الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة }[ النساء :102 ] .

قال جمهورُ الأُمَّة : الآية خطَابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة ، وكذلك جمهورُ العلماء على أنَّ صلاة الخَوْف تصلى في الحَضَر ، إذا نزَلَ الخَوْف ، قال الطبريُّ : { فَأَقَمْتَ لَهُمُ } معناه : حُدُودَهَا وهَيئَتَهَا .

وقوله تعالى : { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } أمر بالانقسام ، أي : وسائرهم وِجَاه العَدُوِّ ، ومعظم الرواياتِ والأحاديثِ على أنَّ صلاةَ الخَوْف إنما نزلَتِ الرخْصَةُ فيها في غَزْوة ذاتِ الرِّقَاعِ ، واختلف من المأمورُ بأخْذ الأسلحَةِ هنا ، فقيل : الطائفة المصلِّية ، وقيل : بل الحَارِسة .

قال ( ع ) : ولفظ الآية يتناوَلُ الكلَّ ، ولكن سِلاَحُ المصلِّين ما خَفَّ ، قُلْتُ : ومن المعلوم أنه إذا كانَتِ الطائفةُ المصلِّيةُ هي المأمورَةَ بِأخْذِ السِّلاحِ ، فالحارسَةُ من باب أحرى ، واختلفت الآثارُ في هَيْئَة صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاةَ الخَوْف ، وبِحَسَبِ ذلك ، اختلف الفقَهَاء ، فروى ( يزيدُ بْنُ رُومَانَ ، عن صالح بنِ خَوَّاتٍ ، عن سهلِ بْنِ أبي حَثْمَةَ ، أنَّهُ صلى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعَ ، فَصُفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ ، وَطَائِفَةٌ وجَاهَ العَدُوِّ ، وجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأخرى ، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلاَتِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِساً ، وأتَمُّوا لأنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ ) ، وروى القاسمُ بْنُ محمَّدٍ ، عن صالحِ بْنِ خَوَّاتٍ ، عن سَهْلٍ هذا الحديثَ بعينه ، إلا أنَّهُ رُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى بالطائفةِ الأخيرةِ ركْعَةً سلَّم ، ثم قضَتْ بعد سَلاَمِهِ ، وبحديثِ القاسمِ بنِ محمَّد أخَذَ مالكٌ ، وإليه رجَعَ بَعْدَ أنْ كان أولاً يميلُ إلى روايةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ ، وروى عبْدُ الرزَّاق عن مجاهدٍ ، قال : " لَمْ يصلِّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاَةَ الخَوْفِ إلاَّ مرَّتَيْنِ : مرَّةً بذاتِ الرِّقَاعِ مِنْ أرض بني سليمٍ ، ومرةً بعُسْفَانَ ، والمشركُونَ بِضُجْنَانَ بينهم وبَيْنَ القِبْلَةِ " .

قال ( ع ) : وظاهرُ اختلاف الرِّوَايَاتِ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقتضي أنَّه صلى صلاةَ الخَوْف في غير هَذيْن الموطِنَيْنِ ، وقد ذكر ابنُ عبَّاس ، أنه كَانَ في غَزْوة ذِي قَرَدٍ صلاةَ خَوْفٍ .

وقوله تعالى : { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ } ، المعنى : فإذا سَجَدوا مَعكَ الركعةَ الأولى ، فلْيَنْصَرِفُوا ، هذا على بعض الهيئات المرويَّة ، وقيل : المعنى فإذا سَجَدوا ركْعةَ القضاءِ ، وهذا على رواية ابنِ أبي حَثْمَةَ ، والضميرُ في قوله : { فَلْيَكُونُواْ } ، يحتملُ أنْ يكون لِلَّذِينَ سَجَدُوا ، ويحتمل أن يكون للطائفةِ القائِمَةِ أولاً بإزاء العَدُوِّ ، ويجيء الكلامُ وَصَاةً في حال الحَذَرِ والحَرْب .

وقوله تعالى : { وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ } ، إخبارٌ عن مُعْتَقَدِ القومِ ، وتحذيرٌ من الغَفْلةِ ، لَئِلاَّ ينالَ العَدُوُّ أمَلَهُ ، وأسْلِحَةٌ : جمعُ سلاحٍ ، وفي قوله تعالى : { مَّيْلَةً واحدة } مبالغةُ ، أي : مستأصِلَةً لا يُحْتَاجُ معها إلى ثانية .

وقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ . . . } ، ترخيصٌ .

قال ابنُ عَبَّاس : نزلَتْ بسبب عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ ، كان مريضاً ، فوضع سلاحَهُ ، فعنَّفه بعْضُ النَّاس .

قال ( ع ) : كأنهم تَلَقَّوُا الأمر بأخْذ السِّلاحِ على الوُجُوبِ ، فرخَّص اللَّه تعالى في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ ، وينقاسُ عليهما كُلُّ عذرٍ ، ثم قوى سبحانه نُفُوسَ المؤمنِينَ بقوله : { إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } .