قوله تعالى : { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } ، روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } ، قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبداً ؟ وفي رواية ، قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم ، فأنزل الله عز وجل : { وما على الذين يتقون } ، الخوض { من حسابهم } ، أي : من آثام الخائضين { من شيء } . قوله تعالى : { ولكن ذكرى } ، أي : ذكروهم وعظوهم بالقرآن ، والذكر والذكرى واحد ، يريد ذكروهم ذكرى ، فيكون في محل النصب .
قوله تعالى : { لعلهم يتقون } ، الخوض إذا وعظتموهم ، فرخص في مجالستهم على الوعظ لعلهم يمنعهم من ذلك الخوض ، وقيل : لعلهم يستحيون .
ثم يكرر السياق المفاصلة بين المؤمنين والمشركين ، كما قررها من قبل بين الرسول [ ص ] وبين المشركين . ويقرر اختلاف التبعة واختلاف المصير :
( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ، ولكن ذكرى لعلهم يتقون ) . .
فليست هنالك تبعة مشتركة بين المتقين والمشركين . فهما أمتان مختلفتان - وإن اتحدتا في الجنس والقوم فهذه لا وزن لها في ميزان الله ، ولا في اعتبار الإسلام . . إنما المتقون أمة ، والظالمون [ أي المشركون ] أمة ، وليس على المتقين شيء من تبعة الظالمين وحسابهم . ولكنهم إنما يقومون بتذكيرهم رجاء أن يتقوا مثلهم ، وينضموا إليهم . . وإلا فلا مشاركة في شيء ، إذا لم تكن مشاركة في عقيدة !
هذا دين الله وقوله . . ولمن شاء أن يقول غيره . ولكن ليعلم أنه يخرج من دين الله كله إذ يقول ما يقول !
وقوله : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك ، فقد برئوا من عهدتهم ، وتخلصوا من إثمهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السُّدِّي ، عن أبي مالك وسعيد بن جُبَيْر ، قوله : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك ، أي : إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم .
وقال آخرون : بل معناه : وإن جلسوا معهم ، فليس عليهم من حسابهم من شيء . وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية ، وهي قوله : { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] . قاله مجاهد ، والسُّدِّي ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم . وعلى قولهم ، يكون قوله : { وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : ولكن أمرناكم{[10831]} بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه ؛ لعلهم يتقون ذلك ، ولا يعودون إليه .
لمَّا كان الإعراض عن مجالس الذين يخوضون بالطعن في الآيات قد لا يحول دون بلوغ أقوالهم في ذلك إلى أسماع المؤمنين من غير قصد أتْبع الله النهي السابق بالعفو عمَّا تتلقَّفه أسماع المؤمنين من ذلك عَفْواً ، فتكون الآية عذراً لما يطرق أسماعَ المؤمنين من غير قعودهم مع الطاعنين .
والمراد ب { الَّذين يتَّقون } المؤمنون ، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أوّل المتَّقين ، فالموصول كتعريف الجنس فيكون شاملاً لجميع المسلمين كما كان قوله { فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] حكمه شاملاً لبقية المسلمين بحكم التبع . وقال جمع من المفسّرين : كانت آية { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] خاصّة بالنبي صلى الله عليه وسلم وجاء قوله تعالى : { وما على الذين يتَّقون من حسابهم من شيء } رخصة لغير النبي من المسلمين في الحضور في تلك المجالس لأنّ المشركين كان يغضبهم قيام النبي من مجالسهم . ونسب هذا إلى ابن عبَّاس ، والسديّ ، وابن جبير ، فيكون عموم الموصول في قوله : { الذين يتَّقون } مخصوصاً بما اقتضته الآية التي قبلها .
وروى البغوي عن ابن عبَّاس قال : لمَّا نزلت { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبداً . فأنزل الله عزّ وجلّ { وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء } يعني إذا قمتم عنهم فما عليكم تبعةُ ما يقولون في حال مجانبتكم إيَّاهم إذ ليس عليكم جرى ذلك وما عليهم أن يمنعوهم .
وقوله : { وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء } تقدّم تفسير نظيره آنفاً ، وهو قوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } [ الأنعام : 68 ] .
ثمّ الحساب هنا مصدر مضاف إلى ضمير الذين يخوضون في الآيات . فهذا المصدر بمنزلة الفعل المبني للمجهول فيحتمل أن يكون فاعله { الذين يتَّقون } على وزان ما تقدّم في قوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } [ الأنعام : 52 ] ، أي ما على الذين يتَّقون أن يحاسِبُوا الخائضين ، أي أن يمنعوهم من الخوض إذ لم يكلّفهم الله بذلك لأنَّهم لا يستطيعون زجر المشركين ، ويحتمل أن يكون فاعله الله تعالى كقوله : { ثمّ إنّ علينا حسابهم } [ الغاشية : 26 ] أي ما على الذين يتَّقون تبعة حساب المشركين ، أي ما عليهم نصيب من إثم ذلك الخوض إذا سمعوه .
وقوله : { ولكن ذكرى } عطفت الواو الاستدراكَ على النفي ، أي ما عليهم شيء من حسابهم ولكن عليهم الذكرى . والذكرى اسم مصدر ذكَّر بالتشديد بمعنى وعظ ، كقوله تعالى : { تبصرة وذكرى لكلّ عبد منيب } [ ق : 8 ] ، أي عليهم إن سمعُوهم يستهزئون أن يعظُوهم ويُخوّفوهم غضب الله فيجوز أن يكون { ذكرى } منصوباً على المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله . والتقدير : ولكن يُذكّرونهم ذكرى . ويجوز أن يكون ذكرى مرفوعاً على الابتداء ، والتقدير : ولكن عليهم ذكرى .
وضمير { لعلَّهم يتَّقون } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { حسابهم } أي لعلّ الذين يخوضون في الآيات يتَّقون ، أي يتركون الخوض . وعلى هذا فالتقوى مستعملة في معناها اللغوي دون الشرعي . ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى { الذين يتَّقون } ، أي ولكن عليهم الذكرى لعلَّهم يتَّقون بتحصيل واجب النهي عن المنكر أو لعلَّهم يستمرّون على تقواهم .
وعن الكسائي : المعنى ولكن هذه ذكرى ، أي قوله : { وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } [ الأنعام : 68 ] تذكرة لك وليست مؤاخذة بالنسيان ، إذ ليس على المتَّقين تبعة سماع استهزاء المستهزئين ولكنّا ذكَّرناهم بالإعراض عنهم لعلَّهم يتَّقون سماعهم .
والجمهور على أنّ هذه الآية ليست بمنسوخة . وعن ابن عبَّاس والسدّي أنَّها منسوخة بقوله تعالى في سورة [ النساء : 140 ] { وقد نزّل عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يُكْفَرُ بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتَّى يخُوضُوا في حديث غيره إنَّكم إذن مثلهم بناء على رأيهم أنّ قوله : { وما على الذين يتَّقون من حسابهم من شيء } أباح للمؤمنين القعود ولم يمنعه إلاّ على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } [ الأنعام : 68 ] كما تقدّم آنفاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.