158- وكما أن الله رفع شأن الكعبة بجعلها قبلة الصلاة ، رفع أمر الجبلين اللذين يُشَارِفانِهَا وهما «الصفا » «والمروة » فجعلهما من مناسك الحج ، فيجب بعد الطواف السعي بينهما سبع مرات ، وقد كان منكم من يرى في ذلك حرجاً لأنه من عمل الجاهلية ، ولكن الحق أنه من معالم الإسلام ، فلا حرج على من ينوى الحج أو العمرة أن يسعى بين هذين الجبلين ، وليأت المؤمن من الخير ما استطاع فإن الله عليم بعمله ومثيبه عليه .
قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } . الصفا جمع صفاة وهي الصخور الصلبة الملساء ، يقال : صفاة وصفا ، مثل : حصاة وحصى ونواة ونوى ، والمروة : الحجر الرخو ، وجمعها مروات ، وجمع الكثير مرو ، مثل تمرة وتمرات وتمر . وإنما عنى الله بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي المسعى ، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام ، وشعائر الله أعلام دينه ، أصلها من الإشعار وهو الإعلام . واحدتها شعيرة وكل ما كان معلماً لقربات يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة . فالمطاف والموقف والنحر كلها شعائر الله ، ومثلها المشاعر ، والمراد بالشعائر ها هنا : المناسك التي جعلها الله أعلاماً لطاعته ، فالصفا والمروة منها حتى يطاف بهما جميعاً .
قوله تعالى : { فمن حج البيت أو اعتمر } . فالحج في اللغة : القصد ، والعمرة : الزيارة ، وفي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة .
قوله تعالى : { فلا جناح عليه } . أي لا إثم عليه ، وأصله من جنح أي مال عن القصد .
قوله تعالى : { أن يطوف بهما } . أي يدور بهما ، وأصله يتطوف أدغمت التاء في الطاء . وسبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان أساف ونائلة ، وكان إساف على الصفا ونائلة على المروة ، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً للصنمين ، ويتمسحون بهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين ، فأذن الله فيه وأخبر أنه من شعائر الله . واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة فذهب جماعة إلى وجوبه ، وهو قول ابن عامر وجابر وعائشة وبه قال الحسن وإليه ذهب مالك والشافعي . وذهب قوم إلى أنه تطوع وهو قول ابن عباس وبه قال ابن سيرين ومجاهد ، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي . وقال الثوري وأصحاب الرأي على من تركه دم . واحتج من أوجبه بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، أخبرنا الربيع عن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن مؤمل العائذي ، عن عمرو بن عبد الرحمن بن محيص ، عن عطاء بن أبي عطاء بن أبي رباح ، عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني بنت أبي تجزأة اسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار ، قالت : " دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبتيه ، وسمعته يقول : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشان بن عروة عن أبيه أنه قال : " قلت لعائشة زو ج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما ، قالت عائشة : كلا لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة ، وكانت مناة حذو قديد ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) الآية . وقال عاصم : قلت لأنس بن مالك : أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة ؟ قال : نعم ، لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر ابن عبد الله أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا يقول نبدأ بما بدأ الله تعالى به فبدأ بالصفا . وقال : كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثاً ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وله الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك . وقال : كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي يسعى حتى يخرج منه " .
قال مجاهد رحمه الله : حج موسى عليه السلام على جمل أحمر وعليه عباءتان قطوانيتان ، فطاف البيت ثم صعد الصفا ودعا ثم هبط إلى السعي وهو يلبي فيقول " لبيك اللهم لبيك " . قال الله تعالى " لبيك عبدي أنا معك وسامع لك وناظر إليك " فخر موسى عليه السلام ساجداً .
قوله تعالى : { ومن تطوع خيراً } . قرأ حمزة والكسائي بالياء وتشديد الطاء ، وجزم العين وكذلك الثانية ( فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا ) بمعنى يتطوع . ووافق يعقوب في الأول وقرأ الباقون بالتاء وفتح العين في الماضي وقال مجاهد : معناه فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة . وقال مقاتل والكلبي : فمن تطوع : أي زاد في الطواف بعد الواجب . وقيل من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه . وقال الحسن وغيره : أراد سائر الأعمال ، يعني فعل غير المفترض عليه من زكاة وصلاة وطواف وغيرها من أنواع الطاعات .
قوله تعالى : { فإن الله شاكر } . مجاز لعبده بعمله .
قوله تعالى : { عليم } . بنيته . والشكر من الله تعالى أن يعطي لعبده فوق ما يستحق . يشكر اليسير ويعطي الكثير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء...وأما المروة: فإنها الحصاة الصغيرة، وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"إنّ الصّفا والمَرْوَةَ" في هذا الموضع: الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه دون سائر الصفا والمرو، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين دون سائر الأصفاء والمرو.
"مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ": من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعرا يعبدونه عندها، إما بالدعاء وإما بالذكر وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها.
وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله: "إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ "عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحجّ التي سنّها لهم، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، إذ سأله أن يريه مناسك الحج. وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر، فإنه مراد به الأمر، لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: "ثم أوْحَيْنَا إليكَ أن اتّبِعْ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا" وجعل تعالى ذكره إبراهيم إماما لمن بعده. فإذا كان صحيحا أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد عمل به وسنّه لمن بعده، وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أمته باتباعه، فعليهم العمل بذلك على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ": "فَمَنْ حَجّ البَيْتَ": فمن أتاه عائدا إليه بعد بدء، وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاجّ إليه... وإنما قيل للحاج حاج لأنه يأتي البيت قبل التعريف، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر، فلتكراره العود إليه مرّة بعد أخرى قيل له حاجّ. وأما المعتمر فإنما قيل له معتمر لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه.
وإنما يعني تعالى ذكره بقوله: "أوِ اعْتَمَرَ": أو اعتمر البيت، ويعني بالاعتمار الزيارة، فكل قاصد لشيء فهو له معتمر.
"فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما": فلا حرج عليه ولا مأثم في طوافه بهما.
فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا إن قوله: "إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه" وإن كان ظاهره ظاهر الخبر فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرا بالطواف، ثم يقال: لا جناح على من حجّ البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟ وإنما يوضع الجناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناح والحرج، والأمر بالطواف بهما، والترخيص في الطواف بهما غير جائز اجتماعهما في حال واحدة؟
قيل: إن ذلك بخلاف ما إليه ذهب، وإنما معنى ذلك عند أقوام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عمرة القضية تخوّف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما فقالوا: وكيف نطوف بهما، وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون الله شرك؟ ففي طوافنا بهذين الحجرين أحد ذلك، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليوم ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له. فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم: "إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ..." يعني أن الطواف بهما، فترك ذكر الطواف بهما اكتفاء بذكرهما عنه. وإذ كان معلوما عند المخاطبين به أن معناه: من معالم الله التي جعلها علما لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر، فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا يتخوّفن الطواف بهما، من أجل ما كان أهل الجاهلية يطوفون بهما، من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرا، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولي وطاعة لأمري، فلا جناح عليكم في الطواف بهما. والجناح: الإثم.
وقال آخرون: بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية في سبب قوم كانوا في الجاهلية لا يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام تخوفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوّفونه في الجاهلية... حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة بن الزبير، قال: سألت عائشة فقلت لها: أرأيت قول الله: إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما؟ وقلت لعائشة: والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت كما أوّلتها كانت لا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون بالمشلّل، وكان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة، أنزل الله تعالى ذكره: إنّ الصّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أو اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره. فأما قوله: "فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما" فجائز أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين، وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية على ما روي عن عائشة. وأيّ الأمرين كان من ذلك فليس في قول الله تعالى ذكره: "فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما" الآية، دلالة على أنه عنى به وضع الحرج عمن طاف بهما، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر الله ذلك ثم جعل الطواف بهما رخصة لإجماع الجميع، على أن الله تعالى ذكره لم يحظر ذلك في وقت، ثم رخص فيه بقوله: "فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما".
وإنما الاختلاف في ذلك بين أهل العلم على أوجه؛ فرأى بعضهم أن تارك الطواف بينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه، كما لا يجزي تارك الطواف الذي هو طواف الإفاضة إلا قضاؤه بعينه، وقالوا: هما طوافان أمر الله بأحدهما بالبيت، والاَخر بين الصفا والمروة.
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية، ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الجمرات، والوقوف بالمشعر، وطواف الصّدَر، وما أشبه ذلك مما يجزي تاركه من تركه فدية ولا يلزمه العود لقضائه بعينه.
ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوّع، إن فعله صاحبه كان محسنا، وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه شيء. والله تعالى أعلم...
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب، وأن على من تركه العود لقضائه ناسيا كان أو عامدا لأنه لا يجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حجّ بالناس فكان مما علمهم من مناسك حجهم الطواف بهما... فإذا كان صحيحا بإجماع الجميع من الأمة أن الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم وعمله في حجه وعمرته، وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمته جمل ما نصّ الله في كتابه وفَرَضه في تنزيله، وأمر به مما لم يدرك علمه إلا ببيانه لازما العمل به أمته كما قد بينا في كتابنا «كتاب البيان عن أصول الأحكام» إذا اختلفت الأمة في وجوبه، ثم كان مختلفا في الطواف بينهما هل هو واجب أو غير واجب، كان بيّنا وجوب فرضه على من حجّ أو اعتمر لما وصفنا، وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بين الصفا والمروة، لما كان مختلفا فيما على من تركه مع إجماع جميعهم، على أن ذلك مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علمهم مناسك حجهم، كما طاف بالبيت وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم، إذ علمهم مناسك حجهم وعمرتهم، وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تجزي منه فدية ولا بدل، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه كان نظيرا له الطواف بالصفا والمروة، ولا تجزي منه فدية ولا جزاء، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه، إذ كانا كلاهما طوافين أحدهما بالبيت والاَخر بالصفا والمروة...
"وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فإنّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ": ومن تطوّع بالحجّ والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكر له على تطوّعه له بما تطوّع به من ذلك ابتغاء وجهه فمجازيه به، عليم بما قصد وأراد بتطوّعه بما تطوّع به.
وإنما قلنا إن الصواب في معنى قوله: "فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا" هو ما وصفنا دون قول من زعم أنه معنيّ به: فمن تطوّع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوّعا بالسعي بينهما إلا في حجّ تطوّع أو عمرة تطوّع لما وصفنا قبل وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما أنه إنما عنى بالتطوّع بذلك التطوّع بما يعمل ذلك فيه من حجّ أو عمرة.
وأما الذين زعموا أن الطواف بهما تطوّع لا واجب، فإن الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوّع بالطواف بهما فإن الله شاكر لأن للحاجّ والمعتمر على قولهم الطواف بهما إن شاء وترك الطواف، فيكون معنى الكلام على تأويلهم: فمن تطوّع بالطواف بالصفا والمروة، فإن الله شاكر تطوّعه ذلك، عليم بما أراد ونوى الطائف بهما كذلك... من تطوّع خيرا فاعتمر فإن الله شاكر عليم قال: فالحجّ فريضة، والعمرة تطوّع، ليست العمرة واجبة على أحد من الناس.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله تعالى: (ومن تطوع خيرا) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أولها:"من تطوع خيرا" أي بالحج العمرة بعد الفريضة...
الثالث: "من تطوع خيرا "بعد الفرائض، وهذا هو الأولى، لأنه أعم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الصفا والمروة: علمان للجبلين، والشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، أي من أعلام مناسكه ومتعبداته، والحج: للقصد. والاعتمار: الزيارة، فغلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين.
المسألة الأولى: اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه؛ (أحدها): أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال: {ولأتم نعمتي عليكم} وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعي هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية.
(وثانيها): أنه تعالى لما قال: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} إلى قوله: {وبشر الصابرين} قال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات.
المسألة الثالثة: الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك، أو نحملها على مواضع العبادات والنسك، فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف، لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك، فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى، وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام، لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك وكيف كان فالسعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه، وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وأرنا مناسكنا}
واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضا من أبعاض الحج، فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.
المسألة الرابعة: الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل عليه السلام أغاثها الله تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب ممن دعاه فإنه غياث المستغيثين، فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما، ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة، وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين، وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين.
المسألة الخامسة: ذكر القفال في لفظ الحج أقوالا.
(الأول): الحج في اللغة كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه، فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولا ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر... وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه...
أما قوله تعالى: {فإن الله شاكر عليم} فاعلم أن الشاكر في اللغة هو المظهر للإنعام عليه، وذلك في حق الله تعالى محال، فالشاكر في حقه تعالى مجاز، ومعناه المجازي على الطاعة:
وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكرا لوجوه.
(الأول): أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان إليهم، كما قال تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} وهو تعالى لا يستقرض من عوض، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل: من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم.
(الثاني): أن الشكر لما كان مقابلا الإنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكرا على سبيل التشبيه.
(الثالث): كأنه يقول: أنا وإن كنت غنيا عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات.
وأما قوله: {عليم} فالمعنى أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى: {عليم} تعلق بشاكر ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه، وتحذير من خلاف ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ مما أراد من أحوال الطاعنين في القبلة التي هي قيام للناس وما استتبع ذلك مما يضطر إليه في إقامة الدين من جدالهم وجلادهم وختم ذلك بالهدى شرع في ذكر ما كان البيت به قياماً للناس من المشاعر القائدة إلى كل خير الحامية عن كل ضير التي جعلت مواقفها أعلاماً على الساعة لا سيما والحج أخو الجهاد في المشقة والنزوح عن الوطن وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم أحد الجهادين مع أنه من أعظم مقاصد البيت المذكورة في هذه الآيات مناقبه المتلوة مآثره المنصوبة شعائره التي هي في الحقيقة دعائمه من الاعتكاف والصلاة والطواف المشار إلى حجه واعتماره بقوله:مثابة للناس وأمناً} [البقرة: 125] فأفصح به بعد تلك الإشارة بعض الإفصاح إذ كان لم يبق من مفاخره العظمى غيره وضم إليه العمرة الحج الأصغر لمشاركتها له في إظهار فخاره وإعلاء مناره فقال: {إن الصفا والمروة} فهو كالتعليل لاستحقاق البيت لأن يكون قبلة، وعرفهما لأنهما جبلان مخصوصان معهودان تجاه الكعبة، اسم الصفا من الصفوة وهو ما يخلص من الكدر، واسم المروة من المرو وهو ما تحدد من الحجارة -قاله الحرالي. وخصهما هنا بالذكر إشارة إلى أن بركة الإقبال عليهما على ما شرع الله سبحانه وتعالى مفيدة لحياة القلوب بما أنزل على هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة الباقيين إلى آخر الدهر شفاء للقلوب وزكاة للنفوس زيادة للنعمة بصفة الشكر وتعليماً بصفة العلم كما كان الإقبال على السعي بينهما تسليماً لأمر الله مفيداً لحياة أبيه إسماعيل عليه الصلاة والسلام ونفع من بعده بما أنبع له من ماء زمزم الباقي إلى قيام الساعة طعام طعم وشفاء سقم، وفي ذلك مع تقديم الصفا إشارة للبصراء من أرباب القلوب إلى أن الصابر لله المبشر فيما قبلها ينبغي أن يكون قلبه جامعاً بين الصلابة والصفا، فيكون بصلابته الحجرية مانعاً من القواطع الشيطانية، وبرقته الزجاجية جامعاً للوامع الرحمانية، بعيداً عن القلب المائي بصلابته، وعن الحجري بصفائه واستنارته. ومن أعظم المناسبات أيضاً كون سبيل الحج إذ ذاك كان ممنوعاً بأهل الحرب، فكأنها علة لما قبلها وكأنه قيل: ولنبلونكم بما ذكر لأن الحج من أعظم شعائر هذا البيت الذي أمرتم باستقباله وهو مما يفرض عليكم وسبيله ممنوع بمن تعلمون، فلنبلونكم بقتالهم لزوال مانع الحج وقتال غيرهم من أهل الكتاب وغيرهم لإتمام النعمة بتمام الدين وظهوره على كل دين. ومن أحسنها أيضاً أنه تعالى لما ذكر البلايا بنقص الأموال بسبب الذنوب {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] أتبعها الدواء الجابر لذلك النقص ديناً ودنيا، "فإن الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والفضة "رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي أيضاً عن عدة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما بينته في كتابي الاطلاع على حجة الوداع
وقال الحرالي: لما تقدم ذكر جامعة من أمر الحج في قوله سبحانه وتعالى {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] من حيث أن النعمة المضافة إليه أحق بنعمة الدين وفي ضمنها نعمة الدنيا التي لم يتهيأ الحج إلا بها من الفتح والنصر والاستيلاء على كافة العرب كما قال تعالى فيما أنزل يوم تمام الحج الذي هو يوم عرفة {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] وذلك بما أتم الله سبحانه وتعالى عليهم من نعمة تمام معالم الدين وتأسيس الفتح بفتح أم القرى التي في فتحها فتح جميع الأرض لأنها قيام الناس نظم تعالى بما تلاه من الخطاب تفصيلاً من تفاصيل أمر الحج انتظم بأمر الذين آمنوا من حيث ما في سبب إنزاله من التحرج للذين أعلموا برفع الجناح عنهم وهم طائفة من الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد فتحرجوا من التطوف بين الصفا والمروة.
وطائفة أيضاً خافوا أن يلحقهم في الإسلام بعملهم نحو ما كانوا يعملونه في الجاهلية نقص في عمل الإسلام، فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن ذلك موضوع عنهم لمختلف نياتهم فإن الأعمال بالنيات، فما نوي لله كان لله ولم يُبل فيه بموافقة ما كان من عاداتهم في الجاهلية، وفي فقهه صحة السجود لله سبحانه وتعالى لمن أكره على السجود للصنم، وفي طي ذلك صحة التعبد لله بكلمة الكفر لمن أكره عليها، أذن صلى الله عليه وسلم غير مرة في أن يقول فيه قائل ما يوافق الكفار بحسن نية للقائل في ذلك ولقضاء حاجة له من حوائح دنياه عند الكفار، فظهر بذلك كونه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، يقبل الضمائر ولا يبالي بالظواهر في أحوال الضرائر، فرفع الله سبحانه وتعالى عنهم الجناح بحسن نياتهم وإخلاصهم لله سبحانه وتعالى عملهم، فبهذا النحو من التقاصر في هذه الرتبة انتظم افتتاح هذا الخطاب بما قبله من أحوال الذين آمنوا من المبتلين بما ذكر- انتهى.
{من شعائر الله} أي أعلام دين الملك الأعلى الذي دان كل شيء لجلاله. وقال الحرالي: وهي أي الشعائر ما أحست به القلوب من حقه، وقال: والشعيرة ما شعرت به القلوب من أمور باطنة {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32] وإنما ذكرها تعالى بالشعائر وعملها معلم من معالم الإسلام وحرمة من حرم الله لما كان حكم في أمر القلوب التي كان في ضمائرها تحرجهم فمن حيث ذكرها بالشعيرة صححها الإخلاص والنية {فمن حج} من الحج وهو ترداد القصد إلى ما يراد خيره وبره. وقال الأصفهاني: أصله زيادة شيء تعظمه -انتهى.
{البيت} ذكر البيت في الحج والمسجد الحرام في التوجه لانتهاء الطواف إلى البيت واتساع المصلى من حد المقام إلى ما وراءه لكون الطائف منتهياً إلى البيت وكون المصلي قائماً بمحل أدب يؤخره عن منتهى الطائف مداناة البيت، وذكره تعالى بكلمة "من "المطلقة المستغرقة لأولي العقل تنكباً بالخطاب عن خصوص المتحرجين، ففي إطلاقه إشعار بأن الحج لا يمنعه شيء مما يعرض في مواطنه من مكروه الدين لاشتغال الحاج بما هو فيه عما سواه، ففي خفي فقهه إعراض الحاج عن مناكر تلك المواطن التي تعرض فيها بحسب الأزمان والأعصار، ويؤكد ذلك أن الحج آية الحشر وأهل الحشر لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37] فكذلك حكم ما هو آيته؛ وحج البيت إتيانه في خاتمة السنة من الشهور الذي هو شهر ذي الحجة أنه ختم العمر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حيث ختم الله سبحانه وتعالى عمره بعمل الحج؛ قال سبحانه وتعالى {أو اعتمر} فذكر العمرة مع الحج لما كان الطواف بين الصفا والمروة من شعائر العملين {فلا جناح} وهو المؤاخذة على الجنوح، والجنوح الميل عن جادة القصد- انتهى {عليه أن يطوف} أي يدور بهمة وتعمد ونشاط {بهما} بادياً بما بدأ الله. قال الحرالي: رفع الجناح عن الفعل حكم يشترك فيه الجائز والواجب والفرض والمباح حتى يصح أن يقال: لا جناح عليك أن تصلي الظهر، كما يقال: لا جناح عليك أن تطعم إذا جعت؛ وإنما يشعر بالجواز والتخيير نفي الجناح عن الترك لا عن الفعل، كما قال عليه الصلاة والسلام للذين سألوه عن العزل: "لا جناح عليكم أن لا تفعلوا" أي أن لا تُنزلوا، لأن الفعل كناية عن الثبوت لا عن الترك الذي هو معنى العزل "وهو الذي قررته عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال عروة: ما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما، فقالت: لو كان كما تقول كان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما الحديث. قلت: ولعل التعبير بالنفي إنما اختير ليدل على نفي ما توهموه بالمطابقة، وتقع الدلالة على الوجوب بإفهام الجزاء لأن من حج أو اعتمر ولم يتطوف بهما كان عليه حرج، وبالسنة التي بينته من قوله صلى الله عليه وسلم:"اسعوا فإن الله قد كتب عليكم السعي "ومن فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله." خذوا عني مناسككم "ومن عدهما من الشعائر ونحو ذلك. قال الحرالي: وما روي من قراءة من قرأ {أن لا يطوف بهما} فليست {لا} نافية على حد ما نفت معناه عائشة رضي الله تعالى عنها وإنما هي مؤكدة للإثبات بمنزلة {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12] و {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29] لأن من تمام المبهم استعماله في المتقابلين من النفي والإثبات كاستعماله في وجوه من التقابل كما تستعمل {ما} في النفي والإثبات، وكذلك جاءت" لا "في لسان العرب بمنزلتها في الاستعمال وإن كان دون ذلك في الشهرة، فوارد القرآن معتبر بأعلى رتبة لغة العرب وأفصحها، لا يصل إلى تصحيح عربيته من اقتصر من النحو والأدب على ما دون الغاية لعلوه في رتبة العربية إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [الزخرف: 2] انتهى... قال الحرالي: وذكره تعالى بالتطوف الذي هو تفعّل أي تشبه بالطواف، ومع البيت بالطواف في قوله تعالى:
{أن طهرا بيتي للطائفين} [البقرة: 125] لما كان السعي تردداً في طول، والمراد الإحاطة بهما، فكان في المعنى كالطواف لا في الصورة، فجعله لذلك تطوفاً أي تشبهاً بالطواف -انتهى.
ولما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يقصدوا بترك الطواف بينهما إلا الطاعة فأعلموا أن الطواف بينهما طاعة، عبر بما يفيد مدحهم فقال تعالى: {ومن تطوع} قَالَ الحرالي: أي كلف نفسه معاهدة البر والخير من غير استدعاء له {خيراً} فيه إعلام بفضيلة النفقة في الحج والعمرة بالهدي ووجوه المرافق للرفقاء بما يفهمه لفظ الخير، لأن عرف استعماله في خير الرزق والنفقة، كما قال تعالى: {وإنه لحب الخير لشديد} [العاديات: 8] و {إن ترك خيراً} [البقرة: 180]؛ ولما كان رفع الجناح تركاً عادلها في الخطاب بإثبات عمل خير ليقع في الخطاب إثبات يفيد عملاً حين لم يفد الأول إلا تركاً، فمن تحقق بالإيمان أجزل نفقاته في الوفادة على ربه واختصر في أغراض نفسه، ومن حرم النصف من دنياه اقتصر في نفقاته في وفادته على ربه وأجزل نفقاته في أغراض نفسه وشهوات عياله، فذلك من أعلام المؤمنين وأعلام الجاهلين، من وفد على الملك أجزل ما يقدم 474 بين يديه، وإنما قدمه بالحقيقة لنفسه لا لربه، فمن شكر نعمة الله بإظهارها 475 حين الوفادة 476، عليه في آية بعثه إليه ولقائه له شكراً لله له ذلك يوم يلقاه، فكانت هدايا الله له يوم القيامة أعظم من هديه إليه يوم الوفادة عليه في حجه وعمرته {فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {شاكر} أي مجاز بالأعمال مع المضاعفة لثوابها؛ قال الحرالي: وقوله: {عليم} فيه تحذير من مداخل الرياء والسمعة في إجزال النفقات لما يغلب على النفس من التباهي في إظهار الخير- انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
علم مما تقدم أن مسألة القبلة جاءت في معرض الكلام عن معاندة المشركين وأهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان التحويل شبهة من شبهاتهم وتقدم أن من لوازم حكم تحويل القبلة إلى البيت الحرام، توجيه قلوب المؤمنين إلى الاستياء عليه كما يوجهون إليه وجوههم لأجل تطهيره من الشرك والآثام، كما عهد الله إلى أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإلا كانوا راضين باستقبال الأصنام، وأن في طي {ولأتم نعمتي عليكم} بشارة هذا الاستياء، مفيدة الأمل والرجاء، وقد علم الله المؤمنون بعد هذه البشارة ما يستعينون به على الوصول إليها هي وسائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة وأشعرهم بما يلاقون في سبيل الحق من المصائب والشدائد، فكان من المناسب بعد هذا أن يذكر شيئا يؤكد تلك الإشارة ويقوي ذلك الأمل فذكر شعيرة من شعائر الحج هي السعي بين الصفا والمروة. فكان ذكرها تصريحا ضمنيا بأن سيأخذون مكة ويقيمون مناسك إبراهيم فيها، وتتم بذلك لهم النعمة والهداية، وهو قوله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطرف بهما}
فهذه الآية ليست منقطعة عن السياق السابق لإفادة حكم جديد لا علاقة له بما قبله كما توهم بل هي من تتمة الموضوع ومرتبطة به أشد الارتباط، من حيث هي تأكيد للبشارة، ومن حيث الحكم الذي فيها من مناسك الحج التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي صلى الله عليه وسلم ملته وجعلت الصلاة إلى قبلته. كأنه قال: لا تلوينكم قوة المشركين في مكة، وكثرة الأصنام على الكعبة، والصفا والمروة، عن القصد إلى تطهير البيت الحرام، وإحياء تلك الشعائر العظيمة، كما لا يلوينكم عن استقبال البيت تقول أهل الكتاب والمشركين، ولا زلزال مرضى القلوب من المنافقين، بل ثقوا بوعد الله، واستعينوا بالصبر والصلاة...
الأستاذ الإمام: وصف الباري تعالى بالشاكر لا يظهر على حقيقته فلا بد من حمله على المجاز. فالشكر في اللغة مقابلة النعمة والإحسان، بالثناء والعرفان، وشكر الناس الله في اصطلاح الشرع عبارة عن صرف نعمه فيما خلقت لأجله، وكلاهما لا يظهر بالنسبة إلى الله تعالى إذ لا يمكن أن يكون لأحد عنده يد أو يناله من أحد نعمة يشكرها له بهذا المعنى. فالمعنى إذا أن الله تعالى قادر على إثابة المحسنين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكرا، وسمى الله تعالى نفسه شاكرا.
وأزيد على قول الأستاذ أن الله تعالى وعد الشاكرين لنعمه بالمزيد منها، فسمي هذا شكرا من باب المشاكلة. والنكتة في اختيار هذا التعبير تعليمنا الأدب فقد علمنا سبحانه وتعالى بهذا أدبا من أكمل الآداب بما سمى إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم مع أن عملهم لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرا فيكون إنعاما عليه ويدا عنده، وإنما منفعته لهم فهو في الحقيقة من نعمه عليهم إذ هداهم إليه، وأقدرهم عليه، فهل يليق بمن يفهم هذا الخطاب الأعلى، أن يرى نعم الله عليه لا تعد ولا تحصى، وهولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما سيقت لأجله؟ ثم هل يليق به أن يرى بعض الناس يسدي إليه معروفا ثم لا يشكره له ولا يكافئه عليه، وإن كان هو فوق صاحب المعروف رتبة وأعلى منه طبقة؟ كيف وقد سمى الله تعالى جده وجل ثناؤه إنعامه على من يحسنون إلى أنفسهم وإلى الناس شكرا، والله الخالق وهم المخلوقون، وهو الغني الحميد وهم الفقراء المعوزون؟
[إن] شكر النعمة والمكافأة على المعروف من أركان العمران وترك الشكر والمكافأة مفسدة لا تضاهيها مفسدة، إذ هي مدعاة ترك المعروف كما أن الشكر مدعاة المزيد، ولذلك أوجب الله تعالى علينا شكره، وجعل في ذلك مصلحتنا ومنفعتنا، لأن كفران نعمه بإهمالها أو بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله أو بعدم ملاحظة أنها من فضله وكرمه تعالى كل ذلك من أسباب الشقاء والبلاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يستهدف هذا الدرس تصحيح عدد من القواعد التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح؛ مع الاستمرار في مواجهة يهود المدينة الذين لا يكفون عن تلبيس الحق بالباطل في هذه القواعد؛ وكتمان الحق الذي يعلمونه في شأنها؛ وإيقاع البلبلة والاضطراب فيها.. ولكن السياق يتخذ في هذا الدرس أسلوب التعميم؛ وعرض القواعد العامة، التي تشمل اليهود وغيرهم ممن يرصدون للدعوة. وكذلك يحذر المسلمين من المزالق التي تترصدهم في طريقهم بصفة عامة. ومن ثم نجد بيانا في موضوع الطواف بالصفا والمروة، بسبب ما كان يلابس هذا الموضوع من تقاليد الجاهلية. وهو بيان يتصل كذلك بمسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وإقرار شعائر الحج إلى هذا البيت. لذلك يليه في السياق بيان في شأن أهل الكتاب الذي يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى؛ وحملة عنيفة عليهم؛ مع فتح باب التوبة لمن يريد أن يتوب. فأما الذين يصرون على الكفر فيعدهم اللعنة الجامعة، والعذاب الشديد الدائم. ثم بيان لوحدانية الله، وتوجيه إلى الآيات الكونية الشاهدة بهذه الحقيقة. وتنديد بمن يتخذون من دون الله اندادا. وعرض مشهد من مشاهد القيامة للتابعين منهم والمتبوعين. يتبرأ بعضهم من بعض وهم يرون العذاب. وبمناسبة ما كان يجادل فيه اليهود من الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، مما نزل به القرآن وبيانه عندهم فيما يكتمونه من التوراة.. تجيء دعوة إلى الناس كافة للاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله؛ وتحذير من الشيطان الذي يأمرهم بالسوء والفحشاء. تليها دعوة خاصة للذين آمنوا للاستمتاع بما أحل الله لهم والامتناع عما حرم عليهم، وبيان هذه المحرمات التي يجادل فيها اليهود ويماحلون وهم يعلمون. ومن ثم حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا. وتهديد رعيب بما ينتظرهم في الآخرة من إهمال وغضب واحتقار. وفي نهاية الدرس يرد بيان عن حقيقة البر يتضمن قواعد الإيمان والعمل الصالح، يصحح به التصور الإيماني؛ فليس هو شكليات ظاهرية، وتقليبا للوجوه قبل المشرق والمغرب، ولكنه شعور وعمل وارتباط بالله في الشعور والعمل.. وتبدو العلاقة بين هذا البيان والجدل الذي ثار حول القبلة واضحة. وهكذا نجد السياق ما يزال في المعركة.. المعركة في داخل النفوس لتصحيح التصورات والموازين. والمعركة مع الكيد والدس والبلبلة التي يقوم بها أعداء المسلمين..
(ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم).. فيلمح إلى أن هذا الطواف من الخير، وبذلك ينفي من النفوس كل حرج، ويطيب القلوب بهذه الشعائر، ويطمئنها على أن الله يعدها خيرا، ويجازي عليها بالخير. وهو يعلم ما تنطوي عليه القلوب من نية وشعور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي « أسباب النزول» للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك...
{فإن الله شاكر عليم} دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيراً جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن، عليم لا يخفى عنه إحسانه، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلاّ عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله: {شاكر عليم}
والأظهر عندي أن {شاكر}: شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدي إليه نعمة، وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن...
{ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} هذا القول يقتضي أن نفهم أن الشاكر أصابته نعمة من المشكور، فما الذي أصاب الحق هنا من تكرار الحج؟. إن المؤمن عندما يؤدي ما افترضه الله عليه فهو يؤدي الفرض، لكن عندما يزيد بالتطوع حبا في النسك ذاته فهذه زيادة يشكره الله عليها، إذن فالشكر من الله عز وجل يفيد أن نعمة ستجيئ، والحق سبحانه وتعالى حين يفترض على عبد كذا من الفروض يلتزم العبد بذلك، فإذا زاد العبد من جنس ما افترضه الله عليه، فقد دل ذلك على حبه وعشقه للتكليف من الله، وإذا ما أحب وعشق التكليف من الله بدون أن يطلبه الله منه ويلزمه به بل حبّبه إليه، فهو يستحق أن يشكره الله عليه، وشكر الله للعبد هو عطاء بلا نهاية...