قوله تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } . وذلك أن قوماً من المسلمين تمنوا يوماً كيوم بدر ليقاتلوا ويستشهدوا ، فأراهم الله يوم أحد ، وقوله ( تمنون الموت ) أي سبب الموت . وهو الجهاد . ( من قبل أن تلقوه ) .
قوله تعالى : { فقد رأيتموه } . يعني : أسبابه ( وأنتم تنظرون ) فإن قيل : ما معنى قوله ( وأنتم تنظرون ) بعد قوله ( فقد رأيتموه ) قيل : ذكره تأكيداً ، وقيل : الرؤية قد تكون بمعنى العلم ، فقال : ( وأنتم تنظرون ) ليعلم أن المراد بالرؤية النظر ، وقيل : معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي : قد كنتم - أيها المؤمنون - قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم ، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم ، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه ، فدونَكم فقاتلوا وصابروا .
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَمَنَّوْا{[5775]} لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ ، فَإذَا لقيتموهم فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ " {[5776]} .
ولهذا قال : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني : الموت شاهدتموه{[5777]} في لَمَعان السيوف وحدّ الأسِنّة واشتباك الرِّماح ، وصفوف الرجال للقتال .
والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخْييل ، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس{[5778]} كما تَتَخَيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب .
ثم خاطب المؤمنين بقوله : { ولقد كنتم تمنون الموت } والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادراً فلم يوعب{[3571]} الناس معه ، إذ كان الظن أنه لا يلقى حرباً ، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة ، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر ، ولأنس بن النضر{[3572]} في ذلك كلام محفوظ ، فلما جاء أمر أحد -وحضر القتال لم يصدق كل المؤمنين ، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به ، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت ، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت ، فصار الموت كأنه المتمنى ، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل ، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم ، وقرأ الجمهور : «من قبل أن تلقوه » ، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «من قبل أن تلاقوه » وهذه والأولى في المعنى سواء من حيث - لقي - معناه يتضمن أنه من اثنين وإن لم يكن على وزن فاعل ، وقرأ مجاهد «من قبلُ » بضم اللام وترك الإضافة ، وجعل { أن تلقوه } بدلاً من { الموت } ، وقوله تعالى : { فقد رأيتموه } يريد رأيتم أسبابه وهي الحرب المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف ، وهذا كما قال عمير بن وهب{[3573]} يوم بدر : رأيت البلايا ، تحمل المنايا ، وكما قال الحارث بن هشام : [ الكامل ]
وَوَجَدْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ . . . في مَأْزقِ وَالْخَيْلُ لَمْ تتبددِ{[3574]}
يريد لقرب الأمر ، ونحو هذا قول عامر بن فهيرة{[3575]} :
لقد رأيت الموت قبل ذوقه . . . يريد لما اشتد به المرض ، وقرأ طلحة بن مصرف «فلقد رأيتموه » ، وقوله تعالى : { وأنتم تنظرون } يحتمل ثلاثة معان : أحدها التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ ، والآخر أن يكون المعنى أنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر محمد عليه السلام هل قتل أم لا ؟ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله عليه ، وحكى مكي عن قوم أنهم قالوا : المعنى : وأنتم تنظرون إلى محمد ، وهذا قول ضعيف ، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل ؟ والاضطراب بحسب ذلك ، والمعنى الثالث أن يكون قد وقفهم على تمنيهم ومعاهدتهم ، وعلى أنهم رأوا ذلك الذي تمنوا ، ثم قال على جهة التوبيخ والعتب : { وأنتم تنظرون } في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم ؟ كأنه قال : وأنتم حسباء أنفسكم ، فتأملوا قبيح فعلكم وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب جميع من الإبقاء والصون والاستدعاء ، قال ابن فورك : المعنى وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي ؟ وهذا نحو ما تقدم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.