فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

قوله : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من أهل الأمر حكمه ، كما هو معروف في الأصول ، ومثله قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] ونحوه ، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء ، وشذ أبو يوسف ، وإسماعيل بن علية ، فقالا : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالا : ولا يلحق غيره به لما له صلى الله عليه وسلم من المزية العظمى ، وهذا مدفوع ، فقد أمرنا الله باتباع رسوله ، والتأسي به ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلي » والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن ، وقد صلوها بعد موته في غير مرّة ، كما ذلك معروف . ومعنى : { أقمت لَهُمُ الصلاة } أردت الإقامة ، كقوله : { وَإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } [ المائدة : 6 ] ، وقوله : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] قوله : { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منْهُمْ معَكَ } يعني : بعد أن تجعلهم طائفتين ، طائفة تقف بإزاء العدّو ، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة : { وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ } أي : الطائفة التي تصلي معه . وقيل : الضمير راجع إلى الطائفة التي بإزاء العدّو ، والأوّل أظهر ؛ لأن الطائفة القائمة بإزاء العدّو لا بدّ أن تكون قائمة بأسلحتها ، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة ؛ لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة ، فأمره الله بأن يكون آخذاً لسلاحه أي غير واضع له . وليس المراد : الأخذ باليد ، بل المراد : أن يكونوا حاملين لسلاحهم ؛ ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه ، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدّوهم من إمكان فرصته فيهم . وقد قال بإرجاع الضمير من قوله : { وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ } إلى الطائفة القائمة بإزاء العدّو ابن عباس قال : لأن المصلية لا تحارب ، وقال غيره : إن الضمير راجع إلى المصلية ، وجوّز الزجاج ، والنحاس أن يكون ذلك أمراً للطائفتين جميعاً ، لأنه أرهب للعدّو . وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملاً للأمر على الوجوب . وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح ، وأن ذلك يبطل الصلاة ، وهو مدفوع بما في هذه الآية ، وبما في الأحاديث الصحيحة .

قوله : { فَإِذَا سَجَدُوا } أي : القائمون في الصلاة { فَلْيَكُونُوا } أي : الطائفة القائمة بإزاء العدّو { مِن وَرَائِكُمْ } أي : من وراء المصلين . ويحتمل أن يكون المعنى : فإذا سجد المصلون معه ، أي : أتموا الركعة تعبيراً بالسجود عن جميع الركعة ، أو عن جميع الصلاة { فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ } أي : فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدوّ للحراسة { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى } وهي : القائمة في مقابلة العدو التي لم تصلّ { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى { وَلْيَأْخُذُوا } أي : هذه الطائفة الأخرى { حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح . قيل : وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل ، وأما في المرة الأولى ، فربما يظنونهم قائمين للحرب ، وقيل : لأن العدوّ لا يؤخر قصده عن هذا الوقت ، لأنه آخر الصلاة ، والسلاح : ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب ، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين ؟ وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة ، وصفات متعددة ، وكلها صحيحة مجزئة من فعل واحدة منها ، فقد فعل ما أمر به ، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها ، فقد أبعد عن الصواب ، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى ، وفي سائر مؤلفاتنا .

قوله : { وَدَّ الذين كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ ميْلَةً واحدة } هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر ، وأخذ السلاح ، أي : ودّوا غفلتكم عن أخذ السلاح ، وعن الحذر ؛ ليصلوا إلى مقصودهم ، وينالوا فرصتهم ، فيشدّون عليكم شدّة واحدة . والأمتعة : ما يتمتع به في الحرب ، ومنه الزاد والراحلة . قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى من مطَرٍ أَوْ كُنتُم مرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ } رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من المطر ، وفي حال المرض ؛ لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح ، ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدّو على غرّة ، وهم غافلون .

/خ102