الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{رَّسُولٗا يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخۡرِجَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ قَدۡ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ لَهُۥ رِزۡقًا} (11)

قوله : { رَّسُولاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها وإليه ذهب الزجَّاج والفارسي أنه منصوبٌ بالمصدرِ المنونِ قبلَه ؛ لأنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفعلٍ ، كأنه قيل : أن ذَكرَ رسولاً ، والمصدرُ المنوَّنُ عاملٌ كقولِه تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ] وقولِه :

بضَرْبٍ بالسيوفِ رؤوسَ قَوْمٍ *** أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ

الثاني : أنَّه جُعِل نفسُ الذِّكْرِ مبالغةً فأُبْدِل منه . الثالث : أنَّه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الأول تقديرُه : أنزل ذا ذكرٍ رسولاً . الرابع : كذلك ، إلاَّ أنَّ " رسولاً " نعت لذلك المحذوف . الخامس : أنه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الثاني ، أي : ذِكْراً ذِكْرَ رسول . السادس : أَنْ يكونَ " رسولاً " نعتاً ل ذِكْراً على حَذْفِ مضاف ، أي : ذِكْراً ذا رسولٍ ، ف " ذا رسول " نعتٌ لذِكْر . السابع : أَنْ يكونَ " رسولاً " بمعنى رسالة ، فيكونَ " رسولاً " بدلاً صريحاً مِنْ غير تأويل ، أو بياناً عند مَنْ يرى جَرَيانه في النكراتِ كالفارسيِّ ، إلاَّ أنَّ هذا يُبْعِدُه قولُه : " يَتْلُو عليكم " ، لأنَّ الرسالةَ لا تَتْلوا إلاَّ بمجازٍ ، الثامن ، أَنْ يكونَ " رسولاً " منصوباً بفعلٍ مقدر ، أي : أرسل رسولاً لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه . التاسع : أَنْ يكونَ منصوباً على الإِغراء ، أي : اتبِعوا والزَمُوا رسولاً هذه صفتُه .

واختلف الناس في " رسولاً " هل هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، أو القرآنُ نفسُه ، أو جبريلُ ؟ قال الزمخشري : " هو جبريلُ عليه السلام " أُبْدِل مِنْ " ذِكْراً " لأنه وُصِف بتلاوةِ آياتِ اللَّهِ ، فكأنَّ إنزالَه في معنى إنزالِ الذِّكْرِ فصَحَّ إبدالُه منه " . قال الشيخ : " ولا يَصِحُّ لتبايُنِ المدلولَيْنِ بالحقيقة ، ولكونِه لا يكونَ بدلَ بعضٍ ولا بدلَ اشتمال " انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشريُّ سبقه إليه الكلبيُّ . وأمَّا اعتراضُه عليه فغيرُ لازمٍ لأنه إذا بُوْلِغَ فيه حتى جُعِل نفسَ الذِّكْر كما تقدَّم بيانُه . وقُرىء " رسولٌ " على إضمار مبتدأ ، أي : هو رسول .

قوله : { لِّيُخْرِجَ } متعلِّقٌ إمَّا ب " أَنْزَل " ، وإمَّا ب " يَتْلو " وفاعِلُ يُخْرِج : إمَّا ضميرُ الباري تعالى المنَزِّل ، أو ضميرُ الرسولِ ، أو الذِّكرِ ، و " مَنْ يُؤْمِنْ " هذا أحدُ المواضعِ التي رُوْعي فيها اللفظُ أولاً ، ثم المعنى ثانياً ، ثم اللفظُ آخِراً ، وقد تقدَّم ذلك في المائِدة . وقد تأوَّلَ بعضُهم هذه الآية [ وقال : ليس قولُه " خالدين " فيه ضميرٌ عائدٌ على " مَنْ " إنما يعود على مفعولِ " يُدْخِلْه " ، و " خالدين " حالٌ منه ، والعاملُ فيها " يُدْخِلْه " لا فِعْلُ الشرطِ ] . هذه عبارةُ الشيخِ ، وفيها نظرٌ ؛ لأنَّ " خالدين " حالٌ مِنْ مفعول " يُدْخِلْه " عند القائلين بالقول الأول ، وكأنَّ إصلاحَ العبارة أَنْ يقالَ : حالٌ مِنْ مفعولِ " يُدْخِلْه " الثاني ، وهو " جناتٍ " والخلودُ في الحقيقةِ لأصحابِها ، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال : خالدين هم فيها ، لجريان الوصفِ على غير مَنْ هو له .

قوله : { قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ } حالٌ ثانيةٌ ، أو حال مِنْ الضمير في " خالدين " فتكونُ متداخلةً . /