وحكى ابن جرير ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
أحدها : أن المراد بذلك الكافر . رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وبه يقول الضحاك بن مزاحم وصالح بن كيسان .
والثاني : أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر ؛ لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة والدنيا كالمنام . وهذا اختيار ابن جرير ، ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس .
والثالث : أن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم . وبه يقول زيد بن أسلم ، وابنه . والمعنى على قولهما : لقد كنت في غفلة من هذا الشأن {[27309]} قبل أن يوحى إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك ، فبصرك اليوم حديد .
والظاهر من السياق خلاف هذا ، بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو ، والمراد بقوله : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } يعني : من هذا اليوم ، { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي : قوي ؛ لأن كل واحد يوم القيامة يكون مستبصرا ، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك . قال الله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] .
وقوله : لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا يقول تعالى ذكره : يقال له : لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها الأنسان من الأهوال والشدائد فَكَشَفْنا عَنْكَ غطاءَكَ يقول : فجلينا ذلك لك ، وأظهرناه لعينيك ، حتى رأيته وعاينته ، فزالت الغفلة عنك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن اختلفوا في المقول ذلك له ، فقال بعضهم : المقول ذلك له الكافر . وقال آخرون : هو نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : هو جميع الخلق من الجنّ والإنس . ذكر من قال : هو الكافر .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ وذلك الكافر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ قال : للكافر يوم القيامة .
حدثنا ابن حُميَد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان فَكَشَفْنا عَنْك غِطاءَكَ قال : في الكافر . ذكر من قال : هو نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا قال : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لقد كنت في غفلة من هذا الأمر يا محمد ، كنت مع القوم في جاهليتهم فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ .
وعلى هذا التأويل الذي قاله ابن زيد يجب أن يكون هذا الكلام خطابا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه كان في غفلة في الجاهلية من هذا الدين الذي بعثه به ، فكشف عنه غطاءه الذي كان عليه في الجاهلية ، فنفذ بصره بالإيمان وتبيّنه حتى تقررّ ذلك عنده ، فصار حادّ البصر به . ذكر من قال : هو جميع الخلق من الجنّ والإنس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ ، قال : سألت عن ذلك الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، فقال : يريد به البرّ والفاجر ، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكُ اليَوْمَ حَدِيدٌ قال : وكُشِف الغطاء عن البرّ والفاجر ، فرأى كلّ ما يصير إليه . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ قال : الحياة بعد الموت .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ قال : عاين الاَخرة .
وقوله : فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ يقول : فأنت اليوم نافذ البصر ، عالم بما كنت عنه في الدنيا في غفلة ، وهو من قولهم : فلان بصير بهذا الأمر : إذا كان ذا علم به ، وله بهذا الأمر بصر : أي علم .
وقد رُوي عن الضحاك إنه قال : معنى ذلك فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ لسان الميزان ، وأحسبه أراد بذلك أن معرفته وعلمه بما أسلف في الدنيا شاهد عدل عليه ، فشبّه بصره بذلك بلسان الميزان الذي يعدل به الحقّ في الوزن ، ويعرف مبلغه الواجب لأهله عما زاد على ذلك أو نقص ، فكذلك علم من وافى القيامة بما اكتسب في الدنيا شاهد عليه كلسان الميزان .
{ لقد كنت في غفلة من هذا } على إضمار القول والخطاب { لكل نفس } إذ ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة أو للكافر . { فكشفنا عنك غطاءك } الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة ، والانهماك في المحسوسات والإلف بها وقصور النظر عليها . { فبصرك اليوم حديد } نافذ لزوال المانع للأبصار . وقيل الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى : كنت في غفلة من أمر الديانة فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن ، { فبصرك اليوم حديد } ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون . ويؤيد الأول قراءة من كسر التاء والكافات على خطاب النفس .
قرأ الجحدري : «لقد كنتِ » على مخاطبة النفس وكذلك كسر الكافات بعد .
وقال صالح بن كيسان والضحاك وابن عباس معنى قوله : { لقد كنت } أي يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عن النظر فيها ، { لقد كنت في غفلة من هذا } ، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك أي بصيرتك وهذا كما تقول : فلان حديد الذهن والفؤاد ونحوه ، وقال مجاهد : هو بصر العين إذا احتد التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة .
وقال زيد بن أسلم قوله تعالى : { ذلك ما كنت منه تحيد } [ ق : 19 ] وقوله تعالى : { لقد كنت } الآية ، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أنه خوطب بهذا في الدنيا ، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وأنعمنا عليك وعلمناك ، { فبصرك اليوم حديد } ، وهذا التأويل يضعف من وجوه ، أحدها أن الغفلة إنما تنسب أبداً إلى مقصر ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده وثان : أن قوله : بعد هذا : { وقال قرينه } يقتضي أن الضمير إنما يعود على أقرب مذكور ، وهو الذي يقال له { فبصرك اليوم حديد } وإن جعلناه عائداً على ذي النفس في الآية المتقدمة جاء هذا الاعتراض لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الكلامين غير متمكن فتأمله . وثالث : أن معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط ، وهو أحرى بالآية وأولى بالرصف ، والوجه عندي ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر .
و : { فكشفنا عنك غطاءك } ، قال ابن عباس : هي الحياة بعد الموت ، وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » .
مقول قول محذوف دل عليه تعينه من الخطاب ، أي يقال هذا الكلام لكل نفس من نفوس المشركين فهو خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء .
وجملة القول ومقوله في موضع الحال من { كل نفس } [ ق : 21 ] أو موقع الصفة ، وعلامات الخطاب في كلمات { كُنتَ } و { عنكَ } و { غطاءكَ } و { بصركَ } مفتوحة لتأويل النفس بالشخص أو بالإنسان ثم غُلب فيه التذكير على التأنيث . وهذا الكلام صادر من جانب الله تعالى وهو شروع في ذكر الحساب .
والغفلة : الذهول عما شأنه أن يُعلم وأطلقت هنا على الإنكار والجحد على سبيل التهكم ، ورشَّح ذلك قولُه { فكشفنا عنك غطاءك } بمعنى : بيّنا لك الدليل بالحس فهو أيضاً تهكّم . وأوثر قوله : { في غفلة } على أن يقال غافلاً للدلالة على تمكن الغفلة منه ولذلك استتبع تمثيلَها بالغطاء .
وكشف الغطاء تمثيل لحصول اليقين بالشيء بعد إنكار وقوعه ، أي كشفنا عنك الغطاء الذي كان يحجب عنك وقوع هذا اليوم بما فيه ، وأسند الكشف إلى الله تعالى لأنه الذي أظهر لها أسباب حصول اليقين بشواهد عَيْن اليقين . وأضيف ( غطاء ) إلى ضمير الإنسان المخاطب للدلالة على اختصاصه به وأنه مما يعرف به .
وحدة البصر : قوة نفاذه في المَرئي ، وحدّة كل شيء قوةُ مفعوله ، ومنه حدة الذهن ، والكلام يتضمن تشبيه حصول اليقين برؤية المرئي ببصر قوي ، وتقييده بقوله : { اليوم } تعريض بالتوبيخ ، أي ليس حالك اليوم كحالك قبل اليوم إذ كنت في الدنيا منكراً للبعث .
والمعنى : فقد شاهدتَ البعث والحشر والجزاء ، فإنهم كانوا ينكرون ذلك كله ، قالوا { أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنا المدينون } [ الصافات : 53 ] وقالوا : { وما نحن بمعذبين } [ الصافات : 59 ] فقد رأى العذاب ببصره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد كنت} يا كافر {في غفلة من هذا} اليوم {فكشفنا عنك غطاءك} يعني عن غطاء الآخرة {فبصرك اليوم حديد} يعني يشخص بصره، ويديم النظر فلا يطرف حتى يعاين في الآخرة ما كان يكذب به في الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا "يقول تعالى ذكره: يقال له: لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها الأنسان من الأهوال والشدائد "فَكَشَفْنا عَنْكَ غطاءَكَ" يقول: فجلينا ذلك لك، وأظهرناه لعينيك، حتى رأيته وعاينته، فزالت الغفلة عنك... وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفوا في المقول ذلك له، فقال بعضهم: المقول ذلك له الكافر. وقال آخرون: هو نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: هو جميع الخلق من الجنّ والإنس... [وهذا ما رجحه الطبري]
"فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكُ اليَوْمَ حَدِيدٌ" قال: وكُشِف الغطاء عن البرّ والفاجر، فرأى كلّ ما يصير إليه... عن ابن عباس، قوله: "فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ" قال: الحياة بعد الموت... عن قتادة، قوله: "لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ" قال: عاين الآخرة.
وقوله: "فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ" يقول: فأنت اليوم نافذ البصر، عالم بما كنت عنه في الدنيا في غفلة، وهو من قولهم: فلان بصير بهذا الأمر: إذا كان ذا علم به، وله بهذا الأمر بصر: أي علم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لقد كنت في الدنيا في غفلة من هذا الذي تُعاين، وتشاهد، أو في غفلة مما أوعدت من المواعيد والشدائد التي عاينتها {فكشفنا عنك غطاءك} أي كشفنا عنك الشُّبَه التي تمنع وقوع العلم به والتجلّي له {فبصرك اليوم حديد} أي ثاقب نيِّر يُبصر الحق كقوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} [مريم: 38]. وقيل: {حديد} من الحِدّة أي نافذ، لا يخفى عليه شيء، فكأنه أراد، والله أعلم بقوله تعالى: إنك كنت في الدنيا جاهلا عن هذا اليوم وعن هذه الحال، والآن قد عاينت ما كنت عنه في غفلة، وأيقنت به...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(لقد كنت في غفلة من هذا) يقال: إن هذا في الكفار؛ لأنهم في الغفلة من الآخرة على الحقيقة. ويقال: في كل غافل. وقوله: (فكشفنا عنك غطاءك) أي: كشفنا عنك ما غشيك وغطى سمعك وبصرك وعقلك، حتى لم تسمع ولم تبصر ولم تعقل الحق...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات ظهرت له الأشياء على ما يشاهده الآن،... بعد الموت وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلي الأسرار ويصادف كل أحد ما قدمه من خير أو شر محضرا، ويشاهد كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعندها يقال له: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} إنما الغطاء: الخيال والوهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً؛ فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت الغفلة عنه وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق. ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته: حديداً لتيقظه...
والخطاب عام؛ أما الكافر فمعلوم الدخول في هذا الحكم، وأما المؤمن فإنه يزداد علما ويظهر له ما كان مخفيا عنه، ويرى علمه يقينا رأى المعتبر يقينا فيكون بالنسبة إلى تلك الأحوال وشدة الأهوال كالغافل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لقد كنت} أي كوناً كأنه جبلة لك {في غفلة} أي عظيمة محيطة بك ناشئة لك {من هذا} أي من تصور هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب، والجزاء بالثواب أو العقاب لأنه على شدة جلائه خفي على من اتبع الشهوات {فكشفنا} بعظمتنا بالموت ثم بالعبث {عنك غطاءك} الذي كان يحجبك عن رؤيته من الغفلة بالآمال في الجاه والأموال وسائر الحظوظ والشهوات...
. {فبصرك اليوم} أي بعد البعث {حديد} أي في غاية الحدة والنفوذ، فلذا تقر بما كنت تنكر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لقد كنت في غفلة من هذا. فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).. قوي لا يحجبه حجاب، وهذا هو الموعد الذي غفلت عنه، وهذا هو الموقف الذي لم تحسب حسابه، وهذه هي النهاية التي كنت لا تتوقعها. فالآن فانظر. فبصرك اليوم حديد!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مقول قول محذوف دل عليه تعينه من الخطاب، أي يقال هذا الكلام لكل نفس من نفوس المشركين فهو خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء.
وجملة القول ومقوله في موضع الحال من {كل نفس} [ق: 21] أو موقع الصفة، وعلامات الخطاب في كلمات {كُنتَ} و {عنكَ} و {غطاءكَ} و {بصركَ} مفتوحة لتأويل النفس بالشخص أو بالإنسان ثم غُلب فيه التذكير على التأنيث. وهذا الكلام صادر من جانب الله تعالى وهو شروع في ذكر الحساب.
والغفلة: الذهول عما شأنه أن يُعلم وأطلقت هنا على الإنكار والجحد على سبيل التهكم، ورشَّح ذلك قولُه {فكشفنا عنك غطاءك} بمعنى: بيّنا لك الدليل بالحس فهو أيضاً تهكّم. وأوثر قوله: {في غفلة} على أن يقال غافلاً للدلالة على تمكن الغفلة منه ولذلك استتبع تمثيلَها بالغطاء.
وكشف الغطاء تمثيل لحصول اليقين بالشيء بعد إنكار وقوعه، أي كشفنا عنك الغطاء الذي كان يحجب عنك وقوع هذا اليوم بما فيه، وأسند الكشف إلى الله تعالى لأنه الذي أظهر لها أسباب حصول اليقين بشواهد عَيْن اليقين. وأضيف (غطاء) إلى ضمير الإنسان المخاطب للدلالة على اختصاصه به وأنه مما يعرف به.
وحدة البصر: قوة نفاذه في المَرئي، وحدّة كل شيء قوةُ مفعوله، ومنه حدة الذهن، والكلام يتضمن تشبيه حصول اليقين برؤية المرئي ببصر قوي، وتقييده بقوله: {اليوم} تعريض بالتوبيخ، أي ليس حالك اليوم كحالك قبل اليوم إذ كنت في الدنيا منكراً للبعث.
والمعنى: فقد شاهدتَ البعث والحشر والجزاء، فإنهم كانوا ينكرون ذلك كله، قالوا {أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنا المدينون} [الصافات: 53] وقالوا: {وما نحن بمعذبين} [الصافات: 59] فقد رأى العذاب ببصره.