ثم قال [ تعالى ] {[27240]} : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } ، يعني : الأعراب [ الذين ] {[27241]} يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول ، يقول الله ردًا عليهم : { قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ } ، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ، ولله المنة عليكم فيه ، { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في دعواكم ذلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين : " يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ " كلما قال شيئًا قالوا : الله ورسوله أَمَنُّ {[27242]} .
وقال {[27243]} الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن محمد بن قيس ، عن أبي عون ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] {[27244]} قال : جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، أسلمنا وقاتلتك العرب ، ولم تقاتلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فقههم قليل ، وإن الشيطان ينطق {[27245]} على ألسنتهم " . ونزلت هذه الآية :
ثم قال : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله ، عن سعيد بن جبير ، غير {[27246]} هذا الحديث{[27247]} .
وقوله : { يمنون عليك أن أسلموا } نزلت في بني أسد أيضاً ، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت محارب خصفة وهوازن غطفان وغيرهم ، فنزلت هذه الآية ، حكاه الطبري وغيره . وقرأ ابن مسعود : «يمنون عليك إسلامهم » . وقوله يحتمل أن يكون مفعولاً صريحاً . ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله .
وقوله : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } بزعمكم إذ تقولون آمنا ، فقد لزمكم أن الله مان عليكم ، ويدلك على هذا المعنى قوله : { إن كنتم صادقين } فتعلق عليهم الحكمان هم ممنون عليهم على الصدق وأهل أن يقولوا أسلمنا من حيث هم كذبة .
وقرأ ابن مسعود : «إذ هداكم » .
وقوله تعالى : { يمن عليكم } يحتمل أن يكون بمعنى : ينعم كما تقول : من الله عليك ، ويحتمل أن يكون بمعنى : يذكر إحسانه فيجيء معادلاً ل { يمنون عليك } ، وقال الناس قديماً : إذا كفرت النعمة حسنت المنة . وإنما المنة المبطلة للصدقة المكروهة ما وقع دون كفر النعمة .
استئناف ابتدائي أريد به إبطال ما أظهره بنو أسد للنبيء صلى الله عليه وسلم من مزيتهم إذ أسلموا من دون إكراه بغزو .
والمنّ : ذكر النعمة والإحسان ليراعيَه المحسَن إليه للذاكر ، وهو يكون صريحاً مثل قول سبرة بن عمرو الفقعسي :
أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مُسلم *** وقد سال من ذل عليك قراقر
ويكون بالتعريض بأن يذكر المان من معاملته مع الممنون عليه ما هو نافعه مع قرينة تدلّ على أنه لم يرد مجرد الإخبار مثل قول الراعي مخاطباً عبد الملك بن مروان :
فآزرت آل أبي خُبيب وافدا *** يوماً أريد لبيعتي تبديلا
أبو خبيب : كنية عبد الله بن الزبير .
وكانت مقالة بني أسد مشتملة على النوعين من المنّ لأنهم قالوا : ولم نقاتلك كما قاتلك محارب وغَطَفان وهوازن وقالوا : وجئناك بالأثقال والعيال .
و { أن أسْلَمُوا } منصوب بنزع الخافض وهو باء التعدية ، يقال : منّ عليه بكذا ، وكذلك قوله : { لا تمنوا على إسلامكم } إلا أن الأول مطرد مع { أنْ } و ( أن ) والثاني سماعي وهو كثير .
وهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم آمنَّا كما حكاه الله آنفاً ، وسماه هنا إسلاماً لقوله : { ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] أي أن الذي مَنُّوا به عليك إسلام لا إيمان . وأثبت بحرف { بَل } أن ما مَنُّوا به إن كان إسلاماً حقاً موافقاً للإيمان فالمنّة لله لأنْ هداهم إليه فأسلموا عن طواعية . وسماه الآن إيماناً مجاراة لزعمهم لأن المقام مقام كون المنّة لله فمناسبة مُسَابَرَة زعمهم أنهم آمنوا ، أي لو فرض أنكم آمنتم كما تزعمون فإن إيمانكم نعمة أنعم الله بها عليكم . ولذلك ذيله بقوله : { إن كنتم صادقين } فنفى أولاً أن يكون ما يمنّون به حقاً ، ثم أفاد ثانياً أن يكون الفضل فيما ادعوه لهم لو كانوا صادقين بل هو فضل الله .
وقد أضيف إسلام إلى ضميرهم لأنهم أتوا بما يسمى إسلاماً لقوله : { ولكن قولوا أسْلَمْنا } . وأُتي بالإيمان معرّفا بلام الجنس لأنه حقيقة في حدّ ذاته وأنهم ملابسوها .
وجيء بالمضارع في { يمنون } مع أن منَّهم بذلك حصل فيما مضى لاستحضار حالة منّهم كيف يمنون بما لم يفعلوا مثل المضارع في قوله تعالى : { ويسخرون من الذين آمنوا } في سورة البقرة ( 212 ) . وجيء بالمضارع في قوله : بل اللَّه يمن عليكم } لأنه مَنّ مفروض لأن الممنون به لمّا يقع . وفيه من الإيذان بأنه سيمنّ عليهم بالإيمان ما في قوله : { ولمَّا يدخُل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] ، وهذا من التفنن البديع في الكلام ليضع السامع كل فنّ منه في قَراره ، ومثلهم من يتفطن لهذه الخصائص .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة التقوية مثل : هو يعطي الجزيل ، كما مثَّل به عبد القاهر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يمنون عليك أن أسلموا} نزلت في أناس من الأعراب بني أسد بن خزيمة، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: جئناك وأتيناك بأهلنا طائعين عفوا على غير قتال، وتركنا الأموال والعشائر وكل قبيلة في العرب قاتلوك حتى أسلموا، فلنا عليك حق، فاعرف لنا ذلك، فنزلت: {يمنون عليك} يا محمد {أن أسلموا}. {قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} في إيمانكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يمنّ عليك هؤلاء الأعراب يا محمد أن أسلموا،" قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ "يقول: بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله، "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" يقول: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا، فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم، وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم، فالمنة فيه عليهم. ثم قال: {بلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم. وتكون المنة هي التحمد بالنعمة.
الثاني: أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم، وتكون المنة هي النعمة. وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى. {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني فيما قلتم من الإيمان...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المِنَّةُ لله؛ فهو وليُّ النعمة. ولا تكون المنةُ منةً إلا إذا كان العبدُ صادقاً في حاله، فأمَّا إذا كان معلولاً في صفة من صفاته فهي محنةٌ لصاحبها لا مِنَّة. والمِنَّةُ تُكَدّرُ الصنيعَ إذا كانت من المخلوقين، ولكن بالمِنَّةِ تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يقال: منّ عليه بيد: أسداها إليه...
وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة، وذلك أنّ الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاماً، ونفى أن يكون كما زعموا إيماناً؛ فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: إنّ هؤلاء يعتدّون عليك بما ليس جديراً بالاعتداد به من حدثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام. فقل لهم: لا تعتدّوا على إسلامكم، أي حدثكم المسمى إسلاماً عندي لا إيماناً. ثم قال: بل الله يعتد عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم، إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الإيمان غير مضاف: ما لا يخفى على المتأمل، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان، فللَّه المنة عليكم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يمنون عليك} أي يذكرون ذكر من اصطنع عندك- صنيعة وأسدى إليك نعمة، إنما فعلها لحاجتك إليها لا لقصد الثواب عليها، لأن المن هو القطع... ولما كان الإسلام ظاهراً في الدين الذي هو الانقياد بالظاهر مع إذعان الباطن- لم يعبر به، وقال: {أن أسلموا} أي أوقعوا الانقياد للأحكام في الظاهر. ولما كان المن هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء، قال: {قل} أي في جواب قولهم هذا: {لا تمنوا} معبراً بما من المن إشارة إلى أن الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله، فلا ينبغي عده صنيعة على أحد، فإن ذلك يفسده {عليّ إسلامكم} لو فرض أنكم كنتم مسلمين أي متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع إذعان الباطن، أي- لا تذكروه على وجه الامتنان أصلاً، فالفعل وهو {تمنوا} مضمن "تذكروا " نفسه لا معناه كما تقدم في- {ولتكبروا الله على ما هداكم} {بل الله} أي الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه {يمن عليكم} أي يذكر أنه أسدى إليكم نعمه ظاهرة وباطنة منها ما هو {أن} أي بأن {هداكم للإيمان} أي بينة لكم أو وفقكم للاهتداء وهو تصديق الباطن مع الانقياد بالظاهر، والتعبير عن هذا بالمن أحق مواضعه، فإنه سبحانه غير محتاج إلى عمل فإنه لا نفع يلحقه ولا ضر، وإنما طلب الأعمال لنفع العاملين أنفسهم...
{إن كنتم} أي كوناً أنتم عريقون فيه {صادقين} في ادعائكم ذلك، فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة، فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وكشفت الآيات الكريمة الستار عن طبيعة الموقف الساذج الذي وقفه أولئك الأعراب، والذي دعا إلى تأديبهم وتهذيبهم حتى لا يعودوا لمثله، فقال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم}، ثم يتجه إليهم خطاب الله على سبيل التنزل، بأنهم على فرض أنهم صادقون في الجمع بين الإسلام والإيمان، فإن المنة في إسلامهم وإيمانهم إنما هي لله ورسوله، إذ هو الذي هداهم إلى طريق الإيمان أولا وأخيرا، وذلك قوله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} في محاولةٍ للإيحاء بأن الرسالة شأن خاص متعلق بذات الرسول، ما يجعل من الانتماء إلى الإسلام، انتماءً إليه، وتقويةً له، الأمر الذي يجعل المنتمي يمنّ على الرسول باعتبار أن ذلك يمثل خدمة شخصيةً له، كما هي حال الذهنية القبليّة التي ترى في الارتباط برئيس القبيلة معروفاً يقدّم إليه، ويُطلب العوض منه على أساسه. ولكن الله يرد على هذا المنطق ليعرِّفهم بأن الرسالة ليست مسألة خاصة بالرسول، لأن دوره فيها هو دور التبليغ في ساحته الرسولية، بل هي أن الإسلام دين الله الذي أنزله على عباده ليصلح أمرهم...