الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

خاطب اللَّه سبحانَهُ المؤمنين بقوله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ }[ آل عمران :143 ] ، والسببُ في ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ في غزوةِ بَدْرٍ ، يريدُ عِيرَ قُرَيْشٍ مبادراً ، فلم يوعب النَّاس معه ، إذ كان الظنُّ أنه لا يلقى حَرْباً ، فلَمَّا قضَى اللَّه ببَدْرٍ ما قضى ، وفاز حاضِرُوها بالمَنْزِلة الرَّفيعةِ ، كان المتخلِّفون من المؤمنين عنْها يتمنَّوْن حُضُور قتالِ الكُفَّار ، ليكونَ منْهُمْ في ذلك غَنَاء يُلْحِقُهُمْ عِنْدَ ربِّهم ، ونبيِّهم ، بمنزلةِ أهْل بَدْر ، فلمَّا جاء أمْر أُحُدٍ ، لم يَصْدُقْ كُلُّ المؤمنين ، فعاتبهم اللَّه بهذه الآية ، وألزمهم تمنِّيَ المَوْتِ ، من حيثُ تَمَنَّوْا أسبابه ، وهو لقاءُ العَدُوِّ ، ومُضَارَبَتُهم ، وإلاَّ فنَفْسُ قَتْل المُشْرِك للمُسْلِم لا يجُوزُ أنْ يتمنى ، من حيث هو قَتْلٌ ، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادةِ والنْعيم .

قُلْتُ : وفي كلام ( ع ) : بعضُ إجمالٍ ، وقد ترجم البخاريُّ تَمَنِّيَ الشهادةِ ، ثم أسند عن أبي هريرة ، قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ ، أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي ، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوَدِدتُّ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ أَحْيَا ، ثُمَّ أُقْتَلُ ، ثُمَّ أَحْيَا ، ثُمَّ أُقْتَلُ ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ) . وخرَّجه أيضًا مسلمٌ ، وخرَّج البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديث أنسٍ ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ ( عَزَّ وجَلَّ ) خَيْرٌ ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا ، وأَنَّ الدُّنْيَا لَهُ ، وَمَا فِيهَا ، إلاَّ الشَّهِيدَ ، لِمَا يرى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ ، فَإنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا ، فَيُقْتَلُ عَشْرَ مَرَّاتٍ ، لِمَا يرى مِنَ الكَرَامَةِ ) اه .

فقد تبيَّن لك تمنِّي القَتْلِ في سبيل اللَّه بهذه النُّصُوصِ ، لما فيه من الكرامة .

وصَوَابُ كلام ( ع ) : أنْ يقول : وإِنما يتمنَّى القتلُ ، للواحقه ، من الشَّهادةِ والتنْعِيمِ .

وقوله سبحانه : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ }[ آل عمران :143 ] .

يريد : رأيتم أسبابه ، وقوله : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } : تأكيدٌ للرؤية ، وإخراجِها من الاشتراك الذي بَيْنَ رؤية القَلْب ورُؤْية العَيْن .