مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَمُنُّونَ عَلَيۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسۡلَٰمَكُمۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (17)

قوله تعالى : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } .

يقرر ذلك ويبين أن إسلامهم لمن يكن لله ، وفيه لطائف ( الأولى ) في قوله تعالى : { يمنون عليك } زيادة بيان لقبيح فعلهم ، وذلك لأن الإيمان له شرفان ( أحدهما ) بالنسبة إلى الله تعالى وهو تنزيه الله عن الشرك وتوحيده في العظمة ، ( وثانيهما ) بالنسبة إلى المؤمن فإنه ينزه النفس عن الجهل ويزينها بالحق والصدق ، فهم لا يطلبون بإسلامهم جانب الله ولا يطلبون شرف أنفسهم بل منوا ولو علموا أن فيه شرفهم لما منوا به بل شكروا .

اللطيفة الثانية : قال { قل لا تمنوا علي إسلامكم } أي الذي عندكم إسلام ، ولهذا قال تعالى : { ولكن قولوا أسلمنا } ولم يقل : لم تؤمنوا ولكن أسلمتم لئلا يكون تصديقا لهم في الإسلام أيضا كما لم يصدقوا في الإيمان ، فإن قيل لم لم يجز أن يصدقوا في إسلامهم ، والإسلام هو الانقياد ، وقد وجد منهم قولا وفعلا وإن لم يوجد اعتقادا وعلما وذلك القدر كاف في صدقهم ؟ نقول التكذيب يقع على وجهين ( أحدهما ) أن لا يوجد نفس المخبر عنه ( وثانيهما ) أن لا يوجد كما أخبر في نفسه فقد يقول ما جئتنا بل جاءت بك الحاجة ، فالله تعالى كذبهم في قولهم آمنا على الوجه الأول ، أي ما آمنتم أصلا ولم يصدقوا في الإسلام على الوجه الثاني فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة .

اللطيفة الثالثة : قال { بل الله يمن عليكم } يعني لا منة لكم ومع ذلك لا تسلمون رأسا برأس بحيث لا يكون لكم علينا ولا لنا عليكم منة ، بل المنة عليكم ، وقوله تعالى : { بل الله يمن عليكم } حسن أدب حيث لم يقل لا تمنوا علي بل لي المنة عليكم حيث بينت لكم الطريق المستقيم ، ثم في مقابلة هذا الأدب قال الله تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } .

اللطيفة الرابعة : لم يقل يمن عليكم أن أسلمتم بل قال : { أن هداكم للإيمان } لأن إسلامهم كان ضلالا حيث كان نفاقا فما من به عليهم ، فإن قيل كيف من عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه بين أنهم لم يؤمنوا ؟ نقول الجواب عنه من ثلاثة أوجه ( أحدها ) أنه تعالى لم يقل : بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمان ، بل قال : { أن هداكم لإيمان } وإرسال الرسل بالآيات البينات هداية ( ثانيها ) هو أنه تعالى يمن عليهم بما زعموا ، فكأنه قال أنتم قلتم آمنا ، فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار ، فقال هداكم في زعمكم ( ثالثها ) وهو الأصح ، هو أن الله تعالى بين بعد ذلك شرطا فقال : { إن كنتم صادقين } .