناً وبَعْضُه سَخِيفاً نازلاً{[8959]} .
ولما لم يكُن القُرآن كَذلِك ، علمنا أنه مُعْجِزٌ من عِنْد الله - تعالى - .
والضمير في " فِيه " يُحتمل أن يعودَ على القُرْآن ، وهو الظَّاهِر ، وأن يعُود على ما يُخْبره الله - تعالى - به ممَّا يُبَيِّتُون ويُسِرُّون ، يعني : أنه يُخْبِرُهم به عَلَى حَدٍّ ما يَقَع .
دلت الآية على أن القُرْآن معلوم المَعْنَى ، خلافاً لِمَنْ يَقُول : إنَّه لا يَعْلَم مَعْنَاه إلا النَّبي{[8960]} والإمَام المَعْصُوم ؛ [ لأنه ]{[8961]} لو كان كَذَلِك ، لما تَهَيَّأ للمنافقين مَعْرِفة ذلِك بالتَّدَبُّر ، ودلت الآيَة أيْضاً على إثْبات القياسِ ، وعلى وُجُوب النَّظرِ والاستِدْلال ، وعلى فَسَاد التَّقْليد ، [ و ]{[8962]} لأنه - تعالى - أمر المُنَافِقِين بالاستِدْلال بهذا الدَّلِيل على صِحَّة نُبُوَّته فيه ، فبأن يَحْتَاج إلى مَعْرِفة ذَاتِ اللَّه - تعالى - وصِفَاته إلى الاستدْلال أوْلى .
قال أبو علي الجُبَّائي{[8963]} : دلت الآية على أن أفْعَال العِبَاد [ غَيْر ]{[8964]} مَخْلُوقة للَّه تعالى لأن قوله - تعالى - : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } يقتضي أن فعل العَبْد لا يَنْفَكُّ عن التَّفَاوُت والاختلاف وفِعْل اللَّه - تعالى - لا يوجد فيه التَّفَاوُت ؛ لقوله - تعالى - : { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتِ } [ الملك : 3 ] ، فهذا يَقْتَضِي أن فِعْل العَبْد لا يكُون فِعْلاً للَّه - [ عز وجل ]{[8965]} - .
والجواب : أن قوله - تعالى - : { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتِ } [ الملك :3 ] معنى{[8966]} التَّفاوُت في أنَّه يقع على وَفْقِ مشيئته بخلاف غيره ، فإنَّ فِعْل غيره لا يقع على وَفْقِ مشيئته على الإطْلاقِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.