43- يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة في المساجد حال سكركم حتى تفقهوا ما تقولون ، ولا تدخلوا المساجد وأنتم على جنابة إلا إذا كنتم عابري المساجد عبوراً دون استقرار فيها ، حتى تطهروا بالاغتسال . وإن كنتم مرضى لا تستطيعون استعمال الماء خشية زيادة المرض أو بطء البرء ، أو مسافرين يشق عليكم وجود الماء ، فاقصدوا التراب الطيب ، وكذلك إذا جاء أحد منكم من المكان المعد لقضاء الحاجة أو آتيتم النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به لفقده ، فاقصدوا تراباً طيباً كذلك فاضربوا به أيديكم ، وامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله من شأنه العفو العظيم والمغفرة .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الآية ، والمراد من السكر : السكر من الخمر ، عند الأكثرين ، وذلك أن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه صنع طعاماً ، ودعا ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر ، وسكروا فحضرت صلاة المغرب ، فقدموا رجلاً ليصلي بهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون . بحذف ( لا ) هكذا إلى آخر السورة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلاة ، حتى نزل تحريم الخمر . وقال الضحاك بن مزاحم : أراد به سكر النوم ، نهى عن الصلاة عند غلبة النوم .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المفلس ، أنا هارون بن إسحاق الهمذاني ، أخبرنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس ، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) .
قوله تعالى : { حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً } ، نصب على الحال ، يعني : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب . يقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، ورجال جنب ، ونساء جنب . وأصل الجنابة : البعد ، وسمي جنباً لأنه يتجنب موضع الصلاة ، أو لمجانبته الناس وبعده منهم ، حتى يغتسل .
قوله تعالى : { إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } ، اختلفوا في معناه ، فقال :
إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمموا ، منع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ، ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد رضي الله عنهم . وقال الآخرون : بل المراد من الصلاة موضع الصلاة ، كقوله تعالى : { وبيع وصلوات } [ الحج :40 ] ومعناه : لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه ، مثل أن ينام في المسجد فيجنب ، أو يصيبه جنابة والماء في المسجد ، أو يكون طريقه عليه ، فيمر به ولا يقيم . وهذا قول عبد الله بن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، والضحاك ، والحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، والزهري ، وذلك أن قوماً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، ولا ممر لهم إلا في المسجد ، فرخص لهم في العبور . واختلف أهل العلم فيه : فأباح بعضهم المرور فيه على الإطلاق ، وهو قول الحسن ، وبه قال مالك ، والشافعي ، رحمهم الله ، ومنع بعضهم على الإطلاق ، وهو قول أصحاب الرأي ، وقال بعضهم : يتيمم للمرور فيه . أما المكث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم ، لما روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، فإني لا أحل المسجد لحائض ، ولا جنب ) وجوز أحمد المكث فيه ، وضعف الحديث لأن رواية مجهول ، وبه قال المزني . ولا يجوز للجنب الطواف ، كما لا يجوز له الصلاة ولا يجوز له قراءة القرآن .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا شعبة ، أخبرني عمر بن مرة قال : سمعت عبد الله بن سلمة يقول : دخلت على علي رضي الله عنه فقال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة ، ويأكل معنا اللحم ، ويقرأ القرآن ، وكان لا يحجبه أو لا يحجزه عن القرآن شيء إلا الجنابة " .
وغسل الجنابة يجب بأحد الأمرين : إما بنزول المني ، أو بالتقاء الختانين ، وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ، وكان الحكم في الابتداء أن من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ، ثم صار منسوخاً .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الختانين فقالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى الختانان ، أو مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل " .
قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى } ، جمع مريض ، وأراد به مرضاً يضره إمساس الماء ، مثل الجدري ونحوه ، أو كان على موضع الطهارة جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف ، أو زيادة الوجع ، فإنه يصلي بالتيمم ، وإن كان الماء موجوداً ، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحاً والبعض جريحاً غسل الصحيح منها وتيمم للجريح ، لما أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز الغاشاني ، أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي ، أنا داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، أنا موسى ابن عبد الرحمن الأنطاكي ، أنا محمد بن سلمة ، عن الزبير بن حزيق ، عن جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر ، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ، فاحتلم ، فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو قال يعصب -شك الراوي- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده .
ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل ، وقالوا : إن كان أكثر أعضائه صحيحاً غسل الصحيح ولا يتيمم عليه ، وإن كان الأكثر جريحاً اقتصر على التيمم . والحديث حجة لمن أوجب الجمع بينهما .
قوله تعالى : { أو على سفر } . أراد أنه إذا كان في سفر طويلاً كان أو قصيراً ، وعدم الماء فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه . لما روي عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشره ) .
فإذا ذلك خيرا أما إذا لم يكن الرجل مريضاً ، ولا في سفر ، لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء غالباً ، بأن كان في قرية انقطع ماؤها فإنه يصلي بالتيمم ، ثم يعيد إذا قدر على الماء عند الشافعي ، وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنهما يؤخر الصلاة حتى يجد الماء .
قوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ، أراد به إذا أحدث ، والغائط : اسم للمطمئن من الأرض ، وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكني عن الحدث بالغائط .
قوله تعالى : { أو لامستم النساء } ، قرأ حمزة والكسائي { لامستم } هاهنا وفي المائدة ، وقرأ الباقون { لامستم النساء } . واختلفوا في معنى اللمس والملامسة ، فقال قوم : المجامعة ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وكني باللمس عن الجماع ، لأن الجماع لا يحصل إلا باللمس ، وقال قوم : هما التقاء البشرتين ، سواء كان بجماع أو غير جماع ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر ، والشعبي ، والنخعي . واختلف الفقهاء في حكم هذه الآية .
فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما ينتقض وضوءهما ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، وبه قال الزهري ، والأوزاعي ، والشافعي رضي الله عنهما . وقال مالك ، والليث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق : إن كان اللمس بشهوة نقض الطهر ، وإن لم يكن بشهوة فلا ينتقض . وقال قوم : لا ينتقض الوضوء باللمس بحال . وهو قول ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والثوري . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا ينتقض إلا إذا أحدث الانتشار . واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : " كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، وإذا قام بسطتهما ، قالت : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أن أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كنت نائمةً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل ، فلمسته بيدي ، فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول : " أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .
واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم ، والبنت ، والأخت ، أو لمس أجنبية صغيرة ، أصح القولين أنه لا ينقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة ، كما لو لمس رجلاً . واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين : أحدهما : ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ . كما يجب الغسل عليهما بالجماع ، والثاني : لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد ، ولو لمس شعر امرأة أو سنها ، أو ظفرها ، لم ينتقض وضوءه عنده .
واعلم أن المحدث لا تصح صلاته ما لم يتوضأ إذا وجد الماء ، أو يتيمم إذا لم يجد الماء .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) .
والحدث : هو خروج الخارج من أحد الفرجين عيناً كان أو أثراً : أوالغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان . وأما النوم : فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء ، إلا أن ينام قاعداً ممكناً فلا وضوء عليه ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثقة عن حميد الطويل ، عن أنس رضي الله عنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون ، أحسبه قال : قعوداً ، حتى تخفق رؤوسهم ، ثم يصلون ولا يتوضؤون .
وذهب قوم إلى النوم يوجب الوضوء بكل حال ، وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه ، وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن ، وإسحاق ، والمزني . وذهب قوم : إلى أنه لو نام قائماً ، أو قاعداً ، أو ساجداً ، فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعاً . وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي . واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره : فذهب جماعة إلى أنه يوجب الوضوء . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وابن عباس وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وعائشة رضي الله عنها . وبه قال سعيد بن المسيب ، وسليمان ابن يسار ، وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب الأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وكذلك المرأة تمس فرجها ، غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول : لا ينتقض إلا أن يمس ببطن الكف ، أو بطون الأصابع . واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء فقال مروان : من مس الذكر الوضوء ، فقال عروة : ما علمت ذلك . فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ ) .
وذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء ، وحذيفة ، وبه قال الحسن ، وإليه ذهب الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، واحتجوا بما روي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره ، فقال : ( هل هو إلا بضعة منك ؟ ) ويروى هل هو إلا بضعة أو مضغة منه ؟
ومن أوجب الوضوء منه قال : هذا منسوخ بحديث بسرة ، لأن أبا هريرة يروي أيضاً أن الوضوء من مس الذكر ، وهو متأخر الإسلام ، وكان قدوم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد ، واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه ، فذهب جماعة : إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وبه قال عطاء ، وطاووس ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، رحمهما الله ، وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء ، والرعاف ، والفصد ، والحجامة ، منهم سفيان الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وأحمد ، وإسحاق . واتفقوا على أن القليل منه ، وخروج الريح من غير السبيلين لا يوجب الوضوء ، ولو أوجب الوضوء كثيره لأوجب قليله كالفرج .
قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة .
روى حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) .
وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؛ فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : أحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت : فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمم { فتيمموا } ، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت عائشة رضي الله عنها : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبيد بن إسماعيل ، أنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أنها استعارت من أسماء قلادةً فهلكت ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها ، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم . فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً ، فوا الله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً ، وجعل للمسلمين فيه بركة ، { فتيمموا }أي : اقصدوا .
قوله تعالى : { صعيداً طيباً } . أي : تراباً طاهراً نظيفاً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصعيد : هو التراب ، واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم ، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وجعلت تربتها لنا طهوراً " . وجوز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ ، والجص ، والنورة ، وغيرها من طبقات الأرض حتى قالوا : لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها ، أو على التراب ، ثم نفخ فيه حتى زال كله ، فمسح به وجهه ويديه صح تيممه . وقالوا : الصعيد . وجه الأرض ، لما روي عن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا ) . وهذا مجمل ، وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسر ، والمفسر من الحديث يقضي على المجمل ، وجوز بعضهم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ، ونبات ، ونحوهما وقال : إن الصعيد اسم لما تصاعد على وجه الأرض ، والقصد إلى التراب شرط لصحة التيمم ، لأن الله تعالى قال : { فتيمموا } ، والتيمم : القصد ، حتى لو وقف في مهب الريح فأصاب الغبار وجهه ونوى لم يصح .
قوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفوراً } .
اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم ، واختلفوا في كيفيته فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدان مع المرفقين بضربتين ، يضرب كفيه على التراب فيمسح بهما جميع وجهه ، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور ، ثم يضرب ضربةً أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين . لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن أبي الصمة قال : مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فتحه بعصاً كانت معه ، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ، ثم رد علي السلام . ففيه دليل على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين ، ودليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حت الجدار بالعصا ، ولو كان مجرد الضرب كافياً لما كان حته ، وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، لما روي عن عمار أنه قال : تيممنا إلى المناكب ، وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم . كما روي أنه قال : أجنبت فتمكعت في التراب ، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين . وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين . وهو قول علي ، وابن عباس رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، ومكحول ، وإليه ذهب الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق . واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أخبرنا الحكم ، عن ذر ، عن سعيد ابن عبد الرحمن عن أبزى ، عن أبيه قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء ؟ فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر ، إنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمكعت فصليت ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كان يكفيك هكذا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه ؟
وقال محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن كثير ، عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه : تمكعت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يكفيك الوجه والكفان .
وفي الحديث دليل على الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم ، وكذا الحائض والنفساء إذا طهرتا وعدمتا الماء . وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل ، وحملا قوله تعالى : { أو لمستم النساء } على اللمس باليد دون الجماع .
وحديث عمار رضي الله عنه حجة ، وكان عمر نسي ما ذكر له عمار فلم يقنع بقوله ، وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوز التيمم للجنب ، والدليل عليه أيضاً : ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن عباد بن منصور ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا كان جنباً أن يتيمم ثم يصلي ، فإذا وجد الماء اغتسل .
وأخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي اللؤلؤي ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر رضي الله عنهم قال : اجتمعت غنيمه من الصدقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أبا ذر ابد فيها ، فبدوت إلى الربذة ، وكانت تصيبني الجنابة ، فامكث الخمس والست ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر ؟ فسكت ، فقال : " ثكلتك أمك يا أبا ذر ، لأمك الويل ، فدعا بجارية سوداء ، فجاءت بعس فيه ماء ، فسترتني بثوب ، واستترت بالراحلة ، فاغتسلت فكأني ألقيت عني جبلا فقال : الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير " .
ومسح الوجه واليدين في التيمم ، تارة يكون بدلاً عن غسل بعض أعضاء الطهارة ، بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحة لا يمكنه غسل محلها ، فعليه أن يتيمم بدلاً عن غسله ، ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت ، ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحد ، لأن الله تعالى قال : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } إلى أن قال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة ، إلا أن الدليل قد قام في الوضوء ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد ، فبقي التيمم على ظاهره ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ، ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث . وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن ، والزهري ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل ، قبل الفريضة وبعدها ، وأن يقرأ القرآن إن كان جنباً . وإن كان تيممه بعذر السفر ، وعدم الماء ، فيشترط طلب الماء ، وهو أن يطلبه في رحله ، ومن رفقائه ، وإن كان في صحراء ولا حائل دون نظره ينظر حواليه ، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار عدل عنه ، لأن الله تعالى قال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، ولا يقال : لم يجد ، إلا لمن طلب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ، طلب الماء ليس بشرط ، فإن رأي الماء ولكن بينه وبين الماء حائل من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه ، أو كان الماء في البئر وليس معه آلة الاستقاء ، فهو كالمعدوم ، يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه .
وقد بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به . . والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة . وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها ، وأحكام الطهارة الممهدة لها :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنبا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . وإن كنتم مرضى أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفوا غفورا )
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة - التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية - وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة ؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع . كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضا . . الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته ؛ وللمجتمع الفارسي أيضا . وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته ! والشأن أيضا كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى !
في السويد - وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة - كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها . وكان متوسط ما يستهلكه الفرد ، حوالي عشرين لترا . وأحست الحكومة خطورة هذه الحال ، وما ينشره من إدمان ؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور ، وتحديد الاستهلاك الفردي ، ومنع شرب الخمور في المحال العامة . . ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة ! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام . ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة ، حتى منتصف الليل فقط ! وبعد ذلك يباح شرب " النبيذ والبيرة " فحسب ! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف . . !
أما في أمريكا ، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانونا في سنة 1919 سمي قانون " الجفاف " ! من باب التهكم عليه ، لأنه يمنع " الري " بالخمر ! وقد ظل هذا القانون قائما مدة أربعة عشر عاما ، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933 . وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر . ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات . وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة . وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيه . وقد أعدم فيها 300 نفس ؛ وسجن كذلك 335ر532 نفسا . وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه . وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه . . وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون .
فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي . . ببضع آيات من القرآن .
وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني . . بين منهج الله ، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء !
ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي ، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي ؛ حيث نجد " الخمر " عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية ؛ كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها .
لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر ، أن أصبحت كلمة التجارة ، مرادفة لبيع الخمر . . يقول لبيد :
قد بت سامرها وغاية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها
إذا أسحب الريط والمروط إلى أدني تجاري وأنفض اللمما
ووصف مجالس الشراب ، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي ، وتطبعه طابعا ظاهرا . يقول امرؤ القيس :
( وأصبحت ودعت الصبا غير % أنني أراقب خلات من العيش أربعا )
( فمنهن قولي للندامى : تفرفقوا % يداجون نشاجا من الخمر مترعا )
( ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا % يبادرن سربا آمنا أن يفزعا )
( فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى % وجدك لم أحفل متى قام عودي )
فمنهن سبقي العاذلات بشربة % كميت متى ما تعل بالماء تزبد )
( وما زال تشرابي الخمور ولذتي % وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي )
( إلى أن تحامتني العشيرة كلها % وأفردت إفراد البعير المعبد )
( فقد أشرب الراح قد تعلمين % يوم المقام ويوم الظعن )
( وأشرب بالريف حتى يقال % قد طال بالريف ما قد دجن )
( ولقد شربت من المدامة % بالصغير وبالكبير )
( فإذا سكرت فإنني % رب الخورنق والسدير )
( وإذا صحوت فإنني % رب الشويهة والبعير )
وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي . .
ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم ، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث . . وفيهم عمر ، وعلي ، وحمزة ، وعبدالرحمن بن عوف . . وأمثال هذا الطراز من الرجال . . تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية . وتكفي عن الوصف المطول المفصل :
يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه . . في رواية . . " كنت صاحب خمر في الجاهلية . فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب . . . "
وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام . حتى إذا نزلت آية : ( يسألونك عن الخمر والميسر . قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما ) . . قال : " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . . واستمر . . حتى إذا نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . قال : اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر ! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) . . قال : انتهينا انتهينا ! وانتهى . .
وفي سبب نزول هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين . وسعد بن معاذ من الأنصار .
روى ابن أبى حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - بإسناده - عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : نزلت في أربع آيات . صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار . فأكلنا وشربنا ، حتى سكرنا ، ثم افتخرنا ، فرفع رجل لحي بعير [ عظم الفك ] فغرز بها أنف سعد . فكان سعد مغروز الأنف . وذلك قبل تحريم الخمر . فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) . . والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة .
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار . حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله الدشتكي أبو جعفر . عن عطاء بن السائب ، عن أبى عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب قال : " صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموا فلانا قال : فقرأ : قل يا أيها الكافرون . ما أعبد ما تعبدون . ونحن نعبد ما تعبدون ! فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .
ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات ؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي . فهي كانت والميسر ، الظاهرتين البارزتين ؛ المتداخلتين ، في تقاليد هذا المجتمع . .
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة ؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة ، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبدا ؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصلية قديمة ، تتعلق بها تقاليد اجتماعية ؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية ؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن ؛ وعلى مراحل ، وفي رفق وتؤدة . وكسب المعركة . دون حرب . ودون تضحيات . ودون إراقة دماء . . والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين - حين سمعوا آية التحريم - فمجوها من أفواهم . ولم يبلعوها . كما سيجيء !
في مكة - حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان . . إلا سلطان القرآن - وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر . تدرك من ثنايا العبارة . وهي مجرد إشارة :
جاء في سورة النحل : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنًا ) . . فوضع " السكر " وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب ، وفي مقابل الرزق الحسن ! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء . والرزق " الحسن " شيء آخر . . وكانت مجرد لمسة من بعيد ؛ للضمير المسلم الوليد !
ولكن عادة الشراب ، أو تقليد الشراب - بمعنى أدق - فقد كان أعمق من عادة فردية . كان تقليدا اجتماعيا ، له جذور اقتصادية . . كأن أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة .
وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان . . لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان . إنما كان أولا سلطان القرآن . .
وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر ، وفي خبرة بالنفس البشرية ، والأوضاع الاجتماعية . .
بدأ بآية البقرة ردا على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر : ( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ، ومنافع للناس . . وإثمهما أكبر من نفعهما . . )
وكانت هي الطرقة الأولى ، ذات الصوت المسموع . . في الحس الإسلامي ، وفي الضمير الإسلامي ، وفي المنطق الفقهي الإسلامي . . فمدار الحل والحرمة . . أو الكراهية . . على رجحان الإثم أو رجحان الخير ، في أمر من الأمور . . وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما . . فهذا مفرق الطريق . .
ولكن الأمر كان أعمق من هذا . . وقال عمر - رضي الله عنه - : " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . . عمر ! ! ! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي !
ثم حدثت أحداث - كالتي رويناها - ونزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، حتى تعلموا ما تقولون ) . .
وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل . .
لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة ، بين التنفير من الخمر ، لأن إثمها أكبر من نفعها ، وبين التحريم البات ، لأنها رجس من عمل الشيطان . وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة : هي " قطع عادة الشراب " أو " كسر الإدمان " . . وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة . وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار . وبينها فترات لا تكفي للشراب - الذي يرضي المدمنين - ثم الإفاقة من السكر الغليظ ! حتى يعملوا ما يقولون ! فضلا على أن للشراب كذلك أوقاتا ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق . . صباحا ومساء . . وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة . . وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب . . وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة . .
ومع ذلك . . فقد قال عمر رضي الله عنه - وهو عمر ! ! ! - " اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر " . .
ثم مضى الزمن . ووقعت الأحداث . وجاء الوعد المناسب - وفق ترتيب المنهج - للضربة الحاسمة . فنزلت الآيتان في المائدة : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون ؟ ) . .
وانتهى المسلمون كافة . وأريقت زقاق الخمر ، وكسرت دنانها في كل مكان . . بمجرد سماع الأمر . . ومج الذين كان في أفواهم جرعات من الخمر ما في أفواههم - حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم وهم شاربون . .
لقد انتصر القرآن . وأفلح المنهج . وفرض سلطانه - دون أن يستخدم السلطان ! ! !
ولكن كيف كان هذا ؟ كيف تمت هذه المعجزة ، التي لا نظير لها في تاريخ البشر ؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان ، ولا في أي زمان ؟
لقد تمت المعجزة ، لأن المنهج الرباني ، أخذ النفس الإنسانية ، بطريقته الخاصة . . أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته ، وبحضور الله - سبحانه - فيها حضورا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان . . أخذها جملة لا تفاريق . . وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة . .
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغا تملؤه بنشوة الخمر ، وخيالات السكر ، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء . . في الهواء . .
ملأ فراغها باهتمامات . منها : نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها ، من تيه الجاهلية الأجرد ، وهجيرهاالمتلظي ، وظلامها الدامس ، وعبوديتها المذلة ، وضيقها الخانق ، إلى رياض الإسلام البديعة ، وظلاله الندية ، ونوره الوضيء ، وحريته الكريمة ، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة !
وملأ فراغها - وهذا هو الأهم - بالإيمان . بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج . فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر ، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير ! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء . . وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله . . وتذوق طعم هذا القرب ، فتمج طعم الخمر ونشوتها ؛ وترفض خمارها وصداعها ؛ وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية !
إنه استنفذ الفطرة من ركام الجاهلية ؛ وفتحها بمفتاحها ، الذي لا تفتح بغيره ؛ وتمشى في حناياها وأوصالها ؛ وفي مسالكها ودروبها . . ينشر النور ، والحياة ، والنظافة ، والطهر ، واليقظة ، والهمة ، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير ، والخلافة في الأرض ، على أصولها ، التي قررها العليم الخبير ، وعلى عهد الله وشرطه ، وعلى هدى ونور . .
إن الخمر - كالميسر . كبقية الملاهي . كالجنون بما يسمونه " الألعاب الرياضية " والإسراف في الاهتمام بمشاهدها . . كالجنون بالسرعة . . كالجنون بالسينما . . كالجنون " بالمودات " " والتقاليع " . . كالجنون بمصارعة الثيران . . كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم ، جاهلية الحضارة الصناعية !
إن هذه كلها ليست إلا تعبيرا عن الخواء الروحي . . من الإيمان أولا . . ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانيا . . وليست إلا إعلانا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية . . ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا . . وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى " الجنون " المعروف ، وإلى المرض النفسي والعصبي . . وإلى الشذوذ . .
إنها لم تكن كلمات . . هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة . . إنما كان منهج . منهج هذه الكلمات متنه وأصله . منهج من صنع رب الناس . لا من صنع الناس ! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج ، لا تؤدي إلى كثير !
إنه ليست المسألة أن يقال كلام ! فالكلام كثير . وقد يكتب فلان من الفلاسفة . أو فلان من الشعراء . أو فلان من المفكرين . أو فلان من السلاطين ! قد يكتب كلاما منمقا جميلا يبدو أنه يؤلف منهجا ، أو مذهبا ، أو فلسفة . . الخ . . ولكن ضمائر الناس تتلقاه ، بلا سلطان . لأنه ( ما أنزل الله به من سلطان ) ! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان . . وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور !
فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج ، غير منهج العليم الخبير ؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير ؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير ؟
متى ؟ متى ينتهون عن هذا الغرور ؟ ؟ ؟
ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنبا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا . . . )
كما منعت الآية - الذين آمنوا - أن يقربوا الصلاة وهم سكارى - حتى يعلموا ما يقولون - كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب - إلا عابري سبيل - حتى يغتسلوا . .
وتختلف الأقوال في المقصود من ( عابري سبيل ) كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه . .
فقول : إن المقصود هو عدم قرب المساجد ، أو المكث فيها ، لمن كان جنبا ، حتى يغتسل . إلا أن يكون عابرا بالمسجد مجرد عبور . وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول [ ص ] وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت . فرخص لهم في المرور - وهم جنب - لا بالمكث في المسجد - ولا الصلاة بطبيعة الحال - إلا بعد الاغتسال .
وقول : إن المقصود هو الصلاة ذاتها . والنهي عن أدائها للجنب - إلا بعد الاغتسال - مالم يكن مسافرا . فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي - بلا اغتسال - ولكن بالتيمم . الذي يسد مسد الغسل - عندئذ - كما يسد مسد الوضوء . .
والقول الأول يبدو أظهر وأوجه . لأن الحالة الثانية - حالة السفر - ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك . فتفسير عابري سبيل - بالمسافرين ، ينشيء تكرارا للحكم في الآية الواحدة ، لا ضرورة له : ( وإن كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء - فلم تجدوا ماء - فتيمموا صعيدا طيبا . فامسحوا بوجوهكم وأيديكم . إن الله كان عفوا غفورًا ) . .
فهذا النص يشمل حالة المسافر - عندما يصيبه حدث أكبر فيكون جنبا في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر ، فيكون في حاجة إلى الوضوء ، لأداء الصلاة .
والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضا ، فألم به حدث أكبر أو أصغر . أو بمن جاء من الغائط [ والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه ، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل ] فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء . أو بمن لامس النساء . .
وفي( لامستم النساء ) . . أقوال كذلك :
قول : إنه كناية عن الجماع . . فهو يستوجب الغسل .
وقول : إنه يعني حقيقة اللمس . . لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة . . وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب ، ولا يستوجبه في بعضها . بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالا :
" أ " اللمس يوجب الوضوء إطلاقا .
" ب " اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس . وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس .
" ج " اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه - حسب تقديره في كل حالة - أن اللمسة أثارت في نفسه حركة .
" د " اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقا ، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة . .
ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول [ ص ] . . على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع .
والذي نرجحه في معنى ( او لامستم النساء )أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل . وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء . .
وفي جميع هذه الحالات المذكورة ، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة . . حين لا يوجد الماء - وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضارا أو غير مقدور عليه - يغني عن الغسل والوضوء : التيمم . وقد جاء اسمه من نص الآية .
أي فاقصدوا صعيدا طيبا . . طاهرا . . والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب . أو حجر . أو حائط . ولو كان التراب مما على ظهر الدابة . أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير . متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به .
وطريقة التيمم : إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الطاهر . ثم نفضهما . ثم مسح الوجه . ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما . . وإما خبطتان : خبطة يمسح بها الوجه ، وخبطة يمسح بها الذراعان . . ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا . . فهذا الدين يسر ، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحا :
وهو التعقيب الموحي بالتيسير . وبالعطف على الضعف ، وبالمسامحة في القصور . والمغفرة في التقصير . .
وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس . . نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة : نقف أمام " حكمة التيمم " نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها . .
إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية ، يندفعون أحيانا في تعليل هذه الأحكام ؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة ؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء ! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية . . ما لم يكن قد نص على حكمتها نصا . . وأولى : أن نقول دائما : إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم . وأنه قد تكون دائما هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها ! وبذلك نضع عقلنا البشري - في مكانه - أمام النصوص والأحكام الإلهية . بدون إفراط ولا تفريط . .
أقول هذا ، لأن بعضنا - ومنهم المخصلون - يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس ، ومعها حكمة محددة ، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه " العلم الحديث " ! وهذا حسن - ولكن في حدود - هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة .
وكثيرا ما ذكر عن حكمة الوضوء - قبل الصلاة - أنها النظافة . .
وقد يكون هذا المعنى مقصودا في الوضوء . ولكن الجزم بأنه هو . . وهو دون غيره . . هو المنهج غير السليم . وغير المأمون أيضا :
فقد جاء وقت قال بعض المماحكين : لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية : فالنظافة الآن موفورة . والناسيجعلونها في برنامج حياتهم اليومي . فإذا كانت هذه هي " حكمة الوضوء " فلا داعي للوضوء إذن للصلاة ! بل . . لا داعي للصلاة أيضا ! !
وكثيرا ما ذكر عن " حكمة الصلاة " . . تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام : أولا في مواقيتها . وثانيا في حركاتها . وثالثا في نظام الصفوف والإمامة . . الخ . وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة . . وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصودا . . ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك او ذلك هو " حكمة الصلاة " يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون .
وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه : إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية . فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فنا من الفنون !
وقال بعضهم : ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام . فعندنا الجندية - مجال النظام الأكبر . وفيها غناء ! وقال بعضهم : لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة . فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيدا عن حركات الجوارح ، التي قد تعطل الاستشراف الروحي !
وهكذا . . إذا رحنا " نحدد " حكمة كل عبادة . وحكمة كل حكم . ونعلله تعليلًا وفق( العقل البشري )أو وفق " العلم الحديث " ثم نجزم بأن هذا هو المقصود . . فإننا نبعد كثيرا عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه . كما نبعد كذلك عن الحد المأمون . ونفتح الباب دائما للمماحكات . فوق ما تحتملة تعليلاتنا من خطأ جسيم . وبخاصة حين نربطها بالعلم . والعلم قلب لا يثبت على حال . وهو كل يوم في تصحيح وتعديل !
وهنا في موضوعنا الحاضر ! موضوع التيمم - يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل ، ليست هي " مجرد " النظافة . وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما ، لا يحقق هذه " الحكمة " ! فلا بد إذن من حكمة " أخرى " للوضوء أو الغسل . تكون متحققة كذلك في " التيمم " .
ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم ! ولكننا نقول فقط : إنها - ربما - كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله ، بعمل ما ، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية ، وبين اللقاء العظيم الكريم . . ومن ثم يقوم التيمم - في هذا الجانب - مكان الغسل او مكان الوضوء . .
ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف ؛ بدخائل النفوس ، ومنحنياتها ودروبها ، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير . . ويبقى أن نتعلم نحن شيئا من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير . .
ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة ؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات . وتذليل هذه المعوقات . والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء ، ومحل الغسل ، أو محلهما معا ، عند تعذر وجود الماء ؛ أو عند التضرر بالماء [ أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة ] وكذلك عند السفر [ حتى مع وجود الماء في أقوال ] . .
إن هذا كله يدل - بالاضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف - في ميدان القتال - على حرص شديد من المنهج الرباني ، على الصلاة . . بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب [ ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدي الصلاة من قعود ، أو من اضطجاع ، أو من نوم . وتؤدى بحركات من جفني العين عندما يشق تحريك الجسم والأطراف ! ]
إنها هذه الصلة بين العبد والرب . الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها . لأنه - سبحانه - يعلم ضرورتها لهذا العبد . فالله سبحانه غني عن العالمين . ولا يناله من عبادة العباد شيء . إلا صلاحهم هم . وإلا ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله ، من العون على تكاليفهم ، والاسترواح لقلوبهم ، والاطمئنان لأرواحهم . والإشراق في كيانهم ؛ والشعور بأنهم في كنف الله ، وقربه ، ورعايته ، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم . . والله أعلم بفطرتهم هذه ، وبما يصلح لها وما يصلحها . . وهو أعلم بمن خلق . وهو اللطيف الخبير .
ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير :
ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) . . فلا يقول : إذا عملتم كذا وكذا . . بل يكتفي بالعودة من هذا المكان ، كناية عما تم فيه ! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين . فلا يقول : أو جئتم من الغائط . بل يقول : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) زيادة في أدب الخطاب ، ولطف الكناية . ليكون هذا الأدب نموذجا للبشر حين يتخاطبون !
وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله : ( أو لامستم النساء ) والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى - والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيرا عنه - وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس ، في الحديث عن مثل هذه الشؤون . عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف .
وحين يعبر عن الصعيد الطاهر ، بأنه الصعيد الطيب . ليشير إلى أن الطاهر طيب . وأن النجس خبيث . . وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس . .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم . روي ( أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مادبة ودعا نفرا من الصحابة -حين كانت الخمر مباحة- فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون ) . فنزلت . وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة ، وإنما المراد النهي عن الإفراط في الشرب والسكر ، من السكر وهو السد . وقرئ { سكارى } بالفتح وسكرى على أنه جمه كهلكى . أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى ، أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة . { ولا جنبا } عطف على قوله { وأنتم سكارى } إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، لأنه يجري مجرى المصدر . { إلا عابري سبيل } متعلق بقوله { ولا جنبا } ، استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنبا في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم ، ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم ، أو صفة لقوله { جنبا } أي جنبا غير عابري سبيل . وفيه دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث . ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها ، وجوز الجنب عبور المسجد . وبه قال الشافعي رضي الله عنه . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق . { حتى تغتسلوا } غاية النهي عن القربان حال الجنابة ، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه . { وإن كنتم مرضى } مرضا يخاف معه من استعمال الماء ، فإن الواجد كالفاقد . أو مرضا يمنعه عن الوصول إليه . { أو على سفر } لا تجدونه فيه . { أو جاء أحد منكم من الغائط } فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين ، وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض . { أو لامستم النساء } أو ما مسستم بشرتهن ببشرتكم ، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء . وقيل : أو جامعتموهن . وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة " لمستم " ، واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة . { فلم تجدوا ماء } فلم تتمكنوا من استعماله ، إذ الممنوع عنه كالمفقود . ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب ، والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر . والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض ، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملا فكأنه قيل : وإن كنتم جنبا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم فلم تجدوا ماء { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } . أي فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا . ولذلك قالت الحنفية : لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه . وقال أصحابنا لا بد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أي بعضه ، وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض ، واليد اسم للعضو إلى المنكب ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا { وأيديكم إلى المرافق } . { إن الله كان عفوا غفورا } فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم .
سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر : أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، فحضرت الصلاة ، فتقدمهم علي بن أبي طالب ، فقرأ { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] فخلط فيها ، بأن قال : «أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد » ، فنزلت الآية ، وروي أن المصلي عبد الرحمن بن عوف{[4055]} .
وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر ، إلا الضحاك ، فإنه قال : إنما المراد سكر النوم{[4056]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والخطاب لجميع الأمة الصاحين ، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت ، وإنما هو مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق ، على ما ذهب إليه بعض الناس .
وقرأت فرقة { سكارى } جمع سكران{[4057]} ، وقرأت فرقة «سَكرى » بفتح السين على مثال فعلى وقرأ الأعمش : «سُكرى » بضم السين وسكون الكاف على مثال فعلى ، وقرأ النخعي «سَكرى » بفتح السين{[4058]} . قال أبو الفتح : هو تكسير سكران على سكارى ، كما قالوا : روبى نياماً{[4059]} وكقولهم : هلكى وميدى{[4060]} في جمع هالك ومائد ، ويحتمل أن يكون صفة لمؤنثة واحدة ، كأن المعنى وأنتم جماعة سكرى ، وأما «سُكرى » بضم السين فصفة لواحدة ، كحبلى ، والسكر انسداد الفهم ، ومنه سكرت الماء إذا سددت طريقه ، وقالت طائفة : { الصلاة } هنا العبادة المعروفة ، حسب السبب في نزول الآية ، وقالت طائفة : { الصلاة } هنا المراد بها موضع الصلاة والصلاة معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين{[4061]} .
قال القاضي أبو محمد : وإنما احتيج إلى هذا الخلاف بحسب ما يأتي في تفسير عابري السبيل ، ويظهر من قوله : { حتى تعلموا } أن السكران لا يعلم ما يقول ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره : إن السكران لا يلزمه طلاقه ، فأسقط عنه أحكام القول ، لهذا ، ولقول النبي عليه السلام للذي أقر بالزنى أسكران أنت ؟ فمعناه : أنه لو كان سكران لم يلزمه الإقرار .
قال القاضي أبو محمد : وبين طلاق السكران وإقراره بالزنى فرق ، وذلك أن الطلاق والإقرار بالمال والقذف وما أشبهه هذا يتعلق به حقوق الغير من الآدميين ، فيتهم السكران إن ادعى أنه لم يعلم ، ويحكم عليه حكم العالم ، والإقرار بالزنا إنما هو حق لله تعالى ، فإذا ادعى فيه بعد الصحو أنه كان غير عالم دين ، وأما أحكام الجنايات ، فهي كلها لازمة للسكران { وأنتم سكارى } ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال ، وحكي عن ابن فورك أنه قال : معنى الآية النهي عن السكر ، أي لا يكن منكم سكر ، فيقع قرب الصلاة ، إذ المرء مدعو إلى الصلاة دأباً ، والظاهر أن الأمر ليس كذلك ، وقد روي : أن الصحابة بعد هذه الآية كانوا يشربون ويقللون اثر الصبح واثر العتمة ، ولا تدخل عليهم صلاة إلا وهم صاحون .
وقوله : { ولا جنباً } عطف على موضع هذه الجملة المنصوبة{[4062]} ، والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان ، هذا قول جمهور الأمة ، وروي عن بعض الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل{[4063]} ، وهو من الجنابة ، وهي : البعد ، كأنه جانب الطهر أو من الجنب ، كأنه ضاجع ومس بجنبه جنباً ، وقرأت فرقة «جنْباً » بإسكان النون ، و { عابري سبيل } هو من العبور أي : الخطور والجواز ، ومنه : عبر السفينة النهر ، ومنه : ناقة عبر السير والفلاة والمهاجرة{[4064]} ، أي تعبرها بسرعة السير ، قال الشاعر : وهي امرأة : [ الكامل ]
عَيْرَانَةٌ سَرْحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ *** عَبْرَ الهَوَاجِرِ كَالْهُزُفِّ الخَاضِبِ{[4065]}
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل هو المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ، وقال ابن عباس أيضاً وابن مسعود وعكرمة والنخعي وغيرهم : عابر السبيل الخاطر في المسجد ، وهو المقصود في الآية ، وهذا يحتاج إلى ما تقدم من أن القول بأن الصلاة هي المسجد والمصلى ، وروى بعضهم : أن سبب نزول الآية { أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصابت أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد ، فنزلت الآية في ذلك{[4066]} ، ثم نزلت { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية ، بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة " المريسيع " {[4067]} حين أقام على التماس العقد{[4068]} ، هكذا قال الجمهور ، وقال النخعي : نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية ، ذكر النقاش : أن ذلك نزل بعبد الرحمن بن عوف ، والمريض المقصود في هذه الآية هو الحضري ، والذي يصح له التيمم هو الذي يخاف الموت لبرد الماء وللعلة به ، وهذا يتيمم بإجماع ، إلا ما روي عن عطاء : أنه يتطهر وإن مات ، والذي يخاف حدوث علة على علة أو زيادة علة والذي يخاف بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب فيما حفظت ، والأسباب التي لا يجد المريض بها الماء هي إما عدم المناول ، وإما خوف ما ذكرناه ، وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ، وهذا قول خلف ، وإنما هو عند علماء الأمة المجدور ، والمحصوب ، والعلل المخوف عليها من الماء ، والمسافر في هذه الآية : هو الغائب عن الحضر ، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر ، هذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء ، وقال الشافعي في كتاب الأشراف ، وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر يجوز فيه التقصير ، وهذا ضعيف .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك قالت فرقة : لا يتيمم في سفر معصية ، وهذا أيضاً ضعيف ، والأسباب التي لا يجد بها المسافر الماء هي إما عدمه جملة ، وإما خوف فوات الرفيق بسبب طلبه ، وإما خوف على الرجل بسبب طلبه ، وإما خوف سباع أو إذاية عليه ، واختلف في وقت إيقاعه التيمم ، فقال الشافعي : في أول الوقت ، وقال أبو حنيفة وغيره : في آخر الوقت ، وفرق مالك بين اليائس والعالم الطامع بإدراكه في الوقت ، والجاهل بأمره جملة ، وقال إسحق بن راهويه : لا يلزم المسافر طلب الماء إلا بين يديه وحوله ، وقالت طائفة : يخرج من طلبه الغلوتين{[4069]} ونحوهما ، وفي مذهب مالك يمشي في طلبه ثلاثة أميال ، وقال الشافعي : يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو فوات الوقت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، وأصل { الغائط } ما انخفض من الأرض ، وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع ، حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه ، وقرأ قتادة الزهري «من الغيْط » ساكنة الياء من غير ألف ، قال ابن جني : هو محذوف من فيعل ، عين هذه الكلمة واو{[4070]} ، وهذا اللفظ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى ، واختلف الناس في حصرها ، وأنبل ما اعتقد في ذلك : أن أنواع الأحداث ثلاثة ، ما خرج من السبيلين معتاداً ، وما أذهب العقل ، واللمس ، هذا على مذهب مالك ، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من النجاسات من الجسد ، ولا يراعى المخرج ولا غيره ، ولا يعد اللمس فيها ، وعلى مذهب الشافعي ما خرج من السبيلين ، ولا يراعى الاعتياد ، والإجماع من الأحداث على تسعة ، أربعة من الذكر ، وهي البول والمني والودي والمذي ، وواحد من فرج المرأة وهو دم الحيض ، واثنان من الدبر ، وهما الريح والغائط ، وذهاب العقل كالجنون والإغماء والنوم الثقيل ، فهذه تنقض الطهارة الصغرى إجماعاً ، وغير ذلك كاللمس والدود يخرج من الدبر وما أشبهه مختلف فيه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم { لامستم } وقرأ حمزة والكسائي «لمستم » وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع ، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه ، إذ في جميع ذلك لمس ، واختلف أهل العلم في موقعها هنا : فمالك رحمه الله يقول : اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين ، فالملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم ، لأن اللمس نقض وضوءه ، وقالت طائفة : هي هنا مخصصة للمس اليد ، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء ، ولا سبيل له إلى التيمم ، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود وغيرهما ، وقال أبو حنيفة : هي هنا مخصصة للمس الذي هو الجماع ، فالجنب يتيمم ، واللامس باليد لم يجر له ذكر فليس بحدث ، ولا هو ناقض لوضوء ، فإذا قبّل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه ، ومالك رحمه الله يرى : أن اللمس ينقض إذا كان للذة ، ولا ينقض إذا لم يقصد به اللذة ، ولا إذا كان لابنة أو لأم ، والشافعي رحمه الله يعمم لفظة { النساء } ، فإذا لمس الرجل عنده أمه أو ابنته على أي وجه كان انتقض وضوءه ، وعدم وجود الماء يترتب للمريض وللمسافر حسبما ذكرناه ، ويترتب للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف ، واختلف فيه ، فقال الحسن : يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديماً ، وهذا قول ضعيف ، لأن دين الله يسر كما قال صلى الله عليه وسلم ، ويريد بنا اليسر ولم يجعل علينا في الدين من حرج ، وقالت طائفة : يشتري ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعداً ، وقالت طائفة : يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاثة ، ونحو هذا ، وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله ، وقيل لأشهب : أيشتري القربة بعشرة دراهم ؟ فقال ما أرى ذلك على الناس .
قال القاضي أبو محمد : وقدر هذه المسألة إنما هو بحسب غنى المشتري وحاجته ، والوجه عندي أن يشتري ما لم يؤذ غلاؤه ، ويترتب أيضاً عدم الماء للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط ، وهذا هو الذي يقال فيه : إنه لم يجد ماء ولا تراباً ، كما ترجم البخاري ، ففيه أربعة أقوال ، فقال مالك وابن نافع : لا يصلي ولا يعيد ، وقال ابن القاسم : يصلي ويعيد ، وقال أشهب : يصلي ولا يعيد وقال اصبغ : لا يصلي ويقضي ، إذا خاف الحضري فوات الوقت إن تناول الماء ، فلمالك رحمه الله قولان في المدونة : إنه يتيمم ولا يعيد ، وقال : إنه يعيد ، وفي الواضحة وغيرها عنه : أنه يتناول الماء ويغتسل وإن طلعت الشمس . وعلى القول بأنه يتيمم ولا يعيد إذا بقي من الوقت شيء بقدر ما كان يتوضأ ويصلي ركعة ، فقيل : يعيد ، وقيل : لا يعيد ، ومعنى قوله { فتيمموا } في اللغة : اقصدوا ، ومنه قول امرىء القيس [ الطويل ]
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ . . . يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عُرْمُضُها طَامي{[4071]}
ومنه قول أعشى بني ثعلبة : [ المتقارب ]
تَيَمَّمْت قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ . . . مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ{[4072]}
ثم غلب هذا الاسم في الشرع على العبادة المعروفة ، والصعيد في اللغة : وجه الأرض ، قاله الخليل وغيره ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
كأَنَّه بالضُّحى تَرمي الصَّعيدَ بِهِ *** دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ{[4073]}
واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب ، فقالت طائفة : يتيمم بوجه الأرض ، تراباً كان أو رملاً أو حجارة أو معدناً أو سبخة ، وجعلت «الطيب » بمعنى الطاهر ، وهذا مذهب مالك ، وقالت طائفة منهم : «الطيب » بمعنى الحلال ، وهذا في هذا الموضع قلق ، وقال الشافعي وطائفة : «الطيب » بمعنى المنبت ، كما قال جل ذكره
{ والبلد الطيب يخرج نباته }{[4074]} فيجيء الصعيد على هذا التراب ، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغير ذلك مما ذكرناه ، فمكان الإجماع : أن يتيمم الرجل في تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب ، ومكان الإجماع في المنع : أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف ، أو الفضة والياقوت والزمرد ، أو الأطعمة ، كالخبز واللحم وغيرهما ، أو على النجاسات - واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز ، وهو مذهب مالك ، ومنع وهو مذهب الشافعي ، وأشار أبو الحسن اللخمي إلى أن الخلاف فيه موجود في المذهب ، وأما الملح فأجيز في المذهب المعدني والجامد ، ومنعا ، وأجيز المعدني ومنع الجامد ، والثلج في المدونة جوازه ، ولمالك في غيرها منعه ، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان : أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ بحت من جهات ، وأما التراب المنقول في طبق وغيره ، فجمهور المذهب جواز التيمم به ، وفي المذهب المنع ، وهو في غير المذهب أكثر ، وأما ما طبخ كالآجر والجص ففيه في المذهب قولان ، الإجازة والمنع ، وفي التيمم على الجدار الخلاف ، وأما التيمم على النبات والعود فاختلف فيه في مذهب مالك ، فالجمهور على منع التيمم على العود ، وفي مختصر الوقار{[4075]} : أنه جائز ، وحكى الطبري في لفظة «الصعيد » اختلافاً : أنها الأرض الملساء وأنها الأرض المستوية ، وأن «الصعيد » التراب ، وأنه وجه الأرض .
وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين ، وبه قال الجمهور ، ووقع في حديث عمار في البخاري في بعض الطرق تقديم اليدين{[4076]} ، وقاله بعض أهل العلم : قياساً على تنكيس الوضوء ، وتراعى في الوجه حدوده المعلومة في الوضوء ، فالجمهور على أن استيعابه بالمسح في التيمم واجب ، ويتتبعه كما يصنع بالماء ، وأن لا يقصد ترك شيء منه ، وأجاز بعضهم أن لا يتتبع كالغضون في الخفين ، وما بين الأصابع في اليدين{[4077]} ، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة ، ومذهب مالك في المدونة : أن التيمم بضربتين ، وقال ابن الجهم : التيمم واحدة ، وقال مالك في كتاب محمد : إن تيمم بضربة أجزأه ، وقال غيره في المذهب : يعيد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبداً ، وقال مالك في المدونة : يبدأ بأصابع اليسرى على أصابع اليمنى ، ثم يمر كذلك إلى المرفق ، ثم يلوي بالكف اليسرى على باطن الذراع الأيمن ، حتى يصل إلى الكوع ، ثم يفعل باليمنى على اليسرى كذلك ، فظاهر هذا الكلام أنه يستغنى عن مسح الكف بالأخرى ، ووجهه أنهما في الإمرار على الذراع ماسحة ممسوحة ، قال ابن حبيب : يمر بعد ذلك كفيه ، فهذا مع تحكيم ظاهر المدونة خلاف ، قال اللخمي : في كلام المدونة يريد ثم يمسح كفه بالأخرى فيجيء على تأويل أبي الحسن كلام ابن حبيب تفسيراً ، وقالت طائفة : يبدأ بالشمال كما في المدونة ، فإذا وصل على باطن الذراع إلى الرسغ ، مشى على الكف ، ثم كذلك باليمنى في اليسرى ، ووجه هذا القول أن لا يترك من عضو بعد التلبس به موضعاً ، ثم يحتاج إلى العودة إليه بعد غيره ، وقالت طائفة : يتناول بالتراب كما يتناول بالماء في صورة الإمرار دون رتبة ، وقال مالك في المدونة : في المذهب بمسح يديه إلى المرفقين ، فإن مسح إلى الكوعين أعاد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبداً ، قال غيرهما : في المذهب يمسح إلى الكوعين وهذا قول مكحول وجماعة من العلماء ، وفي غير المذهب يمسح الكفين فقط ، وفي ذلك حديث عن عمار بن ياسر{[4078]} ، وهو قول الشعبي ، وقال ابن شهاب : يمسح إلى الآباط ، وذكره الطبري عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة حين نزلت آية التيمم : إنك لمباركة ، نزلت فيك رخصة ، فضربنا ضربة لوجوهنا ، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط ، {[4079]} وفي مصنف أبي داود عن الأعمش : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسح إلى أنصاف ذراعيه ، ولم يقل بهذا الحديث أحد من العلماء فيما حفظت ، وما حكى الداودي{[4080]} من أن الكوعين فرض والمرافق سنة والآباط فضيلة ، فكلام لا يعضده قياس ولا دليل ، وإنما عمم قوم لفظة اليد فأوجبوه من المنكب ، وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق ، وعمم جمهور الأمة{[4081]} ، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين ، وقيس أيضاً على القطع{[4082]} ، إذ هو حكم شرعي وتطهير ، كما هذا تطهير ، ووقف آخرون مع حديث عمار في الكفين ، واختلف المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين ، يجب ولا يجب .