تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا} (82)

الآية 82

وقوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } لو كان الحكم الظاهر المخرج على ما يقوله قوم لكان القرآن خرج مختلفا متناقضا . قال{[6051]} الله تعالى عز وجل في الآية : { لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر }( التوبة : 44 )وقال{[6052]} في آية أخرى : { إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } ( التوبة : 45 ) ( فإن ){[6053]} كن على ظاهر المخرج ، فهو مختلف . وكذلك قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ( البقرة : 230 ) . وقال الله عز وجل في ( الآية نفسها ){[6054]} ؟ { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } في( أول الآية ){[6055]} حظر ، وفي آخرها{[6056]} إباحة . فلو كان على ظاهر المخرج والعموم لكان مختلفا ومتناقضا . ويجد أهل الإلحاد أوضح طعن فيه وأيسر سبيل إلى القول بأنه غير منزل عند الرحمن ، إذ فيه وصفه أنه لو{ كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقال عز وجل { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } الآية ( فصلت : 42 )وقال عز وجل : { وإنا له لحافظون }( الحجر : 9 ) .

ثم وجد أكثر ما فيه الحكم متفرقا إلى غير المخرج ، فدل به أن الحكم لا كذلك ، ولكن لمعنى مودع{[6057]} فيه ، والمودع لا يوصل إليه{[6058]} إلا بالتدبر والتفكر فيه . وإلى هذا ندب الله عباده ليتدبروا فيه ، ليفهموا مضمونه وليعلموا{[6059]} به .

ثم يحتمل بعد هذا وجهان :

أحدهما : قوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }أي لو كان هذا القرآن{ من عند غير الله } لكان لا يوافق لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم من سرائرهم موافقا له ، دل أنه خبر عن الله تعالى .

والثاني : أنهم كانوا يقولون : { إن هذا إلا اختلاق } ( ص : 7 )و{ ما هذا إلا إفتك مفترى } ( سبإ : 43 ) ونحوه ، فأخبر الله عز وجل أنه لو{ كان من عند غير الله } لكان لا يوافق لما عندهم من الكتب ، بل كان مختلفا . فلما خرج هذا القرآن مستويا موافقا لسائر الكتب كقوله تعالى : { مصدقا لما معهم } ( البقرة : 91 ) و{ مصدقا لما بين يديه من التوراة } ( المائدة : 46 ) دل أنه من عند الله نزل .

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن هذا القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم في أوقات متفرقة متباعدة على نوازل مختلفة . فلو كان من عند غير الله نزل لخرج مختلفا مناقضا بعضه بعضا . لأن حكيما من البشر لو تكلم بكليمات في أوقات متباعدة لخرج كلامه متناقضا مختلفا إلا أن يستعين رب العالمين ، ويعرض عليه ، فعند ذلك لا يتناقض{[6060]} . فلما خرج هذا ( القرآن ){[6061]} مع تباعد الأوقات غير مختلف ولا متناقض دل أنه عند الله تعالى نزل ، وبالله التوفيق .

وفيه احتجاج على الملحدة {[6062]} حين قال عز وجل { أفلا يتدبرون القرآن } إلى قوله : { اختلافا كثيرا } فلو وجدوا لأظهروا ذلك ، وقوله تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } ( البقرة : 23 ) ولو قدروا على ذلك لأوتوا به . دل ترك إتيانهم ذلك أنهم لم يقدروا على إثيان مثله ، ولو وجدوه مختلفا{[6063]} لأظهروه ، ولو كان من كلام البشر على ما قالوا لأتوا به لأنه من البشر . فظهر أنه منزل من عند الله ، والله الموفق .

وقوله عز وجل : { أفلا يتدبرون القرآن } وقوله : { وليدبروا آياته } ( ص : 29 ) دلالة بينة على ( وجوه :

أحدها ){[6064]} : ان المقصود منه يدرك بالتأمل والتدبر ، إذ به جري الأمر والترغيب قبل وقت العمل ، بل إلزام {[6065]} القيام بما يعمل{[6066]} بالتدبر . ثم فيه وجهان :

أحدهما : أن الأمر ليس على مخرج كلام عند أهل اللسان ولا على حق الآية في اللغة أو حق مثله أن يرغب في معرفة الموقع عند أهل اللسان من المخرج ، والوجه إليه لا يدبر فيه ، والله أعلم .

والثاني{[6067]} : أن التدبر فيه حظ الحكماء وأهل البصر لا حظ العوام . وما يعرف من حيث اللسان فهو حظ الفريقين . ثبت أن على العوام اتباع الخواص في ما فهموهم والاقتداء بهم ، والله أعلم .

والثاني : أنه جعل وجه معرفة الاختلاف والاتفاق بالتدبر فيه ، لا يقرع الكلام السمع وإذا ثبت ذلك لم يلزم العمل بشيء من الظاهر حتى يعرف الموقع أنه على ذلك بالتدبر لئلا يلحق المتمسك به النقيض بالتدبر ، والله أعلم .

والوجه الثالث : بما تضمنت الاختلاف أن ارتفاع الاختلاف جعله حجة على أنه عن الله ؛ إذ علم( أن ){[6068]} الله مما جبل عليه الخلق أنه لا أحد يملك بحق الاحتراز{[6069]} لا عن علم السماع ينثى إليه عن الله خبر{[6070]} الصادقين ، ويملك{[6071]} تأليف الكلام ونظم مثله غير {[6072]} متناقض ولا مختلف ، ينفي بنفي الاختلاف ما قرن به من الكهنة ؛ إذ كذلك كلام الكهنة يخرج مختلفا وما قرن من تعليم البشر وأساطير الأولين والسحر نحو ذلك ؛ إذ كل يخرج ذلك على الاختلاف .

وفي ذلك بيان خطر جعل المخرج بحق اللسان من الاسم حجة ودليلا لما يوجد من ذلك الوجه{ اختلافا كثيرا } ولو كان من ذلك الوجه الاحتجاج لوجد الاختلاف . ومن رام أن يجعل القرآن ، لولا بيان الخبر ، موقعه على جهة قد يقع فيه الاختلاف دونه ، فهو وصف القرآن مع اجتماع الخبر بنفي الاختلاف .

وأما هو ، في نفسه مختلف ، فمثله لكل كاهن وبشر أريد ثبت التناقض ؛ أمكن لمن الندب عنه ، إن كان عنه مترجما معبرا ، يجب ضم تأويله إليه ، فيبطل أن يكون على أحد وجود اختلاف في مكان ، ويكون احتجاج العوين غنيا . جل عن ذلك . ثم ما ذكر يحتمل الأحكام والحدود والأمور والنواهي ؛ وذلك يوجب أن التناسخ والخصوص والعموم لا يكون مختلفا ، ويحتمل الإخبار والوعد والوعيد ونحو ذلك . وأعني بالإخبار ( الإخبار ){[6073]} عن الغيب وعما كان أخبر عز وجل عن شرك المنافقين وعما إليه مرجع الأمور وعما كان عنهم ونحو ذلك مما خرج كذلك ، والله أعلم .


[6051]:أدرج قبلها في الأصل وم: لأنه
[6052]:في الأصل وم: ويقول
[6053]:ساقطة من الأصل وم
[6054]:. في الأصل وم: آية أخرى.
[6055]:. في الأصل وم: أحدهما.
[6056]:. في الأصل وم: الأخرى.
[6057]:في الأصل وم: المودع.
[6058]:في الأصل وم: إلى ذلك.
[6059]:في الأصل وم: وليعلموا.
[6060]:في الأصل وم: تناقض.
[6061]:ساقطة من الأصل وم.
[6062]:من م. في الأصل: الملحدات.
[6063]:من م. في الأصل: مختلف.
[6064]:في الأصل وم: وجهين أحدهما
[6065]:في الأصل وم: ألزم.
[6066]:في الأصل وم: يعقل.
[6067]:هذا هو الوجه الثاني من وجهي التدبر. في الأصل وم: ومعلوم.
[6068]:ساقطة من الأصل وم.
[6069]:في م: الاختراع.
[6070]:في م: الاختراع.
[6071]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[6072]:في الأصل وم:عن.
[6073]:ساقطة من الأصل وم.