البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

{ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } الخطاب للمؤمنين ، وظاهره العموم والمراد الخصوص .

وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج مبادراً يريد عير القريش ، فلم يظنوا حرباً ، وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة ، فتمنوا لقاء العدوّ ليكون لهم يوم كيوم بدر ، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد .

فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذّاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاناً أنه رسول الله وقال : قتلت محمداً وصرخ بذلك صارخ ، وفشاد ذلك في الناس انكفوا فارّين ، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم « إلي عباد الله » حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا عن انكفافهم قائلين : أتانا خبر قتلك ، فرعبت قلوبنا ، فولينا مدبرين ، فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على أنفسهم من تمني الموت .

وعبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت ، إذ هي حالة تتضمن في الأغلب الموت ، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت .

ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود ، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة لما فيه من الكرامة عند الله .

وأنشد عبد الله بن رواحة وقد نهض إلى موته وقال لهم : ردّكم الله تعالى فقال :

لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

حتى يقولوا إذا مروا على جدثي *** رشد الله من غاز وقد رشدا

{ من قبل أن تلقوه } : أي من قبل أن تشاهدوا شدائده ومضائقه .

وضمير المفعول في تلقوه عائد على الموت ، وقيل : على العدوّ ، وأضمر لدلالة الكلام عليه .

والأوّل أظهر ، لأنه يعود على مذكور .

وقرأ النخعي والزهري : تلاقوه ومعناها ومعنى تلقوه سواء ، من حيثُ أنّ معنى لقي يتضمن أنه من اثنين ، وإنْ لم يكنْ على وزن فاعل .

وقرأ مجاهد من قبلُ بضم اللام مقطوعاً عن الإضافة ، فيكون موضع أنْ تلقوه نصباً على أنه بدل اشتمال من الموت .

فقد رأيتموه أي عاينتم أسبابه وهي الحرب المستعرة كما قال :

لقد رأيت الموت قبل ذوقه *** وقال :

ووجدت ريح الموت من تلقائهم *** في مأزق والخيل لم تتبدّد

وقيل : معنى الرؤية هنا العلم ، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي : فقد علمتم الموت حاضراً ، وحذف لدلالة المعنى عليه .

وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جداً ، ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين .

وقرأ طلحة بن مصرف .

فلقد رأيتموه باللام ، وأنتم تنظرون جملة حالية للتأكيد ، ورفع ما يحتمله رأيتموه من المجاز أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين ، أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا ، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية ، وهذا قول الأخفش ، وهو الظاهر .

وقيل : وأنتم بصراء أي ليس بأعينكم علة .

ويرجع معناه إلى القول الأول ، وقاله الزجاج والأخفش أيضاً .

وقيل : تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم وما فعل به .

وقيل : تنظرون نظر تأمل بعد الرؤية .

وقيل : تنظرون في أسباب النجاة والفرار ، وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هل قتل أم لا ؟ وقيل : تنظرون ما تمنيتم وهو عائد على الموت .

وقيل : تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب ، هل وفيتم أو خالفتم ؟ فعلى هذا المعنى لا تكون جملة حالية ، بل هي جملة مستأنفة الاخبار أتى بها على سبيل التوبيخ .

فكأنه قيل : وأنتم حسباء أنفسكم فتملوا قبح فعلكم .

وهذه الآية وإن كانت صيغتها صيغة الخبر فمعناها العتب والإنكار على من انهزم يوم أحد ، وفيها محذوف أخيراً بعد قوله : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ، أي تفرقهم بعد رؤية أسبابه وكشف الغيب ، أنَّ متعلق تمنيكم نكصتم عنه وقال ابن الأنباري : يقال : إنَّ معنى رأيتموه قابلتموه وأنتم تنظرون بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما ، لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة والثاني بمعنى رؤية العين انتهى .

ويكون إذ ذاك ، وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال المبينة لا المؤكدة إلا أن المشهور في اللغة أن الرؤية هي الإبصار ، لا المقابلة والمواجهة .

/خ152