اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا} (82)

قرأ ابن محيْصِن{[8946]} : " يَدَّبَّرون " : بإدغام التَّاء في الدَّال ، والأصْل : يَتَدبرون ، وهي مخالفةٌ للسَّوَاد والتَّدْبير والتَّدَبُّر عبارة عن النَّظَر في عَوَاقِب الأمُور وأدْبَارِهَا ، ودُبُرُ الشَّيْء آخره ، ومنه قوله : إلامَ تدبَّرُوا أعْجَاز أمُورٍ قَدْ ولت صُدُورَها ، ويقال في فَصِيح الكَلاَم : لو استَقبلتُ من أمري ما اسْتَدْبَرْت ، أي : لو عَرَفْت في صَدْرِي ما عَرَفْتَ [ من ]{[8947]} عاقِبَتِهِ ، لامْتَنَعْت .

فصل : وجه النظم في الآية

ووجه النظم أنه - تعالى - [ لمَّا ]{[8948]} حكى أنواعَ مكر{[8949]} المُنَافِقِين وكَيْدِهم ؛ لأجل عَدَم اعتِقَادِهم صحَّة دَعْوَى النَّبي صلى الله عليه وسلم للرِّسَالَة ، فلا جَرَم أمرهم [ الله ]{[8950]} تعالى بأن يَنْظُروا ويتفكروا في الدَّلائِل [ الدَّالَّة ]{[8951]} على صِحَّة النُّبوَّة ؛ فقال [ - تعالى - ]{[8952]} { أفلا يتدبرون القرآن } والعلماء قَالُوا{[8953]} : دلالة القُرْآنِ على صِدْق نُبُوَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوْجُه :

أحدُها : فصاحَته .

وثانيها : اشْتِمَاله على الإخْبَارِ عن الغُيُوبِ .

والثالث : سلامَتُه عن الاخْتِلاَف ، وهاذ هو المذكُور في هَذِهِ الآية ، وذكروا في تَفْسِير سَلاَمَتِه عن الاخْتِلاَف ثلاثة أوْجُه :

الأول : قال أبو بَكر الأصَم{[8954]} : معناه أنَّ هؤلاء المُنَافِقِين كانوا يَتواطَئُون في السَِّرِّ على أنْواع كَثِيرةٍ من الكيد والمَكْر ، والله - تعالى - [ كان ]{[8955]} يُطْلِعُ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على تلك الأحْوَال ، ويخبره عَنْهَا مُفَصَّلة ، فقيل لهم : إن ذلك لو لم يَحْصُل بإخْبَارِ الله - تعالى - ، وإلا لما اطَّردَ الصِّدْق فيه ، ولظَهَر الاخْتِلاف والتَّفَاوت في قول مُحمَّد - [ عليه السلام ]{[8956]} - ، فلمَّا لم يظهر ذلك عَلِمْنا أنَّ ذلك بإعْلام اللَّه - تعالى- .

الثاني : قال أكثر المُتَكَلِّمين : إن القُرْآن كتاب كَبِير{[8957]} مشتمِلٌ على أنْوَاع كثيرةٍ من العُلُوم ، فلو كَان ذَلِك مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه ، لوقع فيه أنْواعٌ من الكَلِمَات المُتَنَاقِضَة ؛ لأن الكِتَاب الكَبِير لا ينْفَكُّ من ذَلِكَ ، ولمّا لم يُوجد فيه ذلك ، عَلِمْنَا : أنه لَيْس من عِنْد غَيْر اللَّه ؛ قاله ابن عبَّاسٍ .

فإن قيل : أليس أنَّ قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22- 23 ] كالمناقض لقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [ الأنعام : 103 ] ، وآيات الجِبْرِ كالمناقِضَةِ لآيات القَدَرِ ، وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] كالمناقَضِ لقوله :

{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] .

فالجواب أنا بَيَنَّا أنه لا مُنَافَاة ولا مُنَاقَضَةَ بَيْن شَيْءٍ مِنْهَا .

الثالث : قال [ أبُو ]{[8958]} مسلم الأصْفَهَانِي : المراد منه عدم الاخْتِلاف في رُتب الفَصَاحَةِ فيه من أوَّله إلى آخره على نَهْج وَاحدٍ ، ومن المَعْلُوم أن الإنْسَان وَإنْ كان في غَايَة البَلاغَة ونهاية الفَصَاحة ، إذا كَتَب كِتَاباً طويلاً مُشْتَمِلاً عَلَى المعاني الكثيرة ، فلا بُدَّ وأن يقع التَّفَاوُت في كَلاَمه ، بحيْث يكون بَعْضُه قريباً مُبَيِّناً وبَعْضُه سَخِيفاً نازلاً{[8959]} .

ولما لم يكُن القُرآن كَذلِك ، علمنا أنه مُعْجِزٌ من عِنْد الله - تعالى - .

والضمير في " فِيه " يُحتمل أن يعودَ على القُرْآن ، وهو الظَّاهِر ، وأن يعُود على ما يُخْبره الله - تعالى - به ممَّا يُبَيِّتُون ويُسِرُّون ، يعني : أنه يُخْبِرُهم به عَلَى حَدٍّ ما يَقَع .

فصل في دلالة الآية

دلت الآية على أن القُرْآن معلوم المَعْنَى ، خلافاً لِمَنْ يَقُول : إنَّه لا يَعْلَم مَعْنَاه إلا النَّبي{[8960]} والإمَام المَعْصُوم ؛ [ لأنه ]{[8961]} لو كان كَذَلِك ، لما تَهَيَّأ للمنافقين مَعْرِفة ذلِك بالتَّدَبُّر ، ودلت الآيَة أيْضاً على إثْبات القياسِ ، وعلى وُجُوب النَّظرِ والاستِدْلال ، وعلى فَسَاد التَّقْليد ، [ و ]{[8962]} لأنه - تعالى - أمر المُنَافِقِين بالاستِدْلال بهذا الدَّلِيل على صِحَّة نُبُوَّته فيه ، فبأن يَحْتَاج إلى مَعْرِفة ذَاتِ اللَّه - تعالى - وصِفَاته إلى الاستدْلال أوْلى .

فصل

قال أبو علي الجُبَّائي{[8963]} : دلت الآية على أن أفْعَال العِبَاد [ غَيْر ]{[8964]} مَخْلُوقة للَّه تعالى لأن قوله - تعالى - : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } يقتضي أن فعل العَبْد لا يَنْفَكُّ عن التَّفَاوُت والاختلاف وفِعْل اللَّه - تعالى - لا يوجد فيه التَّفَاوُت ؛ لقوله - تعالى - : { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتِ } [ الملك : 3 ] ، فهذا يَقْتَضِي أن فِعْل العَبْد لا يكُون فِعْلاً للَّه - [ عز وجل ]{[8965]} - .

والجواب : أن قوله - تعالى - : { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتِ } [ الملك :3 ] معنى{[8966]} التَّفاوُت في أنَّه يقع على وَفْقِ مشيئته بخلاف غيره ، فإنَّ فِعْل غيره لا يقع على وَفْقِ مشيئته على الإطْلاقِ .


[8946]:ينظر: البحر المحيط 3/317، والدر المصون 2/401.
[8947]:سقط في أ.
[8948]:سقط في ب.
[8949]:في أ: ملك.
[8950]:سقط في ب.
[8951]:سقط في أ.
[8952]:سقط في أ.
[8953]:ينظر: تفسير الرازي 10/157.
[8954]:ينظر: السابق.
[8955]:سقط في أ.
[8956]:سقط في أ.
[8957]:في ب: منير.
[8958]:سقط في ب.
[8959]:في ب: بازلا.
[8960]:في ب: النبي.
[8961]:سقط في أ.
[8962]:سقط في ب.
[8963]:ينظر: تفسير الرازي 10/157.
[8964]:سقط في أ.
[8965]:سقط في أ.
[8966]:في ب: نفي.