10 - هيأ الله لأهل القرى المتجبرين عذاباً بالغ الشدة ، فاحذروا غضب الله - يا أصحاب العقول الراجحة - الذين اتصفوا بالإيمان . قد أنزل الله إليكم - ذا شرف ومكانة - رسولاً يقرأ عليكم آيات الله مُبَيِّنات لكم الحق من الباطل . ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الضلال إلى نور الهداية ، ومَن يصدِّق بالله ويعمل عملاً صالحاً يدخله جنات تجرى من خلالها الأنهار ، مخلدا فيها أبداً ، قد أحسن الله للمؤمن الصالح رزقاً طيباً .
{ رسولاً } بدل من الذكر ، وقيل : أنزل إليكم قرآناً وأرسل رسولاً . وقيل : مع الرسول ، قيل : الذكر هو الرسول . وقيل : { ذكراً } أي شرفاً . ثم بين ما هو فقال :{ يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا } يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها .
وقوله : { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } قال بعضهم : { رَسُولا } منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة ؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر .
وقال ابن جرير : الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر ، يعني تفسيرًا له ولهذا قال تعالى : { رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } أي في حال كونها بينة واضحة جلية { لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } كقوله تعالى { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ إبراهيم : 1 ] وقال تعالى { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ البقرة : 257 ] أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال : تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] وقوله :
رسولا يعني بالذكر جبريل عليه السلام لكثرة ذكره أو لنزوله بالذكر وهو القرآن أو لأنه مذكور في السموات أو ذا ذكر أي شرف أو محمدا صلى الله عليه وسلم لمواظبته على تلاوة القرآن أو تبليغه وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحا أو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه وأبدل منه رسولا للبيان أو أراد به القرآن و رسولا منصوب بمقدر مثل أرسل أو ذكرا مصدر ورسولا مفعوله أو بدله على أنه بمعنى الرسالة يتلو عليكم آيات الله مبينات حال من اسم الله أو صفة رسولا والمراد ب الذين آمنوا في قوله ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين آمنوا بعد إنزاله أي ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح أو ليخرج من علم أو قدر أنه يؤمن من الظلمات إلى النور من الضلالة إلى الهدى ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون قد أحسن الله له رزقا فيه تعجيب وتعظيم لما رزقوا من الثواب .
وقوله تعالى : { قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً } اختلف الناس في تقدير ذلك ، فقال قوم من المتأولين : المراد بالاسمين القرآن ف «رسول » يعني رسالة ، وذلك موجود في كلام العرب ، وقال آخرون : { رسولاً } نعت أو كالنعت لذكر ، فالمعنى ذكر ذا رسول ، وقيل الرسول : ترجمة عن الذكر كأنه بدل منه ، وقال آخرون : المراد بهما جميعاً محمد وأصحابه ، المعنى : ذا ذكر رسولاً ، وقال بعض حذاق المتأولين الذكر : اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم : واحتج بهذا القاضي ابن الباقلاني في تأويل قوله تعالى : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }{[11173]} [ الأنبياء : 2 ] ، وقال بعض النحاة معنى الآية { ذكراً } بعث { رسولاً } فهو منصوب بإضمار فعل ، وقال أبو علي الفارسي : يجوز أن يكون { رسولاً } معمولاً للمصدر الذي هو الذكر{[11174]} .
قال القاضي أبو محمد : وأبين الأقوال عندي معنى أن يكون الذكر للقرآن والرسول محمد ، والمعنى بعث رسولاً ، لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول ونحا هذا المنحى السدي ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر : «مبيَّنات » بفتح الياء ، وقرأها بكسر الياء ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي والحسن والأعمش وعيسى ، وسائر الآية بين ، والرزق المشار إليه رزق الجنة لدوامه ودروره .
{ رسولا يتلوا عليكم ءايات الله مبينات ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } .
ويجوز أن يكون { رسولاً } مفعولاً لفعل محذوف يدل عليه { أنزل الله } وتقديره : وأرسل إليكم رسولاً ، ويكون حذفه إيجازاً إلاّ أن الوجه السابق أبلغ وأوجز .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم { مبينات } بفتح الياء . وقرأه الباقون بكسرها ومَآل القراءتين واحد .
وجعلت علة إنزال الذكر إخراجَ المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإِيمان والأعمال الصالحات ، نظراً لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماماً بشأنهم .
وليس ذلك بدالّ على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر . وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف .
{ وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رزقا } .
عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيّد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات .
و{ صالحاً } نعت لموصوف محذوف دل عليه { يعمل } أي عملاً صالحاً ، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته إياه في سياق النفي . فالمعنى : ويعمل جميع الصالحات ، أي المأمور بها أمراً جازماً بقرينة استقراء أدلة الشريعة .
وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن .
وجملة { قد أحسن الله له رزقاً } حال من الضمير المنصوب في { ندخله } ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها .
والرزق : كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم ، أي رزقاً عظيماً .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر { ندخله } بنون العظمة . وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { ومن يؤمن بالله } وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات .