تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{۞إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158)

قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قلت : أرأيت قول الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قلت : فوالله ما على أحد جناح أن لا يطَّوف بهما ؟ فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتَها{[2982]} عليه كانت : فلا جناح عليه

ألا يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهِلّون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل . وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطَّوف بالصفا والمروة في الجاهلية . فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى قوله : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قالت عائشة : ثم قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما ، فليس لأحد أن يَدع الطواف بهما . أخرجاه في الصحيحين{[2983]} .

وفي رواية عن الزهري أنه قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فقال : إن هذا العلم ، ما كنت سمعته ، ولقد سمعتُ رجالا{[2984]} من أهل العلم يقولون{[2985]} إن الناس - إلا من ذكرتْ عائشة - كانوا يقولون : إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية . وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء .

ورواه البخاري من حديث مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة{[2986]} بنحو ما تقدم . ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن عاصم بن سُليمان قال : سألت أنسًا عن الصفا والمروة قال : كنا نرى ذلك{[2987]} من أمر الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }{[2988]} .

وذكر القرطبي{[2989]} في تفسيره عن ابن عباس قال : كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله ، وكانت بينهما آلهة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية . وقال الشعبي : كان إساف على الصفا ، وكانت نائلة على المروة ، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية . قلت : وذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة{[2990]} أن إسافا ونائلة كانا بشرين ، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس ، فلما طال عهدهما عبدا ، ثم حولا إلى الصفا والمروة ، فنصبا هنالك ، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ، ولهذا يقول أبو طالب ، في قصيدته المشهورة :

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم *** بمفضى السيول من إساف ونائل

وفي صحيح مسلم [ من ]{[2991]} حديثُ جابر الطويلُ ، وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت ، عاد إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من باب الصفا ، وهو يقول : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ثم قال : " أبدأ بما بدأ الله به " . وفي رواية النسائي : " ابدؤوا بما بدأ الله به " {[2992]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا شريح ، حدثنا عبد الله بن المؤمل ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن صفية بنت شيبة ، عن حَبِيبة بنت أبي تجراة{[2993]} قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه ، وهو وراءهم ، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره ، وهو يقول : " اسعَوا ، فإن الله كتب عليكم السعي " {[2994]} .

ثم رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن واصل - مولى أبي عُيَينة - عن موسى بن عبيدة{[2995]} عن صفية بنت شيبة ، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول : " كتب عليكم السعي ، فاسعوا " {[2996]} .

وقد استُدلّ بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج ، كما هو مذهب الشافعي ، ومن وافقه [ ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك ]{[2997]} . وقيل : إنه واجب ، وليس بركن [ فإن تركه عمدًا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه تقول طائفة وقيل : بل مستحب ، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين ، وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس ، وحكي عن مالك في العتبية ، قال القرطبي : واحتجوا بقوله : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } ] {[2998]} . وقيل : بل مستحب . والقول الأول أرجح ، لأنه عليه السلام طاف بينهما ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " . فكل ما فعله في حَجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج ، إلا ما خرج بدليل ، والله أعلم [ وقد تقدم قوله عليه السلام : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ]{[2999]} .

فقد بين الله - تعالى - أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ، أي : مما شرع الله تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحج ، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف {[3000]} هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها ، لما نفد ماؤها وزادُها ، حين تركهما إبراهيم - عليه السلام - هنالك ليس عندهما أحد من الناس ، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك ، ونفد ما عندها قامت تطلب الغوث من الله ، عز وجل ، فلم تزل تردد{[3001]} في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله ، عز وجل ، حتى كشف الله كربتها ، وآنس غربتها ، وفرج شدتها ، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم ، وشفاء سقم ، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه ، وأن يلتجئ إلى الله ، عز وجل ، ليُزيح ما هو به من النقائص والعيوب ، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم{[3002]} وأن يثبته عليه إلى مماته ، وأن يحوّله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي ، إلى حال الكمال والغُفران والسداد والاستقامة ، كما فعل بهاجر - عليها السلام .

وقوله : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا }{[3003]} قيل : زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك . وقيل : يطوف بينهما{[3004]} في حجة تطوع ، أو عمرة تطوع . وقيل : المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات . حكى ذلك [ فخر الدين ]{[3005]} الرازي ، وعزي الثالث إلى الحسن البصري ، والله أعلم . وقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي : يثيب على القليل بالكثير { عَلِيمٌ } بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه و { لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] .


[2982]:في جـ: "كما أولتها".
[2983]:المسند (6/144) وصحيح البخاري برقم (1643).
[2984]:في جـ: "رجلا".
[2985]:في جـ: "يقول".
[2986]:صحيح البخاري برقم (4495).
[2987]:في جـ: "أنها".
[2988]:صحيح البخاري برقم (4496).
[2989]:في أ: "وذكر الطبري".
[2990]:السيرة النبوية لابن إسحاق (رقم النص 4) ط، حميد الله، المغرب.
[2991]:زيادة من جـ.
[2992]:صحيح مسلم برقم (1218).
[2993]:في جـ: "بنت أبي تجر".
[2994]:المسند (6/421).
[2995]:في أ: "بن عبدة".
[2996]:المسند (6/437).
[2997]:زيادة من جـ، ط، أ.
[2998]:زيادة من جـ، ط، أ.
[2999]:زيادة من جـ، ط، أ.
[3000]:في جـ: "تطوف" وفي أ: "طواف".
[3001]:في جـ: "تزل تتردد".
[3002]:في جـ: "إلى صراط مستقيم"، وفي ط: "إلى صراطه المستقيم".
[3003]:في أ، و: "ومن".
[3004]:في أ: "بها".
[3005]:زيادة من جـ، ط، أ.