السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

{ وإذا كنت } أي : يا محمد حاضراً { فيهم } أي : وأنتم تخافون العدوّ { فأقمت لهم الصلاة } تمسك بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعامّة الفقهاء على أنه تعالى علم نبيه صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليقتدي به الأئمة بعده فإنهم نوّاب عنه فيكون حضورهم كحضوره .

روي أنّ المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعاً ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي صلاة العصر فإذا قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف وإنّ الله يقول : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } فعلمه صلاة الخوف وهي أنواع :

الأوّل : إذا كان العدو في جهة القبلة وسائر والمسلمون كثيرون فيصلي بهم الإمام ثم يسجد بصف أوّل ويحرس صف ثانٍ ، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه بعد تقدّمه وتأخر الأوّل بلا كثرة أفعال في الركعة الثانية ، وحرس الآخرون فإذا جلس للتشهد جلس الآخرون وتشهد وسلم بالجميع ، روى هذا النوع مسلم ، وقد صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وهي قرية على مرحلتين من مكة بقرب خليص سميت بذلك لعسف السيول فيها وجاز عكس هذه الكيفية .

والنوع الثاني : إذا كان العدو في غير جهة القبلة أو فيها ، وثم ساتر ، فيصلي الإمام بهم ركعتين مرّتين كلّ مرة بفرقة كما قال تعالى : { فلتقم طائفة منهم معك } أي : وتتأخر طائفة { وليأخذوا } أي : الطائفة التي قامت معك { أسلحتهم } معهم { فإذا سجدوا } أي : صلوا { فليكونوا } أي : هذه الطائفة الأخرى { من ورائكم } يحرسون إلى أن تقضوا الصلاة وتذهب هذه الطائفة الأخرى تحرس { ولتأت طائفة أخرى } تحرس { لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } معهم إلى أن يقضوا الصلاة «وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ببطن نخل » ، رواه الشيخان وهذه الصلاة وإن جازت في غير الخوف سنت فيه عند كثرة المسلمين ، وقلة عدوّهم ، وخوف هجومهم عليهم في الصلاة .

فإن قيل : أخذ الحذر وهو الخوف مع التحفظ مجاز ، وأخذ الأسلحة حقيقة ، فلا يجمع بينهما أجيب : بأنّ أخذ الحذر حقيقة أيضاً تنزيلاً له منزلة الآلة على سبيل الاستعارة بالكناية ، فالجمع إنما هو بين حقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقة ، والمجاز جائز كما عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه .

فإن قيل : لم ذكر أخذ الحذر في الثانية دون الأولى ؟ أجيب : بأنّ الكفار يتنبهون للثانية ما لا يتنبهون للأولى .

والنوع الثالث : صلاة ذات الرقاع رواها الشيخان أيضاً ، وهي والعدوّ في غير جهة القبلة أو فيها ، وثم ساتر أن تقف فرقة في وجه العدوّ ، ويصلي الإمام بفرقة ركعة ، ثم عند قيامه للثانية تفارقه وتتم بقية صلاتها ، وتقف في وجه العدوّ ، وتجيء تلك والإمام ينتظر لها فيصلي بها ثانية ، فإذا جلس للتشهد قامت وأتت بركعة وتلحقه ، ويسلم بها ويصلي الثلاثية بفرقة ركعتين وبالثانية ركعة ، وهو أفضل من عكسه ويصلي الرباعية بكل فرقة ركعتين .

وبقي نوع رابع : تقدّم عند قوله تعالى : { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً } ( البقرة ، 239 ) .

{ ود } أي : تمنى { الذين كفروا لو تغفلون } إذا قمتم إلى الصلاة { عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } بأن يحملوا عليكم فيأخذوكم وهذه علة الأمر بأخذ السلاح .

ولما كان الله تعالى قد تفضل على هذه الأمة ورفع عنها الحرج وكان المطر والمرض يشقان قال : { ولا جناح } أي : حرج { عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } ؛ لأنّ حمل السلاح في المطر يكون سبباً لبله ، وفي المرض يزيد حملها المريض وهناً ، وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد قولي الشافعي ، والثاني : أنه سنة ورجح بشرط أن لا يؤذي ولا يحصل بترك حمله خطر ولا يمنع صحة الصلاة ، فإن أذى كرمح وسط الصف كره حمله بل إن غلب على ظنه ذلك حرم ، وإن حصل بتركه خطر وجب حمله ويمكن حمل الآية على هذه الحالة وكحمله وضعه بين يديه إن سهل مدّ يده إليه بل يتعين إن منع حمله الصحة من نجس أو غيره { وخذوا حذركم } من العدوّ أي : احترزوا منه ما استطعتم كيلا يهجم عليكم .

فإن قيل : كيف طابق الأمر بالحذر قوله تعالى : { إنّ الله أعدّ للكافرين عذاباً } أي : قتلاً وأسراً ونهباً في الدنيا { مهيناً } أي : ذا إهانة ؟ أجيب : بأنّ الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبته واغتراره فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أن الله تعالى يهين عدوّهم ويخذله وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ويعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك وإنما هو تعبد من الله تعالى كما قال تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ( البقرة ، 195 ) .

ولما أعلمهم بما يفعلون في الصلاة حال الخوف اتبع ذلك ما يفعلون بعدها لئلا يظن أنها تغني عن مجرّد الذكر فقال مشيراً إلى تعقيبه .