تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{۞إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158)

الآية 158 وقوله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) ؛ إن صعودهما من اللازم في نسكه ؛ وكذلك صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ، وقال : " نبدأ بما بدأ الله " [ مسلم : 1218 ] ، وقد قال الله تبارك ، وتعالى ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) الآية ، ولم يقل بينهما ؛ فمن لم يصعد الصفا والمروة ، فلم يطف بهما ، مع ما قال الله تعالى : ( لا تحلوا شعائر الله ) [ المائدة : 2 ] ، ففي ترك صعودهما إحلال شعائر الله ، وقد{[1843]} بين الله أنهما من شعائره . وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بينهما على ناقته " [ أحمد : 1/237 ] ومعلوم أن ناقته لا تصعدهما ، فهو عندنا للعذر فعل ذلك ؛ وقد{[1844]} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه صعدهما ، واستقبل البيت ، وقال : " نبدأ بما بدأ الله " [ مسلم : 1218 ] . دليل ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه " أنه طاف بينهما على ناقته وبالبيت لعذر به " [ أحمد : 1/237 ] . ولا يحتمل أيضا أن يكون بغير عذر ، وهو المقلب{[1845]} بالسعي لما فيه من فعل السعي ، والراكب لا يسعى .

وقال الشافعي : /23-أ/ ( روي عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة على ناقته ليري الناس " [ الشافعي في مسنده : 891 ] ، وقال : [ خبر جابر أولى من خبر ]{[1846]} ابن جبير ) ؛ فكأنه وقع عنده أنه عن ابن جبير ، وذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وهو أولى : لأن العذر كامن لا يعرف بالنظر من بعد ، وإنما يعرف بالتأمل أو بالخبر من عند ذي العذر . وعلى هذا خرج خبر ابن عباس رضي الله عنه على أن خبر جابر ، لو صح على ما يروى ، فهو لما ذكر أنه " ليرى الناس " ؛ فكأنه أراد أن يعلمهم ، [ وذلك عذر له صلى الله عليه وسلم إذ خرج مخرج التبليغ ]{[1847]} ، وذلك كالتعليم منه ، [ والتعليم ]{[1848]} عليه لازم ؛ فهو بتركه يلام عليه ، فذلك عذر ، والله أعلم ، أنه{[1849]} يجوز أن يكون فعله ذلك ليس هو فعل ما كان عليه أن{[1850]} يفعله ؟ فكان ذلك ، لمكان الدلالة للخلق بذلك ، هو الأمر المتوارث من صنيع الحج والعمرة أن الأولين{[1851]} يفعلون ما يفعل الحاج ، لا على فعل الحج ، ولكن على التعليم . فعلى{[1852]} ذلك أمر المروي عنه صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .

[ وقوله : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) فيه دلالة أن الصعود على الصفا والمروة من شعائر الله لا الطواف بينهما خاصة على ما قاله{[1853]} قوم ؛ دليله قوله : ( فلا جناح عليك أن يطوف بهما ) ولم يقل أن يطوف بينهما ، ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نبدأ بما بدأ الله " ثم صعد الصفا [ مسلم : 1218 ] ، فإن عورض بما روي أنه طاف بينهما على ناقته ، ولم يصعد ، قيل لهم : يحتمل أنه لم يصعد لما كانت الناقة لا تقدر الارتفاع به{[1854]} ولا الصعود ، أو كان به عذر ، فترك الصعود للعذر ، وقد تباح الأشياء في حال العذر ما لا يباح في غير تلك الحال ]{[1855]} .

ثم اختلف في الطواف بينهما بعد ما قيل : إن الجناح فيه لوجهين :

أحدهما : ما قيل : كان بالصفا صنم ، [ والمروة صنم ]{[1856]} ، فيتحرجون{[1857]} لمكانهما ، [ وقيل : كان بينهما ]{[1858]} أصنام ، لذلك كان حرجهم{[1859]} .

ثم قال الشافعي : ( " إن السعي بينهما مفروض حتى لو نزل الحاج خطوة منه ، وأتى أقصى بلاد المسلمين ، أمر بالعود ليضع قدمه موضعها ، ويخطو تلك الخطوة ) [ رقم الحديث في مسنده : 891 ] ، واحتج بما روت صفية بنت فلان أنها سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " إن الله كتب عليكم السعي بين الصفا والمروة فاسعوا " [ أحمد : 6/ 42 ] . وهو يأتي مرة بقبول المراسيل لتوهم الغلط ، ومرة يحتج بامرأة لا تعرف ، ولا يذكر اسمها .

والوجه فيه ، إن ثبت ، وصح أن الكتاب يحتمل غير ما قاله ، وهو أن يقال : كتب أي حكم ، كقوله : ( في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين ) [ الأحزاب : 6 ] ، [ وقوله ]{[1860]} : ( كتاب الله عليكم ) [ النساء : 24 ] ؛ قيل : به حكم الله عليكم .

وقال آخرون : ليس بفرض ولا لازم ، واحتجوا بما ذكر في حرف [ أبي بن كعب ]{[1861]} : ( فلا جناح عليه ) ألا ( أن يطوف بهما ){[1862]} ، ولا يذكر ذلك في شيء واجب .

والثاني : أن هذه اللفظة لفظة رخصة ، ولا يرخص بترك ما [ هو ]{[1863]} فرض أو لازم .

ثم الجواب عن الحرف الأول أن اللاءات{[1864]} ربما تزاد ، وتنقص ، ولا توجب زيادتها ونقصانها بغير حكمها كقوله تعالى : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] أي لا تضلوا ، ومثل هذا كثير في القرآن .

[ والجواب عن ]{[1865]} الثاني : ما ذكرنا أن المسلمين كانوا يتحرجون عن الطواف بينهما لمكان الأصنام ، فبين عز وجل أن لا حرج عليهم في ذلك ، لا أن ليس الجناح يدفع الحرج في تركه .

وأما عندنا : [ فهو لازم ؛ لأنه نوع ما لا يتبرع به . والأصل عندنا ]{[1866]} : أن ما لا يتبرع به يخرج الأمر به مخرج الوجوب واللزوم كالطواف وسجدة التلاوة وكالوتر والأضحية وغيره . وقد روي عن عائشة /23-ب/ رضي الله عنها أنها قالت : ( ما تم حج امرئ قط إلا بالسعي ) ، فهو وصف [ بالنقصان لا وصف ]{[1867]} بالفساد ، وفرق بين التمام من النقص ويبن الجواز من الفساد .

وقوله : ( فإن الله شاكر عليم ) : [ قيل ( شاكر ) أي يجزيهم جزاء الخطير بعمل اليسير ، وقيل : يقبل القليل ، ويعطي الجزيل ، وهو واحد ]{[1868]} عامل الله عز وجل بكرمه ولطفه عباده معاملة من لا حق له في أموالهم وأنفسهم ؛ حين وعد قبول اليسير من العمل وإعطاء الجزيل من الثواب ؛ وحين طلب منهم الإقراض ، ووعد لهم العظيم من الجزاء كمن لا حق له فيها بقوله : ( وأقرضوا لله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ) [ المزمل : 20 ] ، وحين خرج القول منه في الابتلاء والامتحان مخرج{[1869]} الاعتذار لهم كان لا حق له فيه بقوله : ( ولبنلونكم بشيء من الخوف ) الآية [ البقرة : 155 ] ، ثم بشر لهم بالجنة بما صبروا على أخذ ماله أخذه ، وهو من غاية اللطف والكرم .


[1843]:- في ط ع: إذ قد.
[1844]:- في النسخ الثلاث: وإلا فإنه قد.
[1845]:- من ط ع و م، في الأصل: المقلب.
[1846]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[1847]:ساقطة من ط ع.
[1848]:من ط ع و م، ساقطة من الأصل
[1849]:- أدرج قبلها في النسخ الثلاث: وأيضا.
[1850]:- في النسخ الثلاث: أنه كيف كان.
[1851]:- في الأصل وم: الأولي، ولعل الناسخ أراد الأوالي، فسقطت الألف من رسمه، في ط ع: الأوال، ولعل الناسخ أراد الأواول، فسقطت الألف والواو في رسمه.
[1852]:- من ط ع، في الأصل و م: فعل.
[1853]:- من م، في الأصل: على ماه.
[1854]:- في الأصل و م: بهم.
[1855]:- ساقطة من ط ع.
[1856]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[1857]:- في النسخ الثلاث: فيخرجوا.
[1858]:- من ط ع و م، ساقطة من الأصل.
[1859]:- في النسخ الثلاث: يخرجهم.
[1860]:- من ط ع.
[1861]:- في الأصل و م: أبي، في ط ع: آتى.
[1862]:- انظر المحتسب 1/ 115.
[1863]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[1864]:- في النسخ الثلاث: الذات.
[1865]:في النسخ الثلاث: و.
[1866]:- من ط ع.
[1867]:- ساقطة من ط ع.
[1868]:- من ط ع، وأدرجت في الأصل وم بعد العبارة: غاية اللطف والكرم.
[1869]:- في الأصل و م: يخرج.