المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (111)

111- يؤكد اللَّه وعده للمؤمنين الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله ، فإنه اشترى منهم تلك الأنفس والأموال بالجنة ثمنا لما بذلوا ، فإنهم يجاهدون في سبيل اللَّه فيقتلون أعداء اللَّه أو يستشهدون في سبيله ، وقد أثبت اللَّه هذا الوعد الحق في التوراة والإنجيل ، كما أثبته في القرآن ، وليس أحد أبر ولا أوفي بعهده من اللَّه ، فافرحوا - أيها المؤمنون المجاهدون - بهذه المبايعة التي بذلتم فيها أنفسكم وأموالكم الفانية ، وعُوضتم عنها بالجنة الباقية ، وهذا الشراء والبيع هو الظفر الكبير لكم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (111)

قوله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } الآية . قال محمد بن كعب القرظي : " لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً ، قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : أشترط لربي عز وجل : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي ، أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال :الجنة ، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } . وقرأ الأعمش : { بالجنة } . { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } ، قرأ حمزة والكسائي : " فيقتلون " بتقديم المفعول على الفاعل بمعنى يقتل بعضهم بعضا ، ويقتل الباقون . وقرأ الآخرون بتقديم الفاعل . { وعدا عليه حقا } أي : ثواب الجنة لهم وعد وحق { في التوراة والإنجيل والقرآن } ، يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد ، وبينه في هذه الكتب . وقيل فيه دليل على أن أهل الملل كلهم أمروا بالجهاد على ثواب الجنة ، ثم هنأهم فقال : { ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا } ، فافرحوا { ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله عز وجل بايعك وجعل الصفقتين لك . وقال قتادة ثامنهم الله عز وجل فأغلى لهم . وقال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن . وعنه أنه قال : إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (111)

يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة ، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له ؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم .

وقال شَمِر بن عطية : ما من مسلم إلا ولله ، عز وجل ، في عُنُقه بيعة ، وفَّى بها أو مات عليها ، ثم تلا هذه الآية .

ولهذا يقال : من حمل في سبيل الله بايع الله ، أي : قَبِل هذا العقد ووفى به .

وقال محمد بن كعب القُرَظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة ، رضي الله عنه ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبةِ - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ! فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . قالوا : رَبِح البيعُ ، لا نُقِيل ولا نستقيل ، فنزلت :{[13877]} { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية .

وقوله : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي : سواء قتلوا أو قُتلوا ، أو اجتمع لهم هذا وهذا ، فقد وجبت لهم الجنة ؛ ولهذا جاء في الصحيحين : " وتكفل الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ، وتصديق برسلي ، بأن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه ، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " . {[13878]} وقوله : { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } تأكيد لهذا الوعد ، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة ، وأنزله على رسله في كتبه الكبار ، وهي{[13879]} التوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزل على عيسى ، والقرآن المنزل على محمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

وقوله : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } [ أي : ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله ]{[13880]} فإنه لا يخلف الميعاد ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا } [ النساء : 87 ] { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا } [ النساء : 122 ] ؛ ولهذا قال : { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد ، بالفوز العظيم ، والنعيم{[13881]} المقيم .


[13877]:- في أ : "فنزل".
[13878]:- صحيح البخاري برقم (3123) وصحيح مسلم برقم (1876)
[13879]:- في أ : "وهو".
[13880]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13881]:- في ت ، أ : "والمغنم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (111)

وقوله { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } الآية ، هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو ، وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة فقالوا : اشترط لك ولربك ، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة ، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم ، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة ، فقالوا : ما لنا على ذلك ؟ قال الجنة ، فقالوا : نعم ربح البيع لا نقيل ولا نقال ، وفي بعض الروايات ولا نستقيل فنزلت الآية في ذلك .

ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، وقال بعض العلماء : ما من مسلم إلا ولله في عنقه هذه البيعة وفى بها أو لم يف ، وفي الحديث أن فوق كل بر براً حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك{[5919]} ، وهذا تمثيل من الله عز وجل جميل صنعه بالمبايعة ، وذلك أن حقيقة المبايعة أن تقع بين نفسين بقصد منهما وتملك صحيح ، وهذه القصة وهب الله عباده أنفسهم وأموالهم ثم أمرهم ببذلها في ذاته ووعدهم على ذلك ما هو خير منها ، فهذا غاية التفضل ، ثم شبه القصة بالمبايعة ، وأسند الطبري عن كثير من أهل العلم أنهم قالوا : ثامن الله تعالى في هذه الآية عباده فأعلى لهم وقاله ابن عباس والحسن بن أبي الحسن ، وقال ابن عيينة : معنى الآية اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعة الله ، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله .

قال القاضي أبو محمد : فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله ، ومبايعة الخلفاء هي منتزعة من هذه الآية ، كان الناس يعطون الخلفاء طاعتهم ونصائحهم وجدهم ويعطيهم الخلفاء عدلهم ونظرهم والقيام بأمورهم ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع الواعظ أبا الفضل بن الجوهري يقول على المنبر بمصر : ناهيك من صفقة البائع فيها رب العلى والثمن جنة المأوى والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وقوله { يقاتلون في سبيل الله } مقطوع ومستأنف وذلك على تأويل سفيان بن عيينة ، وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين فهو في موضع الحال ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وقتادة وأبو رجاء وغيرهم : «فيَقتلون » على البناء للفاعل «ويُقتلون » على البناء للمفعول ، وقرأ حمزة والكسائي والنخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش بعكس ذلك ، والمعنى واحد إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون فيوجد فيهم من يَقتل وفيهم من يُقتل وفيهم من يجتمعان له وفيهم من لا تقع له واحدة منهما ، وليس الغرض أن يجتمع ولا بد لكل واحد واحد ، وإذا اعتبر هذا بان{[5920]} ، وقوله سبحانه { وعداً عليه حقاً } مصدر مؤكد لأن ما تقدم من الآية هو في معنى الوعد فجاء هو مؤكداً لما تقدم من قوله : { بأن لهم الجنة } ، وقال المفسرون : يظهر من قوله : { في التوراة والإنجيل والقرآن } ، أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن ميعاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقدم ذكره في هذه الكتب ، وقوله { ومن أوفى بعهده من الله } استفهام على جهة التقرير أي لا أحد أوفى بعهده من الله ، وقوله { فاستبشروا } فعل جاء فيه استفعل بمعنى أفعل وليس هذا من معنى طلب الشيء ، كما تقول : استوقد ناراً واستهدى مالاً واستدعى نصراً بل هو كعجب واستعجب{[5921]} ، ثم وصف تعالى ذلك البيع بأنه { الفوز العظيم } ، أي أنه الحصول على الحظ الأغبط من حط الذنوب ودخول الجنة بلا حساب{[5922]} .


[5919]:- قال القرطبي: رواه الحسن، ثم أنشد البيت المشهور: الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود
[5920]:- قال الزمخشري: [يقاتلون] فيه معنى الأمر، لقوله تعالى: {تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}.
[5921]:- قوله تعالى: {فاستبشروا} خطاب من الله تبارك وتعالى بعد ضمائر الغائب على سبيل الالتفات، لأن في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم، وهذه هي حكمة الالتفات هنا.
[5922]:- قال الحسن: "والله ما في الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة"، فما أعظم هذا الفوز حقا!
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (111)

استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العُسْرة ، ليكون توطئة وتمهيداً لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم ، وإنْبَاءِ الذين أضمروا الكفر نفاقاً بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهم ابتداءً من قوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] الآيات ، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار .

وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر ، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يُستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى : { مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة .

وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل ، كما سيأتي في قوله : { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } ، وأنهم كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفُوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية .

والاشتراء : مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد ، كما دل عليه قوله : { وعداً عليه حقاً } بمشابهة الوعدِ الاشتراءَ في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر .

ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صِيغ الاشتراء أدخلت هنا في { بأن لهم الجنة } لمشابهة هذا الوعد الثمنَ . وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها .

والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة . وهو المناسب لقوله بعد : { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } .

ويكون معنى قوله : { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل } ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختِم الرسالة . وهو ما أشار إليه قوله تعالى : { والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى قوله ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل إلى قوله { ليغيظ بهم الكفار } [ الفتح : 29 ] .

ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أنسب لقوله : { في التوراة والإنجيل } ، وحينئذٍ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من أتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب . فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز ، وبذلك يكون فعل { يقاتلون } مستعملاً في حقيقته ومجازه .

واللام في { لهم الجنة } للملك والاستحْقاق .

والمجرور مصدر ، والتقدير : بتحقيق تملكهم الجنة ، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلاً كان هذا البيع من جنس السلم .

وجملة : { يقاتلون في سبيل الله } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول : كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم ؟ فكان جوابه { يقاتلون في سبيل الله } الخ .

قال الطيبي : « فقوله { يقاتلون } بيان ، لأن مكان التسليم هو المعركة ، لأن هذا البيع سَلَم ، ومن ثَم قيل { بأن لهم الجنة } ولم يقل بالجنة . وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله : { وعداً عليه حقاً } ، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة . ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن » اهـ . وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلاً عكس ما فسرنا به آنفاً .

وقوله : { فيَقتُلُون ويُقتلون } تفريع على { يُقاتلون } ، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين . وقرأ الجمهور { فيَقتلون } بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول . وقرأ حمزة والكسائي بالعكس . وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو ، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة .

و { وَعدا } منصوب على المفعولية المطلقة من { اشترى } ، لأنه بمعنى وعد إذ العِوض مؤجل . و { حقاً } صفة { وعْداً } . و{ عليه } ظرف لغو متعلق ب { حقاً } ، قُدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف ( على ) من معنى الوجوب .

وقوله : { في التوراة } حال من { وعداً } . والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب ، أي مكتوباً في التوارة والإنجيل والقرآن .

وجملة : { ومن أوفى بعهده من الله } في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله : { وعداً عليه حقاً } ، أي وعداً حقاً عليه ولا أحد أوفى بعهده منه ، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملاً للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال : ومن أوفى بعهده من الله إنكاراً عليه .

و{ أوفى } اسم تفضيل من وفّى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله .

و{ مِن } تفضيلية ، وهي للابتداء عند سيبويه ، أي للابتداء المجازي . وذُكر اسم الجلالة عوضاً عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال . والعهد : الوعد بحلف والوعد الموكد ، والبيعة عهد ، والوصية عهد .

وتفرع على كون الوعد حقاً على الله ، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد ، أنْ يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا ، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة . وأضيف البيع إلى ضميرهم إظهاراً لاغتباطهم به .

ووصفه بالموصول وصلته { الذي بايعتم به } تأكيداً لمعنى { بيعكم } ، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف .

وجملة : { وذلك هو الفوز العظيم } تذييل جامع ، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيْه . وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية والوصف ب { العظيم } المفيد للأهمية .