/ { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ومن تطوّع خيرا فإن الله شاكر عليم 158 } .
قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما } ( الصفا والمروة ) : علمان لجبلين بمكة . ومعنى كونهما من شعائر الله : من أعلام مناسكه ومتعبّداته .
قال الرازيّ : كل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله ، فهو من شعائر الله . قال الله تعالى : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } {[889]} أي : علامة للقربة . وقال : { ذلك ومن يعظّم شعائر الله } {[890]} ، وشعائر الحج معالم نسكه . ومنه المشعر الحرام . ومنه إشعار السنام – وهو أن يعلم بالمدية – فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها ، وعلى أنه قد جعله هدياً لبيت الله . و( الشعائر ) جمع شعيرة وهي العلامة ، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ، ومنه قولك : شعرت بكذا أي علمت انتهى .
/ و( الحج ) في اللغة : القصد و( الاعتمار ) : الزيارة . غُلِبَا في الشريعة على قصد البيت وزيارته ، على الوجهين المعروفين في النسك . و( الجُناح ) بالضم : الإثم والتضييق والمؤاخذة . وأصل ( الطواف ) : المشي حول الشيء . والمراد : السعي بينهما .
وقد روي في سبب نزول الآية عدة روايات :
ولفظ البخاري عن عروة قال{[891]} : ( سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما } فوالله ! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ! قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ! إن هذه لو كانت كما أوّلتَها عليه ، كانت : لا جناح عليه أن يتطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار . كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل . فكان مَن أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة . فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ قالوا : يا رسول الله ! إنا كنا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله . . . . . } الآية .
قالت عائشة رضي الله عنها : وقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما .
ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمان فقال : إن هذا لعلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس – إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة – كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن ، قالوا : يا رسول الله ! كنا نطوف بالصفا والمروة . وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا . فهل علينا من حرج أن نطَّوَّف بالصفا والمروة ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله . . . } الآية .
/ قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما : في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرّجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام ، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا ، حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت ) .
وفي رواية معمر عن الزهري : ( إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة ) ، أخرجه البخاري تعليقا ، ووصله أحمد وغيره .
وأخرج مسلم{[892]} في رواية يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير ( أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا ، هم وغَسَّانُ ، يهلّون لمناة ، فتحرّجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، وكان ذلك سنّةً في آبائهم : من أحرم لمناةَ لم يطف بين الصفا والمروة . وإنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا . فأنزل الله عز وجل في ذلك : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما ومن تطوّع خيرا فإن الله شاكر عليم } ) .
وروى الفاكهيّ عن الزهريّ : ( أن عمروا بن لحيّ نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قُدَيْد . فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها ، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلّوا لها . فمن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة . قال : وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ومن دان دينهم من أهل يثرب ) .
وروى النسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارثة{[893]} قال : ( كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما " إساف ونائلة " كان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما . . . ) الحديث .
وروى الطبراني وابن أبي حاتم في ( التفسير ) بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال : / ( قالت الأنصار : إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية . فأنزل الله عز وجل : { إن الصفا والمروة . . . } الآية ) .
وروى الفاكهيّ وإسماعيل القاضي في ( الأحكام ) بإسناد صحيح عن الشعبيّ قال : ( كان صنم بالصفا يدعى ( إساف ) ، ووثن بالمروة يدعى ( نائلة ) ، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما . فلما جاء الإسلام رمى بهما ؛ وقالوا : إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم ، فأمسكوا عن السعي بينهما ، قال : فأنزل الله تعالى : { إن الصفا والمروة . . . } الآية ) .
وقد استفيد من مجموع هذه الروايات أنه تحرّجَ طوائف من السعي بين الصفا والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكل . والله أعلم .
وجواب عائشة ، رضي الله عنها ، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ . لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمّن يطوف بهما ، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه . { ومن تطوّع خيرا فإن الله شاكر عليم } أي : من فعل خيرا فإن الله يشكره عليه ويثيبه به . ومعنى ( تطوّع ) أتى بما في طوعه أو بالطاعة ، وإطلاقه على ما لا يجب عرفٌ فقهيّ لا لغوي . و( الشكر ) من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل .
قال الراغب : الشكر ، كما يكون بالقول ، يكون بالفعل ، وعلى ذلك قوله تعالى : { اعملوا آل داود شكرا } {[894]} ؛ قال : وليس شكر الرفيع للوضيع إلا الإفضال عليه وقبول حمد منه .
الأول : تمسّك بعضهم بقوله تعالى : { ومن تطوّع خيرا } على أن السعي سنّة ، وأن من تركه لا شيء عليه . فإن كان مأخذه منها : إن التطوع التبرّع بما لا يلزم فقد قدمنا أنه عرف فقهي لا لغوي ، فلا حجة فيه . وإن كان نفي الجناح ، فقد علمت المراد منه .
وممن ذهب إلى أنه سنّة ، لا يجبر بتركه شيء ، أنس فيما نقله ابن المنذر وعطاء . نقله ابن حجر في ( الفتح ) .
وقال الرازي : روى عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء ، أن من تركه فلا شيء عليه . وأما حديث{[895]} : ( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ) رواه أحمد وغيره ، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل ، وفيه ضعف .
ومن ثم قال ابن المنذر : إن ثبت فهو حجة في الوجوب . ذكره الحافظ بن حجر في ( الفتح ) .
الثاني : صح أنه{[896]} صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة سبعا ، رواه الشيخان / وغيرهما عن ابن عمر . وأخرجه مسلم وغيره{[897]} من حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا فَعَلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه ، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو ) . وأخرج أيضا{[898]} من حديث جابر : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } . أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحّد الله وكبّره قال : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) ثم دعا بين ذلك ، فقال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي ، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا ) اه . وظاهر هذا أنه كان ماشيا .
وقد روى مسلم{[899]} في ( صحيحه ) عن أبي الزبير : أنه سمع جابر ابن عبد الله يقول : ( طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت ؛ وبين الصفا والمروة ، ليراه الناس ، وليشرف وليسألوه ، فإن الناس غشُوه ) .
ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا .
قال ابن حزم : ( لا تعارض بينهما ، لأن الراكب إذا انصبّ به بعيره فقد انصبّ كله وانصبّت قدماه أيضا مع سائر جسده ) .
/ وعندي – في الجمع بينهما- وجه آخر أحسن من هذا وهو : أنه سعى ماشيا أوّلا ، ثم أتم سعيه راكبا ، وقد جاء ذلك مصرّحا به .
ففي ( صحيح مسلم ) {[900]} عن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس : ( أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا ؛ أسنّة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة ! قال : صدقوا وكذبوا . . ! – قال – قلت : ما قولك صدقوا وكذبوا . . ؟ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس . يقولون هذا محمد . . ! حتى خرج عليه العواتق من البيوت – قال – وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ الناس بين يديه – فلما كثر عليه ركب . والمشي والسعي أفضل ) .
وفي ( الصحيحين ) {[901]} عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليُرِيَ المشركين قوّته . . . ) !
وعن كريب مولى ابن عباس : أن ابن عباس قال{[902]} : ( ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة بسنة ، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون : لا نُجِيزُ البطحاء إلا شدًّا . . ! ) رواه البخاري تعليقا ، ووصله أبو نعيم في ( مستخرجه ) . قال شرّاح ( الصحيح ) : المراد بالسعي المنفي هو شدة المشي والعدو . فهو ، رضي الله عنه ، لم ينف سنية السعي المجرد ، بل مجاوزة الوادي بقوة وعدْوٍ شديد ، إذ أصل السعي هديه صلى الله عليه وسلم والله أعلم .
/ الثالث : في البخاري{[903]} عن ابن عباس في قصة هاجر أم إسماعيل : إن الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتردادها في طلب الماء . ولفظه : ( وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوّى ( أو قال ، يتلبط ) فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحد . ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا . . . ) الحديث .
قال ابن كثير : لما ترددت هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة ، تطلب الغوث من الله تعالى متذللة ، خائفة ، مضطرة ، فقيرة إلى الله عز وجل ، كشف تعالى كربتها ، وآنس غربتها ، وفرّج شدّتها ، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم ، وشفاء سقم . فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه ، وصلاح حاله ، وغفران ذنبه ، وأنه يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب ، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم ، وأن يثبته عليه إلى مماته ، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه – من الذنوب والمعاصي – إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة ، كما فعل بهاجر عليها السلام .