المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

102- وإذا كنت - أيها النبي الأمين - فيهم وقامت صلاة الجماعة ، فلا تنسوا الحذر من الأعداء ، وذلك بتقسيم المسلمين إلى طائفتين : إحداهما تبدأ الصلاة مقتدية بك ، وتكون الأخرى قائمة على الأسلحة والأمتعة لحراستها ، فإذا أتممت نصف الصلاة ذهبت التي صلت وراءك وجاءت الأخرى فصليت بها الباقي ، ثم تصلي ما فاتها وتصلي الأولى بقية الصلاة ، وتسمى لاحقة{[44]} والأخرى مسبوقة ، إذ تؤدى أول الصلاة ، واللاحقة تؤدى آخرها ، وذلك التنظيم لكي لا تفوت الصلاة ، وللحذر من الكافرين الذين يودون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلوا عليكم دفعة واحدة ، ويَنْقَضوُّا عليكم وأنتم في الصلاة ، وأن قتال المشركين مستمراً واجب ، ولكن لا إثم عليكم أن تسكنوا إذا كان بكم مرض أو نزل مطر عاق عن القتال ، ولكن على أن تكونوا على حذر دائم ، وهذا عقاب الله للكافرين في الدنيا ، وفي الآخرة أعد لهم عذاباً مهيناً مذلاً .


[44]:اللاحقة: هي التي تصلي مع الإمام أول الصلاة وتضطر للتخلف باقيها، ثم تؤدي الباقي منفردة، والمسبوق هو الذي يؤدي آخر الصلاة جماعة ثم يؤدي الأول منفردا.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جماعة ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم ، فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعني صلاة العصر ، فإذا قاموا فيها فشدوا عليهم فاقتلوهم ، فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، إنها صلاة الخوف ، وإن الله عز وجل يقول : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } فعلمه صلاة الخوف . وجملته : أن العدو إذا كانوا في معسكرهم في غير ناحية القبلة ، فيجعل الإمام القوم فرقتين ، فتقف طائفة وجاه العدو تحرسهم ، ويشرع الإمام مع طائفة في الصلاة ، فإذا صلى بهم ركعة قام وثبت قائماً ، حتى أتموا صلاتهم وذهبوا إلى وجاه العدو ، ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية ، وثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم الصلاة ، ثم يسلم بهم ، وهذه رواية سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بذات الرقاع . وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، أنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف ، أن طائفة صفت معه ، وصفت طائفة وجاه العدو ، فصلى بالتي معه ركعة ، ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالساً ، وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم . قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسدد ، أنا يحيى ، عن شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا . وذهب قوم إلى أن الإمام إذا قام إلى الركعة الثانية تذهب الطائفة الأولى في خلال الصلاة إلى وجاه العدو ، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي به الركعة الثانية ، ويسلم وهم لا يسلمون بل يذهبون إلى وجاه العدو ، وتعود الطائفة الأولى فتتم صلاتها ، ثم تعود الطائفة الثانية فتتم صلاتها .

وهذه رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك . وهو قول أصحاب الرأي .

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أنا أبو عيسى الترمذي ، أنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، أنا يزيد بن زريع ، أنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم فقام هؤلاء فصلوا ركعتهم . وكلتا الروايتين صحيحة ، فذهب قوم إلى أن هذا من الاختلاف المباح ، وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى حديث سهل بن أبي حثمة لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن ، وأحوط للصلاة ، وأبلغ في حراسة العدو ، وذلك لأن الله تعالى قال : { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } أي : إذا صلوا ، ثم قال : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } ، وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا ، وقال : { فليصلوا معك } ومقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة ، فظاهره يدل على أن كل طائفة تفارق الإمام بعد تمام الصلاة ، والاحتياط لأمر الصلاة ؛ من حيث إنه لا يكثر فيها العمل ، والذهاب ، والمجيء ، والاحتياط لأمر الحرب من حيث إنهم إذ لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحرب ، والهرب ، إن احتاجوا إليه . ولو صلى الإمام أربع ركعات بكل طائفة ركعتين جاز .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال : أنا الصاغاني ، أنا عفان بن مسلم ، ثنا أبان العطار ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع ، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة ، فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتخافني ؟ قال : لا . قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك ، قال : فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأغمد السيف وعلقه ، فنودي بالصلاة ، قال : فصلى بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، قال : فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتان .

أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، اخبرني الثقة بن علية أو غيره ، عن يونس ، عن الحسن ، عن جابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ، ببطن نخل ، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم .

وروي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بهؤلاء ركعة ، وبهؤلاء ركعة ، ولم يقضوا .

ورواه زيد بن ثابت وقال : كانت للقوم ركعة واحدة ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان . وتأوله قوم على صلاة شدة الخوف ، وقالوا : الفرض في هذه الحالة ركعة واحدة ، وأكثر أهل العلم على أن الخوف لا ينقص عدد الركعات ، وإن كان العدو في ناحية القبلة ، في مستوى إن حملوا عليهم رأوهم ، صلى الإمام بهم جميعاً وحرسوا في السجود ، كما أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو نعيم الإسفرايني ، أنا أبو عوانة الحافظ ، أنا عمار ، أنا زيد بن هارون ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فصففنا خلفه صفين ، والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً ، ثم ركع وركعنا جميعاً ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى ، فقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود ، ثم قاموا ، ثم تقدم الصف المؤخر ، وتأخر المقدم ، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً ، قال جابر رضي الله عنه : كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم .

واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم . عند عامة أهل العلم . ويحكي عن بعضهم عدم الجواز ، ولا وجه له . وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه : كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف بالعمل به جائز . روي فيها ستة أوجه ، أو سبعة أوجه . وقال مجاهد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غرة ، لو حملنا عليهم ، وهم في الصلاة ، فنزلت الآية بين الظهر والعصر .

قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } أي : شهيداً معهم .

قوله تعالى : { فأقمت لهم الصلاة }

قوله تعالى : { فلتقم طائفة منهم معك } ، أي : فلتقف ، كقوله تعالى : { وإذا أظلم عليهم قاموا } [ البقرة :20 ] أي : وقفوا .

قوله تعالى : { وليأخذوا أسلحتهم } . واختلفوا في الذين يأخذون أسلحتهم ، فقال بعضهم : أراد هؤلاء الذين وقفوا مع الإمام يصلون ، يأخذون الأسلحة في الصلاة ، فعلى هذا إنما يأخذه إذا كان لا يشغله عن الصلاة ، ولا يؤذي من بجنبه ، فإذا شغلته حركته وثقلته عن الصلاة كالجعبة ، والترس الكبير ، أو كان يؤذي من بجنبه كالرمح ، فلا يأخذه . وقيل : ( وليأخذوا أسلحتهم ) أي : الباقون الذين قاموا في وجه العدو .

قوله تعالى : { فإذا سجدوا } ، أي : صلوا .

قوله تعالى : { فليكونوا من ورائكم } . يريد مكان الذين هم وجاه العدو .

قوله تعالى : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } ، وهم الذين كانوا في وجه العدو .

قوله تعالى : { فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } ، قيل : هؤلاء الذين أتوا ، وقيل : هم الذين صلوا .

قوله تعالى : { ود الذين كفروا } ، يتمنى الكفار .

قوله تعالى : { لو تغفلون } أي : لو وجدوكم غافلين .

قوله تعالى : { عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } ، فيقصدونكم ويحملون عليكم حملةً واحدة .

قوله تعالى : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } ، رخص في وضع السلاح في حال المطر ، والمرض ، لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين .

قوله تعالى : { وخذوا حذركم } ، أي : راقبوا العدو كيلا يتغفلوكم ، والحذر ما يتقى به من العدو ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه غزا محارباً ، وبني أنمار ، فنزلوا لا يرون من العدو أحداً ، فوضع الناس أسلحتهم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له قد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش ، فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة ، فبصر به غورث بن الحارث المحاربي ، فقال : قتلني الله إن لم أقتله ، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده ، فقال : يا محمد : من يعصمك مني الآن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله ، ثم قال : اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت ، ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه فانكب لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه ، وندر سيفه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ، ثم قال : يا غورث ، من يمنعك مني الآن ؟ قال : لا أحد ، قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأعطيك سيفك ؟ قال : لا ، ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ، ولا أعين عليك عدواً ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ، فقال غورث : والله لأنت خير مني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :أجل أنا أحق بذلك منك ، فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا : ويلك ما منعك منه ؟ قال : لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه ، فو الله ما أدري من زلخني بين كتفي ، فخررت لوجهي ، وذكر حاله ، قال : وسكن الوادي ، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه ، فأخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم هذه الآية : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } أي : من عدوكم . وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذه الآية كان عبد الرحمن بن عوف جريحاً .

قوله تعالى : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } ، يهانون فيه . والجناح : الإثم ، من جنحت : إذا عدلت عن القصد .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صَوْبها ، والصلاة تارة تكون رباعية ، وتارة ثلاثية كالمغرب ، وتارة ثنائية ، كالصبح وصلاة السفر ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ورجالا وركبانا ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة .

ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة ؛ لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل . قال المنذري في الحواشي : وبه قال عطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد . وإليه ذهب طاوس والضحاك .

وقد حكى أبو عاصم العَبَّادي{[8216]} عن محمد بن نصر المروزي ؛ أنه يرى رَدَّ الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضًا .

وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة ، تومئ بها إيماء ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة ؛ لأنها ذكر الله .

وقال آخرون : تكفي تكبيرة واحدة . فلعله أراد ركعة واحدة ، كما قاله أحمد بن حنبل وأصحابه ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه ، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بُخْت المكي ، حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة{[8217]} فلا يتركها في نفسه ، يعني بالنية ، رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عَيَّاش ، عن شعيب بن دينار ، عنه ، فالله أعلم .

ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة العصر ، قيل : والظهر ، فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء . وكما قال

بعدها - يوم بني قريظة ، حين جهز إليهم الجيش - : " لا يصلينّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة " ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيلَ المسير ، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق . وأخَّر آخرون منهم العصر ، فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يُعَنِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين{[8218]} وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة ، وبَيَّنا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر ، وإن كان الآخرون معذورين أيضًا ، والحجة هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد{[8219]} من الطائفة الملعونة اليهود . وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف ، فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري ، الذي رواه الشافعي وأهل السنن ، ولكن يشكل على هذا{[8220]} ما حكاه البخاري رحمه الله ، في صحيحه ، حيث قال :

" باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو " : قال الأوزاعي : إن كان تَهَيَّأ الفتحُ ولم يقدروا على الصلاة ، صَلُّوا إيماء ، كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخَّروا الصلاة حتى ينكشف القتال ، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين . فإن لم يقدروا صَلُّوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ، ويؤخرونها حتى يأمنوا . وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة{[8221]} حصن تُسْتر عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال ، فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نُصَلِّ إلا بعد ارتفاع النهار ، فصليناها ونحن مع أبي موسى ، فَفُتح لنا ، قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها . {[8222]}

انتهى ما ذكره ، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ، ثم بحديث أمره إياهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم .

ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج{[8223]} بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر{[8224]} غالبا ، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ، ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم .

[ و ]{[8225]} قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق ؛ لأن ذات الرِّقَاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي . وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق ، وموسى بن عقبة ، والواقدي ، ومحمد بن سعد كاتبه ، وخليفة بن خَيَّاط وغيرهم{[8226]} وقال البخاري وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى وما قَدم إلا في خيبر ، والله أعلم . والعجب - كل العجب - أن المُزني ، وأبا يوسف القاضي ، وإبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره ، عليه السلام ، الصلاة يوم الخندق . وهذا غريب جدًّا ، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف ، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب ، والله أعلم .

فقوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } أي : إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف ، وهذه حالة غير الأولى ، فإن تلك قصرها إلى ركعة ، كما دل عليه الحديث ، فرادى ورجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد . وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة ، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك ، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } فبعده تفوت هذه الصفة ، فإنه استدلال ضعيف ، ويُرَدُّ عليه مثل قول مانعي الزكاة ، الذين احتجوا بقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [ التوبة : 103 ] قالوا : فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، بل نخرجها نحن بأيدينا{[8227]} على من نراه ، ولا ندفعها إلى من صلاته ، أي : دعاؤه ، سكن لنا ، ومع هذا ردَّ عليهم الصحابة وأبَوْا عليهم هذا الاستدلال ، وأجبروهم على أداء الزكاة ، وقاتلوا من منعها منهم .

ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها :

قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، أنبأنا سيف{[8228]} عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظّهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها . قال : فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا . وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } إلى قوله : { أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } ]{[8229]} فنزلت صلاة الخوف .

وهذا سياق غريب جدا{[8230]} ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزُّرَقي ، واسمه زيد بن الصامت ، رضي الله عنه ، قال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : لقد{[8231]} كانوا على حال لو أصبنا غُرَّتَهم . ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم . قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } قال : فحضرت ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح ، [ قال ]{[8232]} فصفنا{[8233]} خلفه صفين ، قال : ثم ركع فركعنا جميعا ، ثم رفع فرفعنا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ، ثم انصرف . قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة بعسفان ، ومرة بأرض بني سليم .

ثم رواه أحمد ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن منصور ، به نحوه . وهكذا رواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن جرير بن عبد الحميد ، والنسائي من حديث شعبة وعبد العزيز بن عبد الصمد ، كلهم عن منصور ، به{[8234]} .

وهذا إسناد صحيح ، وله شواهد كثيرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال : حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح ، حدثنا محمد بن حرب ، عن الزُّبيدي ، عن الزُّهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه ، فكبر وكبروا معه ، وركع وركع ناس منهم ، ثم سجد وسجدوا معه ، ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا ، وحرسوا إخوانهم ، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه ، والناس كلهم في الصلاة ، ولكن يحرس بعضهم بعضًا{[8235]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليَشْكُري : أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة : أي يوم أنزل ؟ أو : أي يوم هو ؟ فقال جابر : انطلقنا نتلقى عِيرَ قريش آتية من الشام ، حتى إذا كنا بنخل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد . قال : " نعم " ، قال : هل تخافني ؟ قال : " لا " . قال : فما{[8236]} يمنعك مني ؟ قال : " الله يمنعني منك " . قال : فَسلَّ السيف ثم تهدده وأوعده ، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح ، ثم نودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم . فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، والقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج{[8237]} حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سليمان بن قيس اليَشْكُري ، عن جابر بن عبد الله قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خَصَفَة{[8238]} فجاء رجل منهم يقال له : " غورث بن الحارث " حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال : من يمنعك مني ؟ قال : " الله " ، فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ومن يمنعك مني " ؟ قال : كن خير آخذ . قال : " أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ " قال : لا ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله ، فأتى قومه فقال : جئتكم{[8239]} من عند خير الناس . فلما حضرت الصلاة صلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فكان الناس طائفتين : طائفة بإزاء العدو ، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فصلى بالطائفة{[8240]} الذين معه ركعتين ، وانصرفوا ، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم . وانصرف الذين بإزاء عدوهم فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين .

تفرد به من هذا الوجه{[8241]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنَان ، حدثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم ، حدثنا المسعودي ، عن يزيد الفقير قال : سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر : أقصرهما ؟ قال : الركعتان في السفر تمام ، إنما القصر واحدة عند القتال ، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذْ أقيمت الصلاة ، فقام رسول الله صلى فصف طائفة ، وطائفة وجهها قِبَل العدو ، فصلَّى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا ، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم ، وسلم الذين خلفه ، وسلم أولئك ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وللقوم ركعة ركعة ، ثم قرأ : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ }{[8242]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صفٌّ بين يديه ، وصفٌّ خلفه ، فصلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم ، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة .

ورواه النسائي من حديث شعبة ، ولهذا الحديث طرق عن جابر{[8243]} وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر{[8244]} وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمساند .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيْم بن حمَّاد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } قال : هي صلاة الخوف ، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة . وقد روى هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طريق معمر ، به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة ، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في سرد طُرُقه وألفاظه ، وكذا ابن جرير ، ولنحرره في كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وبه الثقة .

وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف ، فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية ، وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } أي : بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }


[8216]:في ر: "العادي".
[8217]:في أ: "التكبير".
[8218]:صحيح البخاري برقم (946) وصحيح مسلم برقم (1770) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[8219]:في ر: "للعهود".
[8220]:في د: "يشكل عليه".
[8221]:في د: "مناهزة".
[8222]:ذكره البخاري تعليقا (2/434).
[8223]:في أ: "أن يقول".
[8224]:في أ: "شهر".
[8225]:زيادة من د.
[8226]:انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/203) والمغازي للواقدي (1/335) والطبقات الكبرى لابن سعد (2/61).
[8227]:في ر: "من أيدينا".
[8228]:في أ: "سفيان".
[8229]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآيتين".
[8230]:تفسير الطبري (9/126).
[8231]:في أ: "قد".
[8232]:زيادة من أ.
[8233]:في أ: "فصففنا".
[8234]:المسند (4/59، 60) وسنن أبي داود برقم (1236) وسنن سعيد بن منصور برقم (686) وسن النسائي (3/176).
[8235]:صحيح البخاري برقم (944).
[8236]:في أ: "فمن".
[8237]:في ر: "شريح".
[8238]:في ر: "حفصة".
[8239]:في أ: "جئتك".
[8240]:في أ: "الطائفتين".
[8241]:المسند (3/390) وعلق البخاري قطعة منه في صحيحه (7/476) وقد رواه من غير هذا الوجه برقم (4135) فرواه من طريق الزهري عن سنان بن أبي سنان عن جابر بنحوه، ورواه من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بنحوه.
[8242]:ورواه ابن أبي شيبة مختصرا (2/463) من طريق وكيع عن المسعودي به.
[8243]:المسند (3/298) وسنن النسائي (3/174).
[8244]:رواه مسلم برقم (840) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر رضي الله عنه.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

{ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لفضل الجماعة ، وعامة الفقهاء على أنه تعالى علم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليأتم به الأئمة بعده فإنهم نواب عنه فيكون حضورهم كحضوره . { فلتقم طائفة منهم معك } فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك يصلون وتقوم الطائفة الأخرى تجاه العدو .

{ وليأخذوا أسلحتهم } أي المصلون حزما . وقيل الضمير للطائفة الأخرى ، وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم . { فإذا سجدوا } يعني المصلين . { فليكونوا } أي غير المصلين . { من ورائكم } يحرسونكم يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه ، فغلب المخاطب على الغالب . { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } لاشتغالهم بالحراسة . { فليصلوا معك } ظاهره يدل على أن الإمام يصلي مرتين بكل طائفة مرة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل ، وإن أريد به أن يصلي بكل ركعة إن كانت الصلاة ركعتين فكيفيته أن يصلي بالأولى ركعة وينتظر قائما حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى وجه العدو ، وتأتي الأخرى فيتم بهم الركعة الثانية . ثم ينتظر قاعدا حتى يتموا صلاتهم ويسلموا بهم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : يصلي بالأولى ركعة ثم تذهب هذه وتقف بإزاء العدو وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة ، ويتم صلاته ثم تعود إلى وجه العدو ، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة الثانية بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تعود وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها . { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } جعل الحذر آلة يتحصن بها المغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ ونظيره قوله تعالى : { والذين تبؤووا الدار والإيمان } { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيشدون عليكم شدة واحدة ، وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح . { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض ، وهذا مما يؤيد أن الأمر بالأخذ للوجوب دون الاستحباب . { وخذوا حذركم } أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو . { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } وعد للمؤمنين بالنصر على الكفار بعد الأمر بالحزم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم ، بل لأن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبر فيتوكلوا على الله سبحانه وتعالى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } هذه صفة صلاة الخوف في الجماعة لقوله : { فأقمت لهم الصلاة } .

واتّفق العلماء على أنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف . وأكثر الآثار تدلّ على أنّ مشروعيتها كانت في غزوة ذات الرّقَاع بموضع يقال له : نَخلة بين عسفان وضجنان من نجد ، حين لقوا جموع غطفان : محارب وأنمار وثعلبة . وكانت بين سنة ستّ وسنة سبع من الهجرة ، وأنّ أوّل صَلاة صلّيت بها هي صلاة العصر ، وأنّ سببها أنّ المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا : هذه الصلاة فرصة لنا لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غِرّة ، فأنبأ الله بذلك نبيّه صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية . غير أنّ الله تعالى صدّر حكم الصلاة بقوله : { وإذا كنت فيهم } فاقتضى ببادىء الرأي أنّ صلاة الخوف لا تقع على هذه الصفة إلاّ إذا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي خصوصية لإقامته . وبهذا قال إسماعيل بن عُلية ، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة في أحد أقواله ، وعلّلوا الخصوصية بأنّها لِحرص الناس على فضل الجماعة مع الرسول ، بخلاف غيره من الأيّمة ، فيمكن أن تأتمّ كلّ طائفة بإمام . وهذا قول ضعيف : لمخالفته فعل الصحابة ، ولأنّ مقصد شرع الجماعة هو اجتماع المسلمين في الموطن الواحد ، فيؤخذ بهذا المقصد بقدر الإمكان . على أنّ أبا يوسف لا يرى دلالة مفهوم المخالفة فلا تدلّ الآية على الاختصاص بإمامة الرسول ، ولذلك جزم جمهور العلماء بأنّ هذه الآية شرعت صلاة الخوف للمسلمين أبداً . ومحمل هذا الشرط عندهم جار على غالب أحوالهم يومئذٍ من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لغزواتهم وسراياهم إلاّ للضرورة ، كما في الحديث " لولا أنّ قوماً لا يتخلّفون بعدي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلّفت عن سريّة سارت في سبيل الله " فليس المراد الاحترازَ عن كون غيره فيهم ولكن التنويهَ بكون النبي فيهم . وإذ قد كان الأمراء قائمين مقامه في الغزوات فالذي رخّص الله للملسمين معه يرخّصه لهم مع أمرائه ، وهذا كقوله : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] .

وفي نظم الآية إيجاز بديع فإنّه لمّا قال : « فلتقم طائفة منهم معك » علم أنّ ثمة طائفة أخرى ، فالضمير في قوله : { وليأخذوا أسلحتهم } للطائفة باعتبار أفرادها ، وكذلك ضمير قوله : { فإذا سجدوا } للطائفة التي مع النبي ، لأن المعية معية الصلاة ، وقد قال : { فإذا سجدوا } . وضمير قوله : { فليكونوا } للطائفة الأخرى المفهومة من المقابلة ، لظهور أنّ الجواب وهو { فليكونوا من ورائكم } متعيّن لفعل الطائفة المواجهة العدوّ .

وقوله : { ولتأت طائفة أخرى } هذه هي المقابلة لقوله : { فلتقم طائفة منهم معك } .

وقد أجملت الآية ما تصنعه كلّ طائفة في بقية الصلاة . ولكنّها أشارت إلى أنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم واحدة لأنّه قال : { فليصلوا معك } . فجعلهم تابعين لصلاته ، وذلك مؤذن بأنّ صلاته واحدة ، ولو كان يصلّي بكل طائفة صلاة مستقلّة لقال تعالى فلتصلّ بهم .

وبهذا يبطل قول الحسن البصري : بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين بكلّ طائفة ، لأنّه يصير متمّا للصلاة غير مقصّر ، أو يكون صلّى بإحدى الطائفتين الصلاة المفروضة وبالطائفة الثانية صلاة : نافلة له ، فريضة للمؤمنين ، إلاّ أن يلتزم الحسن ذلك . ويرى جواز ائتمام المفترض بالمتنفّل . ويظهر أنّ ذلك الائتمام لا يصحّ ، وإن لم يكن في السنّة دليل على بطلانه .

وذهب جمهور العلماء إلى أنّ الإمام يصلّي بكلّ طائفة ركعة ، وإنّما اختلفوا في كيفية تقسيم الصلاة : بالنسبة للمأمومين . والقول الفصل في ذلك هو ما رواه مالك في « الموطأ » ، عن سهل بن أبي حثمة : إنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، فصفّت طائفة معه وطائفة وِجاه العدوّ ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم قام ، وأتمّوا ركعة لأنفسهم ، ثم انصرفوا فوقفوا وِجاه العدوّ ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت له ، ثم سلّم ، ثم قضوا الركعة التي فاتتهم وسلُّموا وهذه الصفة أوفق بلفظ الآية ، والروايات غيرُ هذه كثيرة .

والطائفة : الجماعة من الناس ذات الكثرة . والحقّ أنّها لا تطلق على الواحد والاثنين ، وإن قال بذلك بعض المفسّرين من السلف . وقد تزيد على الألف كما في قوله تعالى : { على طائفتين مِن قبْلِنا } [ الأنعام : 156 ] . وأصلها منقولة من طائفة الشيء وهي الجزء منه .

وقوله : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } استُعمل الأخذ في حقيقته ومجازه : لأنّ أخذ الحِذر مجاز ، إذ حقيقة الأخذ التناول ، وهو مجاز في التلبّس بالشيء والثبات عليه . وأخذُ الأسلحة حقيقة ، ونظيره قوله تعالى : { والذين تبوّأوا الدار والإيمانَ من قبلهم } [ الحشر : 9 ] ، فإنّ تَبَوّأ الإيمانِ الدخول فيه والاتّصافُ به بعد الخروج من الكفر . وجاء بصيغة الأمر دون أن يقول : ولا جناح عليكم أن تأخذوا أسلحتكم ، لأنّ أخذ السلاح فيه مصلحة شرعية .

وقوله : { ود الذين كفروا } الخ ، ودّهم هذا معروف إذ هو شأن كلّ محارب ، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية ، إنّما المقصود أنّهم ودّوا ودّا مستقرباً عندهم ، لظنّهم أنّ اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلاً من المشركين لحقيقة الدين ، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم ، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلاً يكونوا عند ظنّ المشركين ، وليعوّدهم بالأخذ بالحزم في كلّ الأمور ، وليريهم أنّ صلاح الدين والدنيا صنوان .

والأسلحة جمع سلاح ، وهو اسم جنس لآلة الحرب كلّها من الحديد ، وهي السيف والرمح والنبل والحَرْبَة وليس الدرع ولا الخُوذَة ولا التُّرس بسلاح . وهو يذكّر ويؤنث . والتذكير أفصح ، ولذلك جمعوه على أسلحة وهو من زِنات جمع المذكّر .

والأمتعة جمع متاع وهو كلّ ما ينتفع به من عروض وأثاث ، ويدخل في ذلك ما له عون في الحرب كالسروج ولامة الحرب كالدروع والخُوذات . { فيميلون } مفرّع عن قوله : { لو تغفلون } » الخ ، وهو محلّ الودّ ، أي ودّوا غفلتكم ليميلوا عليكم .

والميل : العدول عن الوسط إلى الطرف ، ويطلق على العدول عن شيء كان معه إلى شيء آخر ، كما هنا ، أي فيعدلون عن مُعسكرهم إلى جيشكم . ولمّا كان المقصود من الميل هنا الكَرُّ والشدُّ ، عُدّي ب ( على ) ، أي فيشدّون عليكم في حال غفلتكم .

وانتصب ( مَيلةً ) على المفعولية المطلقة لبيان العدد ، أي شدّة مفردة . واستعملت صيغة المرّة هنا كناية عن القوّة والشدّة ، وذلك أنّ الفعل الشديد القويّ يأتي بالغرض منه سريعاً دون معاودة علاج ، فلا يتكرّر الفعل لتحصيل الغرض ، وأكّد معنى المرّة المستفاد من صيغة فعلة بقوله : { واحدة } تنبيهاً على قصد معنى الكناية لئلاّ يتوهّم أنّ المصدر لمجرّد التأكيد لقوله : { فيميلون } .

وقوله : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر } الخ رخصة لهم في وضع الأسلحة عند المشقّة ، وقد صار ما هو أكمل في أداء الصلاة رخصةً هنا ، لأنّ الأمور بمقاصدها وما يحصل عنها من المصالح والمفاسد ، ولذلك قيّد الرخصة مع أخذ الحذر . وسبب الرخصة أنّ في المطر شاغلاً للفريقين كليهما ، وأمّا المرض فموجب للرخصة لخصوص المريض .

وقوله : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } تذييل لتشجيع المسلمين ؛ لأنّه لمّا كرّر الأمر بأخذ السلاح والحَذر ، خيف أن تثور في نفوس المسلمين مخافة من العدوّ من شدّة التحذير منه ، فعقّب ذلك بأنّ الله أعدّ لهم عذاباً مهيناً ، وهو عذاب الهزيمة والقتل والأسر ، كالذي في قوله : { قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم } [ التوبة : 14 ] ، فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلاّ لتحقيق أسباب ما أعدّ الله لهم ، لأنّ الله إذا أراد أمراً هيَّأ أسبابه . وفيه تعليم المسلمين أن يطلبوا المسبّبات من أسبابها ، أي إن أخذتم حِذركم أمِنتم من عدوّكم .