غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

102

التفسير : قال أبو يوسف والحسن بن زياد : صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجوز لغيره لقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } ولأن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل إلاّ أنا جوّزنا ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لفضيلة الصلاة خلفه فينبغي لغيره على المنع . وجمهور الفقهاء على أنها عامة لأن أئمة الأمة نواب عنه في كل عصر ؛ ألا ترى أن قوله :{ خذ من أموالهم صدقة }[ التوبة :103 ] لم يوجب كون الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصاً به دون أئمة أمته ؟ وذهب المزني إلى نسخ صلاة الخوف محتجاً بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في حرب الخندق ، وأجيب بأن ذلك قبل نزول الآية . عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلقي المشركين بعسفان ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه قال بعضهم لبعض : كأن هذا فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم . فقال قائل منهم : فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم فاستعدّوا حتى تغيروا عليهم فيها فأنزل الله عز وجل على نبيه : { وإذا كنت فيهم } إلى آخر الآية أما شرح صلاة الخوف فهو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بإحداهما ركعة واحدة ، ثم إذا فرغوا من الركعة سلموا منها ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم . وهذا مذهب من يرى صلاة الخوف ركعة فللإمام ركعتان وللقوم ركعة ، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد . وقال الحسن البصري : إن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدّو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل .

وليس في هذه الصلاة إلاّ اقتداء مفترض بمتنفل ، فإن الصلاة الثانية نافلة للإمام لا محالة . وفي جواز ذلك اختلاف بين العلماء . وقال الشافعي إن كان العدو في جهة القبلة صلى الإمام بجميع العسكر إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى ، فإذا حان وقت السجدة حرست فرقة إما صف أو فرقة من صف إلى أن يفرغ الإمام وغير الحارسة من السجدتين ، فإذا فرغ الإمام منهما سجدت الفرقة الحارسة ولحقت به حيث أمكنها ، وإذا سجد الإمام الركعة الثانية حرست فرقة إما الفرقة الحارسة في الركعة الأولى أو الفرقة الأخرى وهذه أولى . فإذا فرغ الإمام من السجود سجدت الحارسة ولحقت بالإمام في التشهد ليسلم بهم . وليس في هذه الصلاة إلاّ التخلف عن الإمام بأركان السجدتين والجلسة بينهما ، واحتمل لحاجة الخوف وظهور العذر وبمثله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وأما إن لم يكن العدوّ في وجه القبلة أو كانوا بحيث يمنعهم شيء من أبصار المسلمين صلى الإمام في الثنائية كالصبح أو الرباعية المقصورة بكل فرقة ركعة ، وذلك أن ينحاز الإمام بفرقة إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو فيصلي بهم ركعة ، فإذا قام إلى الثانية انفردوا بها وسلموا وأخذوا مكان ، إخوانهم في الصف ، وانحاز الصف المقاتل إلى الإمام وهو ينتظر لهم واقتدوا به في الثانية ، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية ولحقوا به قبل السلام وسلم بهم ، وهذه صلاة ذات الرقاع رواه أبو داود والنسائي عن صالح عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو حنيفة : ويروى عن ابن عمر وابن مسعود أن الطائفة الأولى يصلي بهم الإمام ركعة ويعودون إلى وجه العدو تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة . والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة فهي في حكم من خلف الإمام ، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته . ولا خلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى بهذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصالح ، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أيّ هذه الأقسام . فقال الواحدي : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية كما هو مذهب الشافعي . وأما عند أبي حنيفة فالطائفة الثانية تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها . وأيضاً قوله : { فليصلوا معك } ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام .

قال أصحاب أبي حنيفة : { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة . أجاب الواحدي بأن هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة ، لكن السجود للأولى والكون من الوراء الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية ، أو معنى سجدوا صلوا وحينئذٍ لا يبقى إشكال وأيضاً الذي اختاره الشافعي أحوط لأمر الحرب فإنها أخف على الطائفتين جميعا والحراسة خارج الصلاة أهون وليس فيها ما في غيرها من زيادة الذهاب والرجوع وكثرة الأفعال والاستدبار ، وليس فيها إلاّ الانفراد عن الإمام في الركعة الثانية وذلك جائز على الأصح في الأمن أيضاً ، وإلاّ انتظار الإمام بالطائفة الثانية مرتين وإن كانت الصلاة مغرباً فيصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ويجوز العكس . وإن كانت رباعية فيصلي بكل طائفة ركعتين ، ويجوز أن يفرقهم أربع فرق إن مست الحاجة إليه بأن لا يكفي نصف المسلمين لعدوهم . واعلم أن الصلاة على الوجه المشروع ليست عزيمة بل لو صلى الإمام بطائفة وأمر غيره فيصلي بالآخرين أو صلى بعضهم أو كلهم منفردين جاز ، لكن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة ويتنافسون في الاقتداء به فأمره الله تعالى بترتيبهم هكذا لتحوز إحدى الطائفتين فضيلة التكبير معه ، والأخرى فضيلة التسليم معه . فالخطاب في قوله : { وإذا كنت } للنبي صلى الله عليه وسلم أي إذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم { فأقمت لهم الصلاة } فاجعلهم طائفتين : { فلتقم طائفة منهم معك } فصل بهم { وليأخذوا أسلحتهم } فإن كان الضمير لغير المصلين فلا كلام ، وإن كان للمصلين فليأخذوا من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ، ويحتمل أن يكون أمراً للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط . ثم قال للطائفة الثانية : { وليأخذوا حذرهم } فكأنه جعل الحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي . وفيه رحمة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة . وإنما أمر هذه الطائفة بأخذ الحذر والأسلحة جميعاً لأن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين في الصلاة بل يظنونهم قياماً للمحاربة ، وأما في الركعة الثانية فيظهر لهم ذلك من ركوعهم وسجودهم الأولين فربما ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم كما ذكرنا في سبب النزول ، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير { ميلة واحدة } شدة واحدة . ثم رخص لهم في وضع السلاح إذا أصابه بلل المطر فيسود وتفسد حدته وجدته أو يثقل على المرء إذا كان محشواً ، وحين كان الرجل مريضاً فيشق عليه حمل السلاح ولكنه أعاد الأمر بأخذ الحذر لأن الغفلة عن كيد العود لا تجوز بكل حال . قال بعض العلماء أخذ السلاح في صلاة الخوف سنة مؤكدة والأصح أنه واجب لأن ظاهر الأمر للوجوب ، ولأن رفع الجناح عند العذر ينبئ عن وجود الجناح في غير ذلك الوقت لكن الشرط أن لا يحمل سلاحاً فحسب أن أمكنه ، ولا يحمل الرمح إلاّ في طرف الصف .

وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد وفي هذا دليل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً غير غافل عن كيد العدو ، فلا يكون شيء من الروايات الواردة فيها على خلاف نص القرآن وكما أن الآية دلت على وجوب الحذر عن العدو كذلك تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنون ، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء في الجلوس تحت الجدار المائل واجباً . قالت المعتزلة : لو لم يكن العبد قادراً على الفعل والترك ، وعلى جميع وجوه الحذر لم يكن للأمر بالحذر فائدة . والجواب أنا لا ننكر الأسباب لكنا ندعي انتهاء الكل إلى مسببها ولهذا ختم الآية بقوله : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } ليعلموا أنه تعالى رتب على هذا الحذر كون الكفار مخذولين مقهورين وكان كما أخبر .

/خ113