اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158)

في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ .

أحدُهَا : أَنَّهُ سبحانَهُ وتعالَى بَيَّنّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّل القبْلةَ إلى الكعبة ؛ ليتُمَّ إِنْعامَه علَى محمَّد [ صلواتُ البَرِّ الرِّحيم وسلامُهُ علَيْه ] وأمّتِهِ بإِحْيَاءِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهيم - علَيه الصَّلاةُ والسلام - لقوله تعالى :

{ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 150 ] ، وكان السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا والمَرْوَة مِنْ شَرِيعَة إِبْرَاهِيمَ [ علَيْه الصَّلاةُ والسَّلاَمُ ] فذكَرَ هذا الحُكْمَ عَقبَ تلْكَ الآيَةِ .

وقِيلَ : إنَّه تبارك وتَعالَى [ لَمَّا ] أَمَرَ بالذِّكْر مُطْلَقاً في قَوْله تعالى : " فَاذكرُونِي " بيّن الأَحوالَ الَّتي يذكر فيها وإحداها الذِّكْر مُطْلقاً .

والثَّانية : الذكْرُ في حَال النِّعْمَةِ ، وهو المرادُ بقوله تعالى :

{ وَاشْكُرُواْ لِي } [ البقرة : 152 ] .

الثالثةُ : الذّكْر في حَال الضَّرَّاءِ ، فقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ } إلى قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] ثم بَيَّنَ في هذه الآيةِ المَوَاضِع الَّتِي يُذْكَرُ فيها ، ومِنْ جُمْلَتِها عنْد الصَّفَا والمَرْوَةِ ، وبَقِيَّة المشَاعِر .

وثانيها : أَنَّهُ لمّا قال سبْحَانه : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ } [ الآية ] إلى قوله سبحانَهُ : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِين } ، ثم قَالَ [ عَزَّ وَجَلَّ ] : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ } ، وإنما جَعَلَهَا كذلك ، لأنَّها مِن أثار " هَاجَرَ ، وإسْمَاعِيل " ، وما جَرَى [ عليْهمَا ]{[1969]} من البَلْوَى ويُستَدَلُّ بِذلك عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى البَلْوَى ، لا بُدَّ وأَنْ يَصِلَ إِلَى أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ .

وثالثها : أنَّ [ أقسام ]{[1970]} التَّكْليفِ ثَلاثَةٌ :

أحدها : ما يَحْكُمُ العاقلُ [ بِحُسْنِهِ ]{[1971]} في أَوْلِ الأَمْرِ ، فَذَكَرَهُ أَوَّلاً ، وهو قوله تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } ؛ فَإنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أنَّ ذِكْرَ المُنْعِمِ بالمَدْحِ ، والشُّكْرِ ، أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ في العَقْلِ .

وثانيها : ما يَحْكُمُ العَقْلُ [ بقُبْحِهِ ]{[1972]} في أوَّل الأَمْر ، إلاَّ أنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْع به ، وَبَيَّنَ الحِكْمَةَ فِيهِ ، [ وهي ]{[1973]} الابْتِلاءُ ، والامْتِحَانُ ؛ عَلى ما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ } ، فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ المسلمُ حُسْنَهُ ، وكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً .

[ وثالثها ] : ما لا يَهْتَدِي العَقْلُ إلى حُسْنِهِ ، وَلاَ إلى [ قُبْحِه ] ، بَل [ يراها ] كالعَبَثِ الخَالِي عن المنفَعَةِ والمَضَرَّةِ ، وهُوَ مِثْلُ أَفْعالِ الحجِّ مِنَ السَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ ، فذكر الله تعالى هذا القِسْمَ عَقِيبَ القِسْمَين الأَوَّلَيْنِ ؛ ليكونَ قد نَبَّهَ على جميع أقْسَامِ التكاليفِ .

قوله [ تعالى ] : " إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ " : [ الصَّفَا : ] اسمُ " إنَّ " ، و " مِنْ شَعَائِر الله " خَبَرُهَا .

قال أبُوا البَقَاءِ{[1974]} - رحمه الله تعالى - : وفي الكَلاَم حَذْفُ مُضَافٍ ، تقديره " طَوَافُ الصَّفَا ، أَوْ سَعْيُ الصَّفَا " . وألفُ " الصَّفَا " [ مُنْقَلِبَةٌ ] عن وَاوٍ ؛ بِدَلِيل قَلْبِهَا في التثنية وَاواً ؛ قالوا : صَفَوَانِ ؛ والاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً ؛ لأنَّهُ مِنَ الصَّفْو ، وهو الخُلُوصُ ، [ والصَّفَا : الحَجَرُ الأمْلَسُ ] .

وقال القُرْطُبِي{[1975]} : " والصَّفَا مقصورٌ " جمع صَفَاة ، وهي الحِجَارة المُلْسُ .

وقيل : الصَّفَا اسْمٌ مُفْرَدٌ ؛ وجمعه " صُفِيٌّ " - بِضَمِّ الصاد - [ وَأصْفَاء ] ؛ على [ وزن ]{[1976]} أَرْجَاء .

قال [ الرَّاجِزُ ] : [ الرجز ]

850 - كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ *** مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ{[1977]}

وقيل : مِنْ شُرُوط الصَّفَا : البَيَاضُ والصَّلاَبَةُ ، واشتقاقُهُ مِنْ : " صَفَا يَصْفُو " ، أيْ : [ أُخْلِصَ مِن ] التُّرابِ والطِّينِ ، والصَّفَا : الحَجَرُ الأَمْلَسُ .

وفي كتاب الخَلِيل{[1978]} : الصَّفَا : الحَجَرُ الضَّخْمُ الصُّلْبُ الأَمْلَسُ ، وإذا [ نَعتُوا ] الصَّخْرةَ ، قالوا : صَفَاةٌ صَفْوَاءُ ، وإذَا ذَكَّرُوا ، قالوا : " صَفاً صَفْوَان " ، فجعلوا الصَّفَا [ والصَّفَاة ] كَأَنَّهما في معنى واحد .

قال المُبَرِّدُ{[1979]} : " الصَّفَا " : كُلُّ حَجَرٍ أَمْلَسَ لا يُخالِطُهُ غَيْرُهُ ؛ مِنْ طِين أو تُرَابٍ ، وَيَتَّصِلُ به ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَجَمْعِهِ تَاءُ التأنيث ؛ نحْوُ : صَفاً كَثِيرٌ ، وَصَفَاةٌ وَاحِدَةٌ ، وقد يُجْمَعُ الصَّفَا على : فُعُولٍ ، وأَفْعَال ؛ قالوا : صُفِيٌّ ، بِكَسْر الصاد ، وضَمِّها ؛ كعُِصِيٍّ ، [ وأصْفَاء ] ، والأصلُ صُفووٌ ، وأضْفَاوٌ ، وقُلِبَتِ الواوُ في " صُفُووٌ " يَاءَين ، والواوُ في " أَصْفَاو " هَمْزةً ؛ ك " كِسَاء " وبابه ]{[1980]} .

والمَرْوَةُ : الحجارةُ الصِّغَارُ ، فقيل : اللَّيِّنَة .

وقال الخَلِيلُ{[1981]} : البيضُ الصُّلْبَة ، الشَّدِيدَةُ [ الصَّلاَبَة ] .

وقِيل : المُرْهَفةُ الأَطْرافِ . وقِيل : البيضُ .

وَقِيلَ : السُّودُ . وهُمَا في الآية عَلَمَان لِجَبَلَينِ مَعْرُوفَيْنِ ، والألِفُ واللاَّمُ فيهما لِلْغَلَبَةِ ؛ كهما في البيت ، والنَّجْم ، وجَمْعُها مَرْوٌ ؛ كقوله [ في ذلك ] : [ الرمل ]

851 - وَتَرَى المَرْوَ إذَا ما هَجَّرَتْ *** عَنْ يَدَيْهَا كَالْفَرَاشِ المُشْفَتِرْ{[1982]}

وقال بعضهم : جَمْعُه في القَليلِ : مَرَواتٌ ، وفي الكثير : مرو . قال أبو ذُؤَيْب : [ الكامل ]

852 - حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوِادِثِ مَرْوَةٌ{[1983]} *** [ بِصَفَا المُشَقَّرِ{[1984]} كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ{[1985]} ]{[1986]}

فصل في حد الصفا والمروة

قال الأَزْرَقِيّ{[1987]} : [ ذَرْعُ ]{[1988]} ما بَيْن الصَّفا والمَرْوَة : [ سَبْعمائة ذراع وسِتَّةٌ وَسِتُّون ذِرَاعاً ]{[1989]} وَنِصْفُ ذِرَاعٍ .

قال القُرْطُبِيُّ : وَذَكَرَ الصَّفَا ؛ لأنَّ آدَمَ [ المُصْطَفى - [ صلواتُ الله ، وسلامه عليه ] - وَقَفَ عَلَيْهِ ، فسُمِّيَ به ؛ وَوَقَفَتْ حَوَّاءُ عَلَى المَرْوَةِ ، فَسُمِّيَتْ بِاسم المَرْأةِ ، فأنثت لذلك ، والله أعلم ]{[1990]} .

قَالَ الشَّعْبِيُّ : كان عَلَى الصَّفَا صنمٌ يُدْعَى " إسَافاً " ، وعلى المَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعَى نَائِلَةَ{[1991]} ، فاطّرد ذلك في [ التذكير والتأنيث ] ، وقُدّم المُذَكَّرُ ، وما كان كَرَاهةُ مَنْ كَرِهَ الطَّوَافَ بينهما إلاَّ مِنْ أَجْلِ هذا ، حتَّى رفع الله الحَرَجَ من ذلك ، وزعَمَ أَهْلُ الكِتَابِ : أَنَّهما كانا آدميّين زنيا في الكَعْبَة ، فمسَخَهُما اللَّهُ حَجَرَين ، فوضَعَهُما على الصَّفَا ، والمَرْوَة ؛ ليُعتبر بهما ؛ فلمَّا طالَت المُدَّةُ ، عُبدا مِن دُون الله ، والله - تعالى - أعلم .

فصل في معنى " الشعائر "

و " الشَّعَائِرُ " : جَمْهُ شَعِيرَةٍ ، وهي العلامة ، فَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَماً مِنْ أعلام طاعةِ الله ، فهو من شَعَائِر الله تعالى . قال تبارك وتعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } [ الحج : 36 ] ، أي : عَلامَةً [ للقُرْبَة ] ، ومنه : إشعارُ السَّنَام [ وَهُو أن تُعْلَمَ بالمُدْيَة ] وَمِنْهُ : الشِّعارُ في الحَرْب ، [ وهي العلامةُ الَّتي يتبيَّن بها إحدى الفئَتَين من الأخْرَى ]{[1992]} ومنه قولُهُمْ : شَعَرْتُ بِكَذَا ، أي : عَلِمْتُ به ، وقيل : الشَّعَائِرُ جمع [ شَعِيرَةٍ ] ، والمرادُ بها في الآية الكريمة مَنَاسِكُ الحَجِّ ، ونقل الجَوْهَرِيُّ أنَّ الشَّعَائِرَ هي العباداتُ ، والمَشَاعِرَ أماكنُ العبَادَاتِ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّعَائِرِ وَالمَشَاعِرِ .

وقال الهَرَوِيٌّ : الأجْوَدُ : لا فَرْقَ بينهما ، والأَجْوَدُ شَعَائرُ بالهَمْز ؛ لزيادة حَرْفِ المَدِّ ، وهو عكسُ " مَعَايش " و " مصايب " .

فصل في الشعائر هل تحمل على العبادات أو على موضع العبادات

الشَّعَائِرُ : إمَّا أنْ نَحْمِلَهَا على العبادات ، أو النُّسُك ، أو نَحْمِلَهَا على مَوْضِع العبادات والنُّسُكِ ؟ !

[ فإن قُلْنَا بالأَوَّلِ ، حَصَلَ في الكَلاَم حَذْفٌ ؛ لأنَّ نَفْسَ الجَبَلين لا يَصِحُّ وَصْفُهُمَا بأنَّهُمَا دِينٌ وَنُسُكٌ ؛ فالمرادُ بِهِ أنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا أو السَّعْيَ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى .

وإنْ قُلنا بالثاني : اسْتَقَامَ ظَاهِرُ الكلام ؛ لأنَّ هَذَين الجَبَلَيْنِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَا مَوْضِعَيْنِ لِلْعِبَادَةِ والنُّسُكِ ]{[1993]} .

وكيف كان ؛ فالسَّعْيُ بينهما من شعائر الله ، ومن أعلام دِينهِ ، وقد شَرَعَهُ الله [ تَعَالى ] لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - [ ولإبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام ] ، قبل ذلك ، وهو من المَنَاسِكِ الَّتي عَلَّمها الله [ تَعَالى ] لإبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسلام - إجابةً لِدَعْوَتِهِ في [ قولِهِ تَعَالى ] : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } .

وَاعْلَمْ أنَّ [ السَّعْيَ ليْسَ ]{[1994]} عبادَةً تامَّةً في نَفْسِهِ ، بل إنما يَصِيرُ عبادة إذا صار بعضهاً من أبْعاضِ الحجِّ والعُمْرَةِ ، فلهذا بَيَّنَ الله تبارك وتعالى المَوْضِعَ الَّذِي يَصِيرُ فيه السَّعْيُ عبادةً ، فقال [ سبحانه ] : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .

والحكمةُ في شَرْعِ هذا السّعي : ما حُكِيَ أن هَاجَرَ حينَ ضاق بها الأَمْرُ في عَطَشها ، وعطشِ ابْنها إسْمَاعيلَ ، سَعَتْ في هذا المكانِ إلى أن صَعِدَتِ الجَبَلَ ، ودَعَتْ ، فأَنْبَعَ اللَّه لَهَا زَمْزَمَ ، وأجاب دُعَاءَها ، وجعل فِعْلَها طاعةً لجميع المكلَّفين إلى يَوْم القيَامَة .

قوله [ تعالَى ] : " فَمنْ حَجَّ البَيْتَ " .

" مَنْ " : شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ و " حَجَّ " : في مَوْضِع جزمٍ بالشرط و " البيت " نصبٌ على المفعول به ، لا على الظَّرْف ، والجوابُ قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ } .

و " الحَجُّ " : قال القَفَّال{[1995]} - رحمه الله - فِيه أَقْوَالٌ :

أحدها : أنَّ الحَجَّ في اللغةِ كَثْرَةُ الاخْتِلافِ إلى الشَّيءِ والتردُّد إليه ، فإنَّ الحاجَّ يأتيه أوّلاً ؛ لِيَزُورَهُ ، ثُمَّ يعودُ إلَيْه للطَّوَاف ، ثم ينصرفُ إلى مِنَى ، ثم يَعُودُ إليه ؛ لطَوَافِ الزِّيارة ، [ ثم يَعُودُ لطَوافِ الصَّدر ]{[1996]} .

وثانيها : قال قُطْرُبٌ [ الحَجُّ ]{[1997]} الحَلْقُ ، يقال : احْجُجْ شَجَّتَكَ ، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشَّجَّة ؛ ليدخل القدحُ في الشَّجَّة{[1998]} .

وقال الشاعر : [ الطويل ]

853 - وَأشْهَد مِنْ عوفٍ حُلُولاً كَثِيرَةً *** يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا{[1999]}

" السِّبُّ " : لفظٌ مشتَرَكٌ{[2000]} ، قال أبُو عُبَيْدَةَ : السِّبُ ، بالكَسْرِ : السِّبَابُ ، وَسِبُّكَ أيضاً : الذي يُسَابُّكَ ؛ قال الشاعر : [ الخفيف ]

854 - لاَ تَسُبَّنَّني فَلَسْتَ بِسِبِّي *** [ إنَّ سِبِّي ] مِنَ الرِّجَالِ الكَرِيمُ{[2001]}

والسِّبُّ أيضاً : الخِمَارُ والعِمَامَةُ .

قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ : [ الطويل ]

855 - . . . *** يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا{[2002]}

والسِّبُّ أيضاً : الحَبْلُ في لغة هُذَيل ؛ قال أبُو ذُؤَيْبٍ : [ الطويل ]

856 - تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ ***ِ جَرْدَاءَ مِثْل الوكْفِ يَكْبُوا غُرابُهَا{[2003]}

والسُّبُوبُ : الحِبَالُ ، والسِّبُّ : شُقّة كتان رقيقة والسُّبيبة مثله ، والجَمْعُ : السُّبُوب والسَّبَائب ، قاله الجَوْهَرِيُّ{[2004]} ؛ فيكون المَعنَى : حَجَّ فلانٌ ، أي : حَلَّقَ .

قال القَفَّالُ{[2005]} - رحِمَهُ الله تعالى - : وهذا مُحْتَملٌ ؛ كقوله تعالى :

{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } [ الفتح : 27 ] ، أي : حُجَّاجاً وعُمَّاراً ؛ فَعَبَّرَ عَنْ ذلك بالحَلْق ، فلا يَبْعُدُ أن يكون الحَجُّ مُسَمَّى بهذا الاسمِ لمعنى الحَلْقِ .

وثالثها : الحَجُّ : القَصْدُ .

ورابعها : الحَجُّ في اللغة : القَصْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى .

قال الشاعر : [ البسيط ]

857 - يَحُجَّ مَأْمُومَةً ي قَعْرِهَا لَجَفٌ *** . . . {[2006]}

اللَّجَفُ : الخَسْفُ أسْفَلَ البئرِ ، نقله القُرْطُبيُّ{[2007]} .

يُقَالُ : رَجُلٌّ مَحْجُوجٌ ، أي : مَقْصُودٌ ، بمعنى : أنَّه يُخْتَلَفُ إِلَيْه مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى .

قال الراغبُ : [ الرجز ]

858 - لِرَاهِبٍ يَحُجُّ بَيْتَ المَقْدِسِ *** في مِنْقَلٍ وَبُرْجُدٍ وَبُرْنُسِ{[2008]}

وكذلك مَحَجَّةُ الطَّريقِ : وهي التي كَثُر فيها السَّيْرُ ، وهذا شَبِيهٌ بالقَوْل الأوَّل .

قال القَفَّالُ : " والأول أشْبَهُ بالصَّوَاب " .

والاعْتِمَارُ : الزِّيَارَةُ .

وقِيلَ : مُطْلَقُ القَصْدِ ، ثم صارا عَلَمَين بالغَلَبَةِ في المعاني ؛ كالَبْيت [ والنَّجْم ] في الأعيان .

وقال قُطْرُبٌ{[2009]} : العُمْرَةُ في لُغَةِ [ عَبْد ]{[2010]} القَيْسِ : المَسْجِدُ والبِيعَةَ والكَنِيسَةُ .

قال القَفَّالُ : والأشْبَهُ بالعُمْرَةِ إذَا أُضِيفَتْ إلى البيت أن تَكُون بمعنى الزِّيَارةِ ؛ لأنَّ المُعْتَمِرَ يَطُوف بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، ثم ينصرف كالزَّائر{[2011]} .

قوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ } الظاهرُ : أنَّ " عَلَيْه " خَبَرُ " لاَ " ، و " أن يَطَّوَّفَ " : أَصْلُهُ [ " في أنْ يَطَّوَّفَ " ] ، فحذف حَرْفَ الجَرِّ ، فيَجيءُ في محلِّها القولان النصبُ ، أو الجَرُّ ، والوقْفُ في هذا الوجه على قوله " بهما " ، وأجازوا بَعْدَ ذلك أوجُهاً ضَعِيفةً .

منها : أنْ يَكُونُ الكلامُ قَدْ تَمَّ عند قوله : " فَلاَ جُنَاحَ " ؛ على أن يكون خبر " لا " محذوفاً ، وقَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ{[2012]} " فلا جناح في الحج " ، ويُبْتَدأُ بقوله " عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوفَ " فيكون " عَلَيْهِ " خبراً مقدماً وأن يطوف في تأويل مصْدرٍ مَرْفُوعٍ بالابْتِدَاءِ ؛ فإنَّ الطوافَ وَاجبٌ .

قَالَ أبُو البَقَاءِ{[2013]}- رحمه الله - : والجيدُ أَنْ يَكُونَ " عَلَيْهِ " في هذا الوجه خَبَراً ، و " أَنْ يَطَّوَّفَ " مُبْتَدَأ .

وَمِنْهَا : " أَنْ يكُون " عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ " مِنْ بِابِ الإِغْرِاءِ ؛ فيكونَ " أَنْ يَطَّوَّفَ " في محلِّ النصْب ؛ كقولك : " عَلَيْكَ زَيْداً " أي : " الْزَمْهُ " ، إلاَّ أنَّ إغرار الغَائِب ضَعِيفٌ ، حكى سيبَوَيْهِ{[2014]} : " عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي " قال : وهو شاذٌّ .

ومنها : أنَّ " أنْ يَطَّوَّفَ " في مَحَلِّ رفع خبراً ثانياً ل " لا " ، [ والتقديرُ : فَلاَ جُنَاحَ عليه في الطَّوَاف بِهِمَا .

ومنها : " أنْ يَطَّوَّفَ " : في محلِّ نصبٍ على الحال من الهَاءِ في " عَلَيْهِ " ، والعامل في الحالِ العَامِلُ في الخَبَرِ ]{[2015]} .

والتقديرُ : { فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ في حالِ طَوَافِهِ بهما } وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهُما تنبيهاً على غلطهما .

وقراءةُ الجمهور : " أنَّ يَطَّوَّفَ " بغير " لا " وقرأ{[2016]} أنس ، وابن عباس - رضي الله عنهما - وابنُ سيرين ، وشهر بن حوشب : " أنْ لاَ يَطَّوَّفَ " ، قَالُوا : وكذلك في مُصْحَفَيْ أَبَيٍّ ، وعبد الله ، وفي هذه القراءة احتمالان :

أحدهما : أنها زائدةٌ ؛ كهي في قوله :{ أَلاَ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ، وقوله [ الرجز ]

859 - وَمَا أُلُومُ البِيضَ أَلاَّ تَسْخَرَا *** لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا{[2017]}

وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتَينِ .

والثَّاني : أنَّها غيرُ زائدةٍ : بمعنى : أنَّ رفع الجُنَاح في فعل الشيء ، هو رفعٌ في تركه ؛ إذ هو تمييزٌ بَيْنَ الفعلِ والتَّرْك ؛ نحو : " فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا " فتكون قراءة الجُمْهُور فيها رفعُ الجُنَاحِ في فِعْلِ الطَّوافِ نَصًّا ، وفي هذِهِ رَفْعُ الجُنَاحِ في التَّرك نصًّا . والجُنَاحُ : أصْلُه من المَيْل ؛ من قولهم : جَنَحَ إلى كذا ، أي : مال إليه ؛ قال سبحانه وتعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } [ الأنفال : 61 ] وجَنَحَتِ السَّفينةُ : إذَا لَزِمَت المَاءَ ، فلم تَمْضِ .

وقيل للأضْلاَعِ ، " جَوَانِحُ " ؛ لاعوجَاجِها ، وجَنَاحُ الطَّائِر مِن هذا ؛ لأنَّه يَمِيلُ في أَحَدِ شِقَّيْهِ ، ولا يطيرُ على مستوى خلقته .

قال بعضهم : وكذلك أيضاً عُرْفُ القرآنِ الكَرِيمِ ، فمعناه : لا جُنَاحَ عليه : أي : لا مَيْلَ لأَحدٍ عليه بمطالبَةِ شَيءٍ من الأشياء .

ومنهم من قال : بَلْ هو مختصٌّ بالمَيْل إلى البَاطِلِ ، وإلى ما يؤْلَمُ به .

و " أنْ يَطَّوَّفَ " أي : " يَتَطَوَّفَ " ، فأُدْغِمَت التَّاءُ في الطاء ؛ كقوله :

{ يأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } [ المزمل : 1 ] ، و{ يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 ] ويقال : طَافَ ، وأَطَافَ : بمعنىً واحدٍ .

وقرأ{[2018]} الجُمْهُور " يَطَّوَّفَ " بتشديد الطاء ، والواو ، والأصل " يَتَطَوَّفَ " ، وماضيه كان أًصله " تَطَوَّفَ " ، فلما أرد الإدْغام تخفيفاً ، قُلِبَتِ التاء طاء ، وأُدْغِمَتْ في الطاء ، فاحتيجَ إلى هَمزةِ وصْلٍ ؛ لِسُكُونِ أوَّله ؛ لأجل الإدغام ، فأتى بها فجاء مضارعُهُ عليه " يَطَّوَّفَ " ، فانحذفت همزة الوصل ؛ لتحصُّنِ الحرفِ المُدْغَم بحرف المضارعة ومصْدَره على " التَّطَوُّف " ؛ رجوعاً إلى أصل " تَطَوَّفَ " . وقرأ أبو السَّمَّال{[2019]} : " يَطُوفَ " مخفَّفاً من : طَافَ يَطُوفُ ، وهي سهلة ، وقرأ ابن عباس : " يَطَّافَ " بتشديد الطاء ، [ مع الألِفِ ، وأصله " يَطتَوف " على وزن " يَفْتَعِل " ، وماضيه على " اطْتَوَفَ " افْتَعَلَ ، تحرَّكَتِ الواوُ ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، ووقعت تاء الافتعال بعد الطاء ؛ فوجب قلبها طاء ، وإدغام الطاء ]{[2020]} فيها ؛ كما قالوا : اطَّلَبَ يَطَّلِبُ ، والأصل : " اطْتَلَبَ ، يَطْتَلِبُ " ، فصار " اطَّافَ " ، وجاء مضارعُهُ عليه : " يَطَّافُ " هذا هو تصريفُ هذه اللفْظَة من كون تاء الافْتِعَالِ تُقَلَبُ طاءَ ، وتُدْغَمُ فيها الطاءُ الأولى .

وقال ابن عَطِيَّة{[2021]} : فجاء " يَطْتَافُ " أُدْغِمَتِ [ التاءُ بعد الإسكان في الطاء على مَذْهَبِ مَنْ أجاز إدْغَام الثَّاني ]{[2022]} في الأوَّل ، كما جاء في " مُدَّكِرٍ " ومن لم يُجِزْ ذَلِكَ ، قال : قُلِبَتِ التاءُ طاءً ، ثم أدغمت الطاء في الظَّاء ، وفي هذا نَظَرٌ ؛ لأنَّ الأصْلِيَّ أُدْغِمَ في الزائدِ ، وذلك ضعيفٌ . وقول ابنِ عَطيَّة فيه خطأٌ من وجهين :

أحدهما : كونُهُ يَدَّعِي إدْغَامَ الثَّاني في الأوَّل ، وذلك لا نَظِيرَ له ، إنَّمَا يُدْغَمُ الأَوَّل في الثَّاني .

والثاني : قوله : كَمَا جَاءَ في " مُدَّكر " ؛ لأنَّه كان يَنْبَغِي على قوله : أن يُقَالَ : " مُذَّكر " بالذَّال المُعَجَمة ، لا الدَّال المهملة [ وهذه لغةَ رَدِيئةٌ ، إنَّما اللُّغة الجيِّدة بالمهملة ؛ لأنَّا قَلَبْنَا تَاءَ الافتعالِ بَعَدَ الذَّال المعجمةِ دَالاً مهملةً ]{[2023]} ، فاجتمع متقاربَان ، فقلَبْنَا أوَّلَهُما لجنْسِ الثَّاني ، وأدغَمْنَا ، وسيأتي تحقيقُ ذلك .

ومصدر " اطَّافَ " على " الأطِّيَافِ " بوزن " الافْتِعَالِ " ، والأصلُ " اطِّوَافِ " فكسر ما قبل الواو ، فقُلِبَتْ ياءً ، وإنَّمَا عادَتِ الواوُ إلى أصْلها ؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبها ألفاً ؛ ويوضِّح ذلك قولهم : اعْتَادَ اعْتِيَاداً والأصل : " اعْتِوَادٌ " ففُعِلَ به ما ذكرتُ [ لك ] :

قوله تعالى : " وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً " قرأ حَمْزَةُ{[2024]} والكِسَائيُّ " يَطَّوَّعْ " هنا وفي الآية الَّتي بعدها بالياء وجزم العين فعلاً مضارعاً .

قال ابن الخَطِيبِ{[2025]} - رحمه الله - : وهذا أحْسَنُ أيضاً ؛ لأنَّ المعنى على الاسْتقْبَال والشرط ، والجزاء ، والأحْسَنُ فيهما الاستقبال ، وإن كان يَجُوز أن يقال : " مَنْ أتَانِي أَكْرَمْتُهُ " .

وقرأها الباقُونَ{[2026]}بالتاء فعلاً ماضياً ، فأما قراءة حَمْزَة ، فتكون " مَنْ " شرطيَّةً ، فتعمل الجَزْمَ ، وافق يَعْقُوبُ في الأُوْلَى ، وأصل " يَطَّوَّعُ " " يتَطَوَّعُ " فأدغمَ على ما تقدَّم في " تَطَوَّفَ " ، و " مَنْ " في محل رفع بالابتداء ، والخَبَر فعْلُ الشَّرْطِ ؛ على ما هو الصحيح كما تقدَّم تحقيقُهُ .

وقوله : " فإنَّ اللَّه " جملةٌ في محلِّ جَزْمٍ ، لأنَّها جوابُ الشَّرط ، ولا بُدَّ مِن عائِد مقدَّر ، أي : فإنَّ الله شاكِرٌ له .

فصل

قال أبو البَقَاءِ{[2027]} : وإذا جُعِلَتْ " مَنْ " شَرْطاً ، لم يَكُنْ في الكلام حَذْفُ ضمير ؛ لأنَّ ضمير " مَنْ " في " تَطَوَّعَ " وهذا يخالفُ ما تقدَّم عن النُّحَاةِ ؛ من أنَّه إذَا كَانَ أدَاةُ الشَّرطِ اسماً ، لَزِمَ أن يكون في الجواب ضميرٌ يَعُودُ عليه ، وتقدَّم تحقيقه .

وأما قراءةُ الجُمْهُور ، فتحملُ وجْهَيْن :

أحدهما : أن تكون شرطيَّةً ، والكلام فيها كما تَقَدَّمَ .

والثاني : أن تكون موصولةً ، و " تَطَوَّعَ " صلتها ، فلا محَلَّ لها من الإعراب حينئذٍ ، وتكون في مَحَلِّ رفْع بالابتداء أيضاً ، و " فإِنَّ الله " خبَرُهُ ، ودَخلَتِ الفاءُ ؛ لما تضمَّن " مَنْ " مَعْنى الشَّرط ، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم ، أي : شَاكِرٌ لَهُ . وانتصاب " خَيْراً " على أحَدِ أوْجُهٍ :

أحدها : إمَّا على إسْقَاط حَرْفِ الجَرِّ ، أي : تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ ، فلمَّا حذف الحَرْف ، انتصب ؛ نَحْو قوله : [ الوافر ]

860 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تعُوجُوا *** . . . {[2028]}

وهو غير مقِيسٍ .

والثاني : أن يكونهَ نعْتَ مصْدرٍ محذوفٍ ، أي : " تَطَوُّعاً خَيْراً " .

والثالث : أن يكونَ حالاً مِنْ ذلك المَصْدرَ المقدَّر معرفةً .

وهذا مذهَبُ سِيبَوَيْهِ{[2029]} ، وقد تقدَّم [ غَيْرَ مرَّة ] ، أو على تضمين " تَطَوَّعَ " فعلاً يتعدَّى ، أي : من فَعَلَ خَيْراً مُتَطَوَّعاً به .

وقد تَلَخَّصَ مما تقدَّم أنَّ في قولِهِ : { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } وجْهَين :

أحدهما : الجزمُ على القَوْل بكَوْن " مَنْ " شرطيَّةً .

والثاني : الرَّفْعُ ؛ عَلَى القَوْلِ بِكَوْنها موصولةً .

فصل في ظاهر قوله : " لا جُنَاحَ عَلَيْهِ "

ظاهرُ قَوْله - تبارك وتعالى - : " لاَ جَنَاحَ عَلَيْهِ " : أنه لا إثْم عليهِ ، [ وأن الذي يَصْدُقُ عليه : أنَّه لا إثْمَ عليه ]{[2030]} في فعله يَدْخُلُ تحته الواجبُ والمَنْدُوبُ ، والمُبَاحُ ، فلا يتميَّز أحدُهُما ، إلاَّ بقِيْدٍ زائدٍ ، فإذَنْ : ظاهرُ الآية لا يدلُّ على أنَّ السَّعْيَ بين الصَّفا والمَرْوة واجبٌ ، أو مسنونٌ ؛ لأنَّ اللَّفظ الدَّالَّ على القَدْرِ المُشْتَرَكِ بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصيَّة{[2031]} كلِّ واحدٍ{[2032]} من تلك الأقسام ، فإذَنْ ، لا بُدَّ من دليلٍ خارجيٍّ ، يدلُّ على وجوب السَّعْي ، أو مسنونِيَّتِهِ ، فذهب بعضهم إلى أنه ركْنٌ ، ولاَ يقومُ الدَّمُ مَقَامه .

وعند أبي حنيفَة - رضي الله عنه - : أنه ليس بركنٍ ، ويُجْبَرُ بالدم ، وعن ابن الزُّبَيْرِ ، ومجاهدٍ ، وعَطَاءٍ : أنَّ مَنْ تركه ، فلا شيء عليه{[2033]} .

احتجَّ الأَوَّلُون بقوله عليه [ أفْضَلُ ] الصَّلاة والسَّلام - " إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ ، فَاسْعَوا " {[2034]} .

فإن قيل : هذا متروك الظَّاهر ، لأنَّه يقتضي وجُوبَ السَّعْي ، وهو العدوُ ، وذلك غير واجبٍ . {[2035]}

قلنا : لا نسلِّم أنَّ السَّعْيَ عبارةٌ عن العدو ؛ [ بدليل قوله تعالى :

{ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الجمعة : 9 ] والعَدْوُ فيه غَيْرُ واجبٍ ]{[2036]} وقال - تبارك وتعالى - : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] وليس المراد منه العَدْوَ ، بل الجِدَّ ، والاجتهاد ، سلَّمنا أنه العَدْوُ ، ولكنَّ العدو مشتملٌ على صفة تُرك العملُ به في هذه الصِّفات ، فيبقى أصل المشي واجباً .

واحتجُّوا أيضاً : بأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما دنا من الصَّفا ، قال : " إنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِنْ شَعَائِر اللَّهِ ، ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ به " فبدأ بالصَّفَا فرقي عليه ، ثم سعى ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " {[2037]} ، وقال تعالى :{ وَاتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] وقال تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] وقالوا : إنه أشواطٌ شُرعت في بقعة من بِقَاعِ الحَرَمِ ويُؤْتَى به في إحرامٍ كاملٍ ، فكان جِنْسُهَا رُكناً ؛ كطَوَافِ الزِّيَارة ، ولا يلْزَمُ طَوَافُ الصَّدرِ ، لأنَّ الكلامَ للجنسِ ؛ لوجوبه مرة .

واحتجَّ أبو حنيفة - رضي الله عنه - بوجوهٍ :

منها : قوله تعالى : { لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وهذا لا يقال في الواجبات ، وأكَّد ذلك بقوله : " وَمَنْ تَطَوَّعَ " فبيَّن أنه تطوُّع ولَيْسَ بواجبٍ .

ومنها : [ قوله ] : " الحَجُّ عَرَفَةُ فمن أدرك عرفة ، فقد تمَّ حَجُّهُ{[2038]} " ، وهذا يقتضي التمام من [ جميع ]{[2039]} الوجوه ؛ ترك العمل به في بعض الأشياء ؛ فيبقى معمولاً به في السَّعْي .

والجوابُ عن الأوَّل{[2040]} من وجوه :

الأوَّل : ما بيَّنَّا [ أن قوله ]{[2041]} : " لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ " [ ليس فيه إلاَّ أنه لا إثم على فاعله ]{[2042]} وهذا القدر مشتركٌ بين الواجب ، وغيره ؛ فلا يكون فيه دلالةٌ على نفي الوجوب ، وتحقيق ذلك قوله تعالى :

{ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ }

[ النساء : 101 ] والقصر عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - واجبٌ ، مع أنَّه قال فيه : " فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ " كذا ههنا .

الثاني : أنه رفع الجُنَاحَ عن الطَّوَاف [ بهما لا عن الطَّوَاف بينهما ] .

والأوَّل عندنا غير واجب ، والثاني هو الواجب .

الثالث : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كان على الصَّفا صنمٌ ، [ وعلى المَرْوَة صنمٌ ، وكان الذي على الصَّفَا ]{[2043]} اسمُهُ : " إسَافٌ " ، والذي على المَرْوَة صنمٌ اسمه " نَائِلَة " وكان أهل الجاهليَّة يطوفون بهما ، فلمَّا جاء الإسلام ، كره المسلمون الطَّوَافِ بهما ؛ لأجل الصنمين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة . إذا عرفت هذا ، فنقول : انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطَّواف ، لا إلى نفس الطَّوَاف ؛ كما لو كان في الثَّوب نجاسةٌ يسيرةٌ عندكم ، أو دم البراغيث عندنا ، فقيل : لا جُنَاحَ عليكم أن تصلوا فيه ، فإنّ رفع الجُنَاحِ ينصرف إلى مكان النجاسة ، لا إلى نفس الصلاة .

الرابع : كما أن قوله : " لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ " لا يطلق على الواجب ، فكذلك لا يطلق على المندوب ؛ ولا شكَّ في أنَّ السَّعْيَ مندوبٌ ، فقد صارت الآية متروكة الظاهر ، والعمل بظاهرها ، وأما التمسُّك بقوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } [ البقرة : 184 ] فضعيفٌ ، وإنه لا يمكن أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطَّوَافَ المذكور ، بل يجوز أن يكون المراد منه شيئاً آخر ؛ كقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ البقرة : 184 ] ثم قال : " فَمَن تَطَوَّعَ خيراً " فأوجب عليه الطَّعام ، ثم ندبهم إلى التَّطوُّع بالخيرِ ، فكان المعنى : فمن تَطَوَّعَ ؛ فزاد على طعام مسكينٍ ، كان خيراً له ، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوُّع مصروفاً إلى شيء آخر ؛ وهو من وجهين .

أحدهما : أنه يزيد في الطَّوَاف ، فيطُوفُ أكْثَرَ من الطَّوَافِ الواجبِ ، مثلُ أن يطُوفَ ثمانية أو أكثر .

والثاني : أن يتطوَّع بعد فرض الحجِّ وعمرته بالحجِّ والعمرة مرةً أخرى ؛ حتى طاف بالصَّفَا والمَرْوَة تطوُّعاً .

وقال الحَسَنُ وغيره : أراد سائر الأعمال ، يعني : فعل غير الفرض ؛ من صلاةٍ ، وزكاةٍ ، وطواف ، وغيرها من أنواع الطَّاعات . وأصل الطاعة الانقيادُ .

وأما الحديث : فنقول فيه إنه عام ، وحديثنا خاص ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ .

قوله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } .

قال ابنُ الخَطِيبِ{[2044]} : اعلَمْ أنَّ الشاكِرَ في اللُّغة هو المظهر للإنعام عليه ، وذلك في حقِّ الله محالٌ ، فالشاكر في حقِّه - تبارك وتعالى - مجازٌ ، ومعناه المجازيُّ على الطاعة ، وإنما سمى المجازاة على الطَّاعة ، شكراً ؛ لوجوه :

الأول : أن اللفظ خرج مخرج التلطُّف للعبادة ، ومبالغة في الإحسان إليهم ؛ كما قال تعالى { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] وهو سبحانه وتعالى لا يستقرض من عوض ، ولكنه تلطف في الاستدعاء ؛ كأنه قيل : من ذا الذي يعمل عمل المقرض ؛ بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدّم .

الثاني : أنَّ الشُّكر لما كان مُقابلاً [ للإنعام أو الجزاء ]{[2045]}عليه ، سُمِّي كلُّ ما كان جزاء شكراً ؛ على سبيل التشبيه .

الثالث : أن الشكر اسم لما يجازى به ، والله تعالى هو المجازي ، فسمِّي شاكراً ، لعلاقة المجازاة .

[ وقال غيره : ]{[2046]} بل هو حقيقةٌ ؛ لأنَّ الشكر في اللُّغة : هو الإظهار ؛ لأنَّ هذه المادَّة ، وهي الشين ، والكاف ، والراء تدلُّ على الظُّهور ، ومنه : كَشَرَ البَعِيرُ عن نَابه ، إذا أظهره ؛ فإنَّ الله تعالى يظهر ما خَفِيَ من أعمال العبد من الطَّاعة ، ويُجَازِي عليه .

وقيل : الشُّكْرُ : الثناء ، والله تعالى يُثْني على العبد ، حين يفعل الطَّاعة .

وقوله : " عَلِيمْ " بذات المعنى أنَّه يعلم قدر الجزاء ، فلا يبخس المستحقَّ حقَّه ، لأنَّه عالمٌ بقدره ، ويحتمل أنه يريد أنَّه عليمٌ بما يأتي العَبْدُ ، فيقوم بحقِّه من العبادة والإخلاص .


[1969]:- في ب: بينهما.
[1970]:- بياض في ب.
[1971]:- سقط في ب.
[1972]:- في ب: بصحته.
[1973]:- في ب: وهو.
[1974]:- ينظر الإملاء لأبي البقاء: 1/70.
[1975]:- ينظر تفسير القرطبي: 1/121.
[1976]:- في ب: وزن.
[1977]:- البيت للأخيل. ينظر: اللسان (صفا)، القرطبي: 2/121، الرازي: 4/143، وصوابه: "مَتنّي" بدلا من "متنيه"، كما أنشده ابن دريد هكذا؛ لأن بعده: من طول إشرافي على الطَّوّي.
[1978]:-ينظر تفسير الرازي: 4/143.
[1979]:- ينظر تفسير الرازي: 4/143.
[1980]:- سقط في ب
[1981]:ينظر تفسير الرازي: 4/143.
[1982]:- البيت لطرفة بن العبد، ينظر ديوانه: (42)، والبحر المحيط: 1/627، والدر المصون: 1/414.
[1983]:- في ب: جمة.
[1984]:- في أ: المشرقي.
[1985]:- في ب: يجمع.
[1986]:- ينظر المحرر الوجيز: 1/229، القرطبي: 2/121، الرازي: 4/143.
[1987]:-في ب: الأذرعي.
[1988]:- سقط في ب.
[1989]:- في ب: سبعمائة وستون ذرعا.
[1990]:- ينظر تفسير القرطبي: 2/121.
[1991]:- انظر تفسير السمرقندي "بحر العلوم" (1/170).
[1992]:- سقط في ب.
[1993]:- سقط في ب.
[1994]:في ب: الصفا.
[1995]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/144.
[1996]:- سقط في ب.
[1997]:- سقط في ب.
[1998]:- ينظر تفسير الرازي: 4/ 144.
[1999]:- البيت للمخبل السعدي. ينظر: اللسان (حجج) وفيه: الزبرقان المزعفرا، القرطبي: 2/ 122، تهذيب اللغة (سبب).
[2000]:- ينظر تفسير القرطبي: 2/122.
[2001]:- البيت لعبد الرحمن بن حسان. ينظر: اللسان (سبب)، القرطبي: 2/122، تهذيب اللغة (سبب).
[2002]:- تقدم قريبا).
[2003]:- ينظر: اللسان (سبب)، والقرطبي: 2/122، تهذيب اللغة (سبب)، وديوان الهذليين: 1/79.
[2004]:- ينظر تهذيب اللغة: 12/ 314.
[2005]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/144.
[2006]:- صدر بيت لعذار بن درة الطائي، وعجزه: فأست الطبيب قذاها كالمغاريد ينظر: اللسان (حجج)، القرطبي: 2/ 122، المفردات للراغب: 155، وتهذيب اللغة (حجج).
[2007]:- ينظر تفسير القرطبي: 2/122.
[2008]:- ينظر البحر المحيط: 1/ 628، الدر المصون: 1/414.
[2009]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/144.
[2010]:- سقط في ب.
[2011]:- ينظر تفسير الرازي: 4/144.
[2012]:- ينظر الإملاء لأبي البقاء: 1/70.
[2013]:- ينظر الإملاء لأبي البقاء: 1/70.
[2014]:- ينظر الكتاب لسيبويه: 1/126.
[2015]:- سقط في ب.
[2016]:- ينظر الدر المصون: 1/415، المحرر الوجيز: 1/229، والبحر المحيط: 1/631.
[2017]:- تقدم برقم 86.
[2018]:- ينظر البحر المحيط: 1/ 632، الدر المصون: 1/415.
[2019]:- ينظر المحرر الوجيز: 1/229، الدر المصون: 1/415، البحر المحيط: 1/ 632.
[2020]:- - سقط في ب.
[2021]:- ينظر المحرر الوجيز: 1/229.
[2022]:- سقط في ب.
[2023]:- سقط في ب.
[2024]:- ينظر الدر المصون: 1/416، البحر المحيط: 1/632.
[2025]:- ينظر تفسير الرازي: 4/ 146.
[2026]:- ينظر البحر المحيط: 1/632، الدر المصون: 1/ 416، والمحرر الوجيز: 1/230.
[2027]:-ينظر الإملاء لأبي البقاء: 1/71.
[2028]:- تقدم برقم 159.
[2029]:- ينظر الكتاب: 1/116.
[2030]:- سقط في ب.
[2031]:- في ب: خصوص.
[2032]:- في أ: أحد.
[2033]:- ينظر الرازي: 4/154.
[2034]:- أخرجه أحمد (6/422) والطبراني في "الكبير" (11/ 183) والحديث ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" وعزاه أيضا للطبراني في "الأوسط" وقال: وفيه المفضل بن صدقة وهو ضعيف. والحديث ذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (12042) وعزاه للطبراني عن ابن عباس. وأخرجه البيهقي (5/98) والطبراني كما في "المجمع" (3/148) وقال: وفيه المثنى بن الصباح وقد وثقه بن معين في رواية وضعفه جماعة.
[2035]:- هذه العبارة وردت هكذا في أ: عبارة عن العدو؛ بدليل قوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} وهو العدو، وذلك غير واجب فالجواب: لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو، وهو غير واجب.
[2036]:- سقط في ب.
[2037]:- أخرجه أحمد (3/318) وابن خزيمة (2877) والبيهقي (5/125) وابن عبد البر في التمهيد (2/69، 91، 98) و (4/333) و (5/117) و (87/ 272) وأبو نعيم في "الحلية" (7/226). وانظر نصب الراية (3/55) وفتح الباري (1/217) والإتحاف (4/437).
[2038]:- أخرجه الترمذي (889) وأبو داود (1949) والنسائي (5/264) والحاكم (1/464) وابن خزيمة (2822) والبيهقي (5/116) والحميدي (2/ 399) وأحمد (4/309-310) وابن ماجه (3015) والطيالسي (1/220) والطحاوي (2/209) والدارمي (2/59) من طرق عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن ين بعمر مرفوعا.
[2039]:- سقط في ب.
[2040]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/145.
[2041]:- سقط في ب.
[2042]:- سقط في ب.
[2043]:- سقط في ب.
[2044]:- ينظر الرازي: 4/147.
[2045]:- في ب: للأعمال كالجزاء.
[2046]:- بياض في ب.