تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

الآية 102

وقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية . اختلف أهل العلم في صلاة الخوف ؛ قال بعض أهل العلم : يجعل الإمام القوم طائفتين ؛ يصلي بالطائفة ( الأولى ){[6429]} ركعة ، وتقوم الطائفة الأخرى مصاف العدو . فإن صلى بهم ركعة يقومون{[6430]} ، ويصلون الركعة الثانية وحدانا . ثم ينصرفون ، ويقومون بإزاء العدو ، وترجع الطائفة التي كانت مصاف العدو . فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ، ثم يسلم بهم الإمام ، فيقومون ، ويقضون الركعة الثانية وحدانا .

ويقولون : لأنه ليس في الآية إتيان الطائفة الأولى وعودها إلى الإمام . كذلك لا يفعل . وقالوا أيضا : إن القيام بعد الفراغ من الصلاة مصاف العدو أطمع وأرجى من القيام في غير الصلاة .

وأما أصحابنا ، رحمهم الله ، فإنهم ذهبوا إلى ما روي من الأخبار : روي عن ابن عمر رضي الله عنه ( أنه قال : ( قال ){[6431]} صلى الله عليه وسلم : " صلاة الخوف " ( البخاري 942 ) فصلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهو العدو . ثم انصرفوا ، وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلم النبي عليه السلام . ثم قضى هؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة ) .

وعنة عبد الله ( أنه قال : ( قال ) {[6432]}صلى الله عليه وسلم " صلاة الخوق " فقاموا صفين ، فقام صف خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وصف مستقبل العدو ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالصف الذي يلونه ركعة ، ثم قاموا ، فذهبوا ، فقاموا مقام أولئك ، واستقبل هؤلاء العدو . وجاء أولئك ، فقاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سلم ، فقاموا يصلون لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ، فذهبوا ، فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو ، وجاء أولئك إلى مقامهم ، فصلوا لأنفسهم ركعتين ، ثم سلموا ) .

وروى ابن عباس وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك . فاتفق على هذه الرواية عن النبي صلى الله عليه ولم ، هؤلاء الجماعة من الصحابة ، رضوان الله تعالى أجمعين : ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وحذيفة رضي الله عنهم كلهم يقولون : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهو العدو ، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة ، وإن واحدا منهم لم يقض بقية صلاته حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته كلها ، وصلى المؤتمون ما بقي عليهم من صلاتهم . وهذا نظر لما عليه المسلمون جميعا في ما سبقهم الإمام ، لا يقضونه حتى يفرغ الإمام من صلاته . ثم يقضون ما فاتهم .

والأخبار التي جاءت بخلاف ذلك تحتمل أن تكون في الوقت الذي كانوا يقضون الفائتة قبل فراغ الإمام من صلاته . ثم نسخ ذلك بما توارثت الأمة القضاء بعد الفراغ ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وليأخذوا أسلحتهم } اختلف فيه ؛ قيل : هم الطائفة التي بإزاء العدو ، يأخذون السلاح ليكونوا أجوب{[6433]} للحرب والقتال ، وقيل : هم الطائفة الذين يصلون ؛ يأخذون السلاح حتى إذا استقبلهم العدو والحرب يقدرون على ذلك ، وقيل : إذا وقع بينهم الحرب فلهم تأخير الصلاة إلى وقت انقطاع الحرب بينهم .

وقال الحسن : ( يصلي الإمام لكل طائفة سجدة ، والسجدة هي اسم التمام ، وهذا جائز في اللغة ) .

لكن عندنا ما ذكرنا من الأخبار عن الصحابة ؛ عن عمر وابن عباس وغيرهما{[6434]} ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، حين قالوا : ( صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الفطر والأضحى ركعتان ، وصلاة الخوف ركعة تمام غير قصر ) . وما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالصف الأول ، ولم يسجد معه الصف الثاني . فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من السجدتين سجدهما أهل الصف الثاني . فهذا يدل على أن الأمر ما وصفنا .

وإن كان العدو مواجهة القبلة فالإمام بالخيار ؛ إن شاء جعل القوم صفين : صفا أمامه بإزاء العدو ، معه يصلي بهم . هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( أنه فعل ){[6435]} بالمسلمين .

روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ، والعدو في القبلة ؛ فصلى بطائفة ركعة ، وجاءت الأخرى ، فصلى بها أخرى .

وإن شاء جعل القوم كلهم خلفه صفين ، فيصلي بهم . فإذا انتهوا إلى السجود سجد الصف /112-ب/ الأول ، والصف الثاني يحرس( من ){[6436]} العدو . فإذا{[6437]} فرغ هؤلاء سجد الآخرون . ثم كذلك يفعل بهم في الثانية . وهذا أيضا روي أنه يختار{[6438]} أيهما شاء .

وقوله تعالى : { فليكونوا من ورائكم } أي لتكونوا مصاف العدو ، تحرسونهم من العدو .

وقوله تعالى : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } يحتمل قوله : { حذرهم } أي يأخذون ما يستترون{[6439]} به ، ( ويحترسون من ){[6440]} العدو من نحو الترس والدرع ( ونحوهما : ويحتمل ){[6441]} قوله{ وأسلحتهم } ما يقاتل به من السلاح ، ويحارب . ويحتمل ما يحصن به من نحو الجبال وغيرها .

وفيه الأمر بتعلم آداب الحرب والقتال وأخذ الأهبة والإعداد ودون أن يكلوا الأمر إلى ذلك . ولكن يكلون الأمر إلى ما وعد الله لهم من النصر بقوله تعالى : { وما النصر إلى من عند الله }( آل عمران : 126والأنفال : 10 ) وبقوله تعالى : { خذوا حذركم } ( النساء : 71 ) وقوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } ( الأنفال : 60 ) وقوله تعالى : { فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } ( النساء : 71 ) وغيرها من الآيات ؛ فيها الدلالة على تعلم آداب الحرب وأخذ{[6442]} الأهبة فيه ، حين أمرهم عز وجل بمجاهدة العدو في غير آية من القرآن .

وقوله تعالى : { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } الآية هذا يعلم بالطبع أن كل أحد يطلب الفرصة على عدوه والغفلة منه ، هذا معروف في طباع الخلق . وقوله تعالى : { عن أسلحتكم } ما يحارب به ، ويقاتل . وقوله تعالى : { وأمتعتكم } ما( يحترس به من ){[6443]} العدو ، ويستتر به منه ؛ أي يطلبون الغفلة عن الأسلحة والأمتعة . وتحتمل الأمتعة ( ما يراد ){[6444]} بها غيرها من الثياب وغيرها .

وقوله تعالى : { ولا جانح عليكم إن كن بكم أدى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم }في الآية دلالة أن الله تعالى لم يرد بقوله : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } ( التوبة : 111 ) بذلها للقتل حين رخص لهم وضع الأسلحة وأخذ الحذر عندما بلوا بالمطر أو المرض لأنه لو كان المراد بشراء الأنفس منهم بذلها للقتل لكان لا يرفع ذلك عندما يخافون على أنفسهم من الهلاك ؛ إذ المرض وخوف الهلاك لا يرفع ذلك في الأحوال كلها إذا كان الأمر بذلك أمرا بالقتل والهلاك .

ألا ترى أن ما وجب عليه الرجم لم يرفع عنه بالمرض الرجم لأن في الرجم هلاكه ، فلما رفع( الله تعالى ){[6445]} عنهم القتال في حال المرض أو في الحال الذي يخاف الهلاك دل أنه لم يرد بشراء الأنفس بذلها للقتل ، ولكن أراد ، والله أعلم ، إظهار دينه{[6446]} ونصر أهل دينه ؟ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما } ؟ ( النساء : 74 ) جعل الثواب والأجر عند الغلبة على عدوه مثل ما جعل عند القتل . ولو كان الأمر بذبك أمرا بالقتل خاصة لا يستوجب الأجر والثواب لغيره دل أنه ما ذكرنا .

ألا ترى أنه قال : { فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا }( التوبة : 111 ) جعل الوعد للقاتل ما جعل للمقتول ؟ هذا كله يدل أن الأمر بذلك ليس على القتل .

وقوله تعالى : { وخذوا حذركم } قد ذكرنا أن الأمر بأخذ الحذر يحتمل وجهين :

أحدهما : فيه الأمر بتعلم آداب الحرب وأسباب القتال ، وألا يكلوا الأمر إلى ذلك خاصة لكن إلى ما وعد لهم من النصر والظفر على عدوهم بعد أخذ الأهبة .

ألا ترى أنه قال : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } الآية ؟ ( الأنفال : 60 ) .

والثاني : يحتمل أن يأمرهم بأخذ ما يدفعون به سلاح العدو عن أنفسهم ، ويقرون من الترس أو الدرع أو البنيان ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } أي أعد لهم من العذاب ما يهونون فيه : نصروا ، أو غلبوا . وأعد لكم من الثواب ما تشرفون ، وتعتزون به : نصرتم ، أو غلبتم : { وما لكم لا تقاتلون } ( النساء : 75 ) .


[6429]:ساقطة من الأصل وم.
[6430]:في الأصل وم: فيقومون.
[6431]:في الأصل وم: قال.
[6432]:في الأصل وم: قال.
[6433]:في الأصل وم: أجيب.
[6434]:في الأصل وم: وغيره.
[6435]:من م، في الأصل: فعلى.
[6436]:ساقطة من الأصل وم.
[6437]:في الأصل وم: فلما.
[6438]:في الأصل وم: فيختار.
[6439]:في الأصل وم: يسترون.
[6440]:في الأصل وم: يحرسون.
[6441]:في الأصل وم: نحوه و.
[6442]:في الأصل وم: وأخذوا.
[6443]:في الأصل وم: يحرس به.
[6444]:في الأصل وم:يريد.
[6445]:ساقطة من الأصل وم.
[6446]:في الأصل وم:دين الله.