الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَيۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (143)

{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر . وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين ، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة ، يعني : وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا . وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت ، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده .

فإن قلت : كيف يجوز تمني الشهادة وفي تمنيها تمني غلبة الكافر المسلم ؟ قلت : قصد متمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن ، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء ، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ الله وتنفيقا لصناعته . ولقد قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم الله :

لكِنَّني أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً *** وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا

أو طَعْنَةً بِيَدي حَرَّانَ مُجْهِزَةً *** بِحَرْبَةَ تَنفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا

حَتَّى يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثي *** أرشدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدا