قوله : ( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ) [ 157 ] .
إلى قوله : ( لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [ 163 ] .
الصفا والمروة جبلان متحاذيان( {[4908]} ) بمكة معروفان ، ولذلك دخلت الألف واللام فيهما للتعريف( {[4909]} ) .
وجمع الصَّفَا أَصْفَاء كَرَحَا وأَرْحَاء . ويجوز في جمعه : صُفِيٌّ وصِفِيٌّ( {[4910]} ) ، كَعَصَا وَعُصِيُّ وعِصِيٌّ( {[4911]} ) .
وجمع مَرْوَة مَرْو [ كَتَمْرَةٍ وَثَمْرٍ ]( {[4912]} ) ، وإن شئت مَرَوَاتٍ كَتَمَرَاتٍ( {[4913]} ) .
والصفا في اللغة الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئاً( {[4914]} ) .
وقوله : ( مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ) .
أي : من معالم الله التي جعلها لعباده( {[4915]} ) مشعراً يعبدونه عندها إما بالدعاء وإما بالصلاة ، وإما بأداء ما افترض عليهم من العمل عندهما .
وقيل : شعائر الله( {[4916]} ) من أعلام الله التي تدل على طاعته من موقف ومشعر ومذبح ، والواحدة شعيرة من " شَعَرْتُ بِهِ " ( {[4917]} ) .
وكان مجاهد يرى أن الشعائر( {[4918]} ) جمع شعيرة من إشعار الله تعالى عباده ما يجب عليهم من طاعته ، قال : " أَشْعَرْتُهُ بِكَذَا " ، أي : أعلمته به( {[4919]} ) . وقال الطبري( {[4920]} ) : " إنما أعلم الله عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر( {[4921]} ) الحج التي سنّها الله تعالى لهم ، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ( {[4922]} ) سأله أن يريه مناسك الحج ، وهو [ خبر يراد به ]( {[4923]} ) الأمر لأن الله سبحانه قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين باتباع ملة إبراهيم( {[4924]} ) .
ثم قال : ( فَمَن حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَّطَّوَّفَ بِهِمَا ) [ 157 ] .
هذه الآية نزلت في سبب أقوام( {[4925]} ) من المؤمنين قالوا في سبب أصنام كانوا يطوفون بها في الجاهلية قبل الإسلام تعظيماً لها : كيف [ نطوف بها ، وقد ]( {[4926]} ) علمنا أن تعظيم( {[4927]} ) الأصنام وجميع ما كانوا يعبدون من دون( {[4928]} ) الله( {[4929]} ) عز وجل/شرك بالله سبحانه ؟ فلا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله عز وجل . فأنزل الله تعالى في ذلك ( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَّطَّوَّفَ بِهِمَا ) من أول الآية( {[4930]} ) .
والجناح الإثم ، مأخوذ من قولهم : " جَنَحَ عَلَيْهِ " إذا مال ، و( {[4931]} ) " جَنَحَ عَنِ الحَقّ " إذا مال عنه( {[4932]} ) . ومنه سمي جناح الطائر لأنه مائل في ناحية ، وقوله ( وَاضْمُمِ اِلَيْكَ جَنَاحَكَ )( {[4933]} ) : معناه يدك لأنها( {[4934]} ) في موضع الجناح( {[4935]} ) . والهاء في ( عَلَيْهِ ) تعود على ( مَنْ ) . و " من " تصلح للحاج أو( {[4936]} ) المعتمر .
قال السدي : " ليس عليه إثم ، ولكن له أجر " ( {[4937]} ) .
قال الشعبي( {[4938]} ) : " كان على الصفا في الجاهلية صنَم يسمى " إِسافٌ " ، وعلى( {[4939]} ) المروة وثن( {[4940]} ) يسمى " نَائِلَةٌ " ، فكانوا في الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوَثنَين . فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام امتنع المسلمون من الطواف بالصفا/والمروة لأجل الصنمين ، فأنزل الله عز وجل ( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ ) الآية( {[4941]} ) .
وذُكر الصفا لأن الصنم/الذي كان عليه مذكر –يعني إسافاً( {[4942]} )- وأُنِثَ المروة لأن الوثن التي كانت عليه مؤنثة –يعني( {[4943]} ) نائلة( {[4944]} )- .
وقال أنس بن( {[4945]} ) مالك : " كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت هذه الآية " ( {[4946]} ) .
وقال عروة : " قلت لعائشة رضي الله عنها –وأنا يومئذ حديث السن- : أرأيت قول الله عز وجل : ( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَّطَّوَّفَ بِهِمَا ) ، فما أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف( {[4947]} ) بهما " . قالت عائشة : كلا ، لو كانت كما تقول كانت : " فلا جناح عليه ألا( {[4948]} ) يطوف بهما " إنما نزلت هذه الآية في الأنصار ؛ كانوا يهلون لمناة ، وكانت مناة حذو قديد( {[4949]} ) ، وكانوا يتحرجون أن( {[4950]} ) يطوفوا بين الصفا والمروة . فلما جاء الإسلام ، سألوا [ رسول الله( {[4951]} ) ] صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله [ جل ذكره( {[4952]} ) ] : ( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ ) الآية( {[4953]} ) . وهو قول مجاهد وابن زيد( {[4954]} ) .
وعن ابن عباس أنه( {[4955]} ) قال : " كان في الجاهلية شياطين تعزف( {[4956]} ) الليل بين الصفا والمروة ، وكانت بينهما آلهة . فلما جاء الإسلام قال المسلمون : يا رسول الله : لا نطوف( {[4957]} ) بين الصفا والمروة فإنه شرك/كنا نضعه في الجاهلية ، فأنزل الله : ( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَّطَّوَّفَ بِهِمَا ) " ( {[4958]} ) .
وقال قتادة : " كان حي تهامة في الجاهلية لا يسعون بين الصفا والمروة ، فأخبرهم الله عز وجل أن الصفا والمروة من شعائر الله( {[4959]} ) " .
والحج في اللغة القصد . يقال : " حججت إليه " بمعنى قصدت/إليه( {[4960]} ) . وقيل : الحج التكرر في الإتيان مرة بعد مرة . فمن أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج . فعلى هذا إنما قيل للحجاج حاج لأنه يتكرر إلى البيت وقت الدخول ووقت الإفاضة وفي غير ذلك( {[4961]} ) .
وقيل للمعتمر معتمر ، لأنه إذا طاف انصرف بعد زيارته . فمعنى الاعتمار الزيارة ، وكل من زار إنساناً( {[4962]} ) فهو له معتمر ، يقال : " اعْتَمَرْتُ فُلاَناً " ، أي : قصدته( {[4963]} ) .
والطواف بين الصفا والمروة عند مالك والشافعي فرض ؛ فمن نسي ذلك رجع وسعى ، وإن بَعُد ، فإن كان قد أصاب النساء ، فعليه عمرة وهدي مع تمام سعيه إذا رجع( {[4964]} ) . ومذهب الثوري وأبي حنيفة( {[4965]} ) وأبي يوسف( {[4966]} ) أن يجزيه دم إن نسي السعي بينهما ، ولا عودة عليه إلا أن يشاء ذلك( {[4967]} ) .
وقال عطاء : " هو تطوع ولا شيء عليه إذا نسي ذلك " . واحتج بأن في( {[4968]} ) قراءة ابن عباس : ( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَّطَّوَّفَ بِهِمَا )( {[4969]} ) . وكذلك هي في مصحف ابن( {[4970]} ) مسعود( {[4971]} ) .
وكذلك روي عن أنس بن( {[4972]} ) مالك أنه قال : " هو تطوع " ( {[4973]} ) . وروي ذلك عن مجاهد( {[4974]} ) .
والعمل على القول الأول الأول لإجماع المصاحف المعمول عليها ، المجتمع على ما فيها من إسقاط " لا " منها كلها( {[4975]} ) . وإيجابها عن ابن عباس أشهر وأوضح( {[4976]} ) . والإسناد عن أنس ضعيف( {[4977]} ) .
وجميع من( {[4978]} ) قرأ على مجاهد من الأئمة المشهورين لم ينقل عنه إلا بغير " لا " . وقد روى جابر عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ]( {[4979]} ) أنه( {[4980]} ) : " لَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا فِي حَجَّتِهِ قَالَ : " إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ ، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ " ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى( {[4981]} ) عَلَيْهِ " ( {[4982]} ) .
ثم قال : ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) [ 157 ] . أي : شاكر( {[4983]} ) له على تطوعه ، عليم بما تطوع .
وقال ابن زيد : " معناه : فمن تطوع خيراً فاعتمر ، فإن الله شاكر عليم ، والعمرة/تطوع ، والحج فرض " ( {[4984]} ) .