فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (102)

{ وإذا كنت فيهم فأقمت الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ( 102 ) }

وقد حكى القرطبي عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه ، ومما يرد هذا ويدفعه الواو في قوله الآتي { وإذا كنتم فيه } وقد تكلف بعض المفسرين فقال : إن الواو زائدة وأن الجواب للشرط المذكور أعني قوله { إن خفتم } هو قوله { فلتقم طائفة } .

وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره وما ورد في معناه ، وعن أمية أنه سأل ابن عمر أرأيت قصر الصلاة في السفر ، إنا لا نجدها في كتاب الله إنما نجد ذكر صلاة الخوف ، فقال : يا ابن أخي إن الله أرسل محمدا ولا نعلم شيئا ، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي .

وعن حارثة أن وهب الخزاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين ، أخرجه الشيخان وغيرهما ، وعن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين ، أخرجه الترمذي وصححه النسائي .

{ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } هذا خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من أهل الأمر حكمه كما هو معروف في الأصول ، ومثله قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } ونحوه ، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء .

وشد أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا : لا تصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم قالا : ولا يلحق غيره به لما له صلى الله عليه وسلم من المزية العظمى .

وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به وقد قال صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي{[534]} ، والصحابة أعرف بمعاني القرآن وقد صلوها بعد موته في غير مرة كما ذلك معروف .

والمعنى إذا كنت يا محمد في أصحابك وشهدت معهم القتال وأردت إقامة الصلاة بهم كقوله { وإذا قمتم إلى الصلاة } وقوله { إذا قرأت القرآن } وقال السمين : الضمير المجرور يعود على الضاربين في الأرض ، وقيل على الخائفين وهما محتملان .

{ فلتقم طائفة منهم معك } يعني أن تجعلهم طائفتين : طائفة تقف بإزاء العدو ، وطائفة تقوم منهم معك إلى الصلاة ، وإنما لم يصرح به لظهوره { وليأخذوا أسلحتهم } أي الطائفة التي تصلي معك ، وقيل الضمير راجع إلى الطائفة التي بإزاء العدو الأول أظهر ، لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو لا بد أن تكون قائمة بأسلحتها ، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة ، فأمره الله بأن يكون آخذا لسلاحه أي غير واضع له .

وليس المراد الأخذ باليد ، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه ، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصة فيهم .

وقد قال بإرجاع الضمير على الطائفة القائمة بإزاء العدو ابن عباس ، قال : لأن المصلية لا تحارب ، وقد قال غيره : إن الضمير راجع إلى المصلية ، وجوز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمرا للطائفتين جميعا لأنه أرهب للعدو .

وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر للأمر على الوجوب ، وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث الصحيحة ، والسلاح ما يقاتل به وجمعه أسلحة ، وهو مذكر وقيل مؤنث باعتبار الشوكة يقال سلاح كحمار وسلح كضلع ، وسلح كصرد ، وسلحان كسلطان ، قاله أبو بكر بن زيد .

{ فإن سجدوا } أي القائمون في الصلاة { فليكونوا } أي الطائفة القائمة بإزاء العدو { من ورائكم } أي من وراء المصلين ، ويحتمل أن يكون المعنى فإذا سجد المصلون معه أي أتموا الركعة تعبيرا بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة فليكونوا من ورائكم أي فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدو للحراسة .

{ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } وهي القائمة في مقابلة العدو التي تصل { فليصلوا معك } على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى { وليأخذوا } أي هذه الطائفة الأخرى { حذرهم } أي ما يتحرزون به من العدو كالدرع ونحوها { وأسلحتهم } زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح ، قيل وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل ، وأما في المرة الأولى فربا يظنونهم قائمين للحرب ، وقيل لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه أخر الصلاة .

ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين ، وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة ، وصفات متعددة وكلها صحيحة مجزية ، من فعل واحدة منها فقد أبعد الصواب ، وقد أوضحنا هذا في شرحنا لبلوغ المرام وفي شرحنا للدرر البهية .

{ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر وأخذ السلاح أي ودوا غفلتكم من أخذ السلاح وعن الحذر إذا قمتم إلى الصلاة ليصلوا إلى مقصودهم وينالوا فرصتهم فيشدون عليكم شدة واحدة ويحملون عليكم حملة واحدة ، والأمتعة ما يتمتع به في الحرب ، ومنه الزاد والراحلة ، والخطاب للفريقين بطريق الالتفات .

{ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من مطر ، وفي حال المرض لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح ، وعن ابن عباس قال : نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحا ، أخرجه البخاري وغيره .

ثم أمرهم بأخذ الحذر فقال { وخذوا حذركم } لئلا يأتيكم العدو على غرة وهم غافلون ، والمعنى راقبوا عدوكم ولا تغفلوا عنه ، أمرهم بالتحفظ والتحرز والاحتياط ، وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد القولين للشافعي ، والثاني أنه سنة ورجحه الشيخان { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } يهانون به أخبر أنه يهين عدوهم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبتهم وإنما هو تعبد من الله .


[534]:المشكاة 1160.