108- هذا التشريع أقرب الطرق إلى أن يؤدى الشهداء شهادتهم صحيحة محافظة على حلفهم بالله ، أو خوفاً من فضيحتهم بظهور كذبهم ، إذا حلف الورثة أيماناً لرد أيمانهم . وراقبوا الله في أيمانكم وأماناتكم ، وأطيعوا أحكامه راضين بها . فإن فيها مصالحكم ، ولا تخالفوها فتكونوا من الخارجين على الله ، فإن الله لا ينفع بإرشاده من خرج على طاعته .
قوله تعالى : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } ، أي : ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين ، أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها ، وسائر الناس أمثالهم ، أي أقرب إلى الإتيان بالشهادة على ما كانت .
قوله تعالى : { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } ، أي : أقرب إلى أن يخافوا رد اليمين بعد يمينهم على المدعين فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم ، فيفتضحوا ويغرموا ، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم .
قوله تعالى : { واتقوا الله } ، أن تحلفوا أيمانا كاذبة ، و تخونوا الأمانة .
ثم يقول النص : إن هذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق ؛ أو الخوف من رد أيمان الشاهدين الأولين ، مما يحملهما على تحري الحق .
( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) .
وينتهي إلى دعوة الجميع إلى تقوى الله ، ومراقبته وخشيته ، والطاعة لأوامره ، لأن الله لا يهدي من يفسقون عن طريقه ، إلى خير ولا إلى هدى :
( واتقوا الله واسمعوا . والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
قال القرطبي في تفسيره عن سبب نزول هذه الآيات الثلاث :
" . . . ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات الثلاث نزلت بسبب تميم الداري ، وعدي بن بداء روي البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء ، يختلفان إلى مكة ؛ فخرج معهما فتى من بني سهم ، فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما ، فدفعا تركته إلى أهله ، وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب . فاستحلفهما رسول الله [ ص ] : " ما كتمتما ولا اطلعتما " . ثم وجد الجام بمكة . فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم . فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا . قال : فأخذ الجام . وفيهم نزلت هذه الآية . . [ لفظ الدارقطني ] . "
وواضح أن لطبيعة المجتمع الذي نزلت هذه الأحكام لتنظيمه دخلا في شكل الإجراءات . وربما في طبيعة هذه الإجراءات . فالإشهاد والائتمان على هذا النحو ، ثم الحلف بالله في مجتمع بعد الصلاة . لاستجاشة الوجدان الديني ، والتحرج كذلك من الفضيحة في المجتمع عند ظهور الكذب والخيانة . . كلها تشي بسمات مجتمع خاص . تفي بحاجاته وملابساته هذه الإجراءات .
ولقد تملك المجتمعات اليوم وسائل أخرى للإثبات ، وأشكالا أخرى من الإجراءات ، كالكتابة والتسجيل والإيداع في المصارف . . وما إليها . .
ولكن . أو فقد هذا النص قدرته على العمل في المجتمعات البشرية ؟
إننا كثيرا ما نخدع بيئة معينة ، فنظن أن بعض التشريعات وبعض الإجراءات قد فقدت فاعليتها ، ولم تعد لها ضرورة ، وأنها من مخلفات مجتمعات مضى زمنها ! لأن البشرية استجدت وسائل أخرى !
أجل كثيرا ما نخدع فننسى أن هذا الدين جاء للبشرية جميعا ، في كل أقطارها ، وفي كل أعصارها .
وأن كثيرة ضخمة من هذه البشرية اليوم ما تزال بدائية أو متدرجة من البداوة . وأنها في حاجة إلى أحكام وإجراءات تواكب حاجاتها في جميع أشكالها وأطوارها ، وأنها تجد في هذا الدين ما يلبي هذه الحاجات في كل حالة . وأنها حين ترتقي من طور إلى طور تجد في هذا الدين كفايتها كذلك بنفس النسبة ؛ وتجد في شريعته ما يلبي حاجاتها الحاضرة ، ثم يرتقي بها إلى تلبية حاجاتها المتطورة . . وأن هذه معجزة هذا الدين ومعجزة شريعته ؛ وآية أنه من عند الله ، وأنها من اختياره سبحانه .
على أننا نخدع كذلك مرة أخرى حين ننسى الضرورات التي يقع فيها الأفراد من البيئات التي تجاوزت هذه الأطوار ؛ والتي يسعفهم فيها يسر هذه الشريعة وشمولها ، ووسائل هذا الدين المعدة للعمل في كل بيئة وفي كل حالة . في البدو والحضر . في الصحراء والغابة . لأنه دين البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها . . وتلك أيضا إحدى معجزاته الكبرى . .
إننا نخدع حين نتصور أننا - نحن البشر - أبصر بالخلق من رب الخلق . . فتردنا الوقائع إلى التواضع ! وما أولانا أن نتذكر قبل أن تصدمنا الأحداث . وأن نعرف أدب البشر في حق خالق البشر . . أدب العبيد في حق رب العبيد . . لو كنا نتذكر ونعرف ، ونثوب . .
وقوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } أي : شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين وقد استريب بهما ، أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي .
وقوله : { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : يكون الحامل لهم على الإتيان بالشهادة{[10518]} على وجهها ، هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله ، والخوف من الفضيحة بين الناس إذا ردت اليمين على الورثة ، فيحلفون ويستحقون{[10519]} ما يدعون ، ولهذا قال : { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } ثم قال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أموركم { وَاسْمَعُوا } أي : وأطيعوا { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } يعني : الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته .
{ ذلك } أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهد . { أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } على نحو ما حملوها من غير تحريف وخيانة فيها { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } أن ترد اليمين على المدعين . بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم . { واتقوا الله واسمعوا } ما توصون به سمع إجابة . { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة .
الإشارة ب { ذلك } هي إلى جميع ما حد الله قبل من حبس الشاهدين من بعد الصلاة لليمين ، ثم إن عثر على جورهما ردت اليمين وغرما . فذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل ، لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين ، هذا قول ابن عباس رحمه الله ، ويظهر من كلام السدي أن الإشارة ب { ذلك } إنما هي إلى الحبس من بعد الصلاة فقط ، ثم يجيء قوله تعالى : { أو يخافون أن ترد أيمان } بإزاء { فإن عثر } [ المائدة : 107 ] الآية ، وجمع الضمير في { يأتوا . . . أويخافوا } إذ المراد صنف ونوع من الناس ، و { أو } في هذه الآية على تأويل السدي بمنزلة قولك«تجيئي يا زيداً أو تسخطني » كأنك تريد وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية ، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الإيمان ، وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا وأقرب إلى أن يخافوا ، وقوله تعالى : { على وجهها } معناه على جهتها القويمة التي لم تبدل ولا حرفت ، ثم أمر تعالى بالتقوى التي هي الاعتصام بالله وبالسمع لهذه الأمور المنجية ، وأخبر أنه لا يهدي القوم الفاسقين ، من حيث هم فاسقون ، وإلا فهو تعالى يهديهم إذا تابوا ، ويحتمل أن يكون لفظ { الفاسقين } عاماً والمراد الخصوص فيمن لا يتوب .
والمشار إليه في قوله : { ذلك أدنى } إلى المذكور من الحكم من قوله { تحبسوهما من بعد الصلاة } إلى قوله إنَّا إذن لمنَ الظالمين . و { أدنى } بمعنى أقرب ، والقرب هنا مجاز في قرب العلم وهو الظنّ ، أي أقوى إلى الظنّ بالصدق .
وضمير { يأتوا } عائد إلى « الشهداء » وهم : الآخران من غيركم ، والآخران اللذان يقومان مقامهما ، أي أن يأتي كلّ واحد منهم . فجمع الضمير على إرادة التوزيع .
والمعنى أنّ ما شرع الله من التوثيق والضبط ، ومن ردّ الشهادة عند العثور على الريبة أرجى إلى الظنّ بحصول الصدق لكثرة ما ضبط على كلا الفريقين ممّا ينفي الغفلة والتساهل ، بله الزور والجور مع توقّي سوء السمعة .
ومعنى { أن يأتوا بالشهادة } : أن يؤدّوا الشهادة . جعل أداؤها والإخبار بها كالإتيان بشيء من مكان .
ومعنى قوله { على وجهها } ، أي على سنّتها وما هو مقوّم تمامها وكمالها ، فاسم الوجه في مثل هذا مستعار لأحسن ما في الشيء وأكمله تشبيهاً بوجه الإنسان ، إذ هو العضو الذي يعرف به المرء ويتميز عن غيره . ولمّا أريد منه معنى الاستعمارة لهذا المعنى ، وشاع هذا المعنى في كلامهم ، قالوا : جاء بالشيء الفلاني على وجهه ، فجعلوا الشيء مأتيّاً به ، ووصفوه بأنه أتي به متمكّناً من وجهه ، أي من كمال أحواله .
فحرف ( على ) للاستعلاء المجازي المراد منه التمكّن ، مثل { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] . والجارّ والمجرور في موضع الحال من { الشهادة } ، وصار ذلك قرينة على أنّ المراد من الوجه غير معناه الحقيقي .
وسنّة الشهادة وكمالها هو صدقها والتثبّت فيها والتنبّه لما يغفل عنه من مختلف الأحوال التي قد يستخفّ بها في الحال وتكون للغفلة عنها عواقب تضيِّع الحقوق ، أي ذلك يعلّمهم وجه التثبّت في التحمّل والأداء وتوخّي الصدق ، وهو يدخل في قاعدة لزوم صفة اليقظة للشاهد .
وفي الآية إيماء إلى حكمة مشروعية الإعذاء في الشهادة بالطعن أو المعارضة ، فإنّ في ذلك ما يحمل شهود الشهادة على التثبّت في مطابقة شهادتهم ، للواقع لأنّ المعارضة والإعذار يكشفان عن الحقّ .
وقوله { أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم } عطف على قوله { أن يأتوا } باعتبار ما تعلّق به من المجرورات ، وذلك لأنّ جملة { يأتوا بالشهادة على وجهها } أفادت الإتيان بها صادقة لا نقصان فيها بباعث من أنفس الشهود ، ولذلك قدّرناه بمعنى أن يعلموا كيف تكون الشهادة الصادقة . فأفادت الجملة المعطوف عليها إيجاد وازع للشهود من أنفسهم ، وأفادت الجملة المعطوفة وازعاً هو توقّع ظهور كذبهم . ومعنى { أن تردّ أيمان } أن تُرَجَّع أيمان إلى ورثة الموصي بعد أيمان الشهيدين . فالردّ هنا مجاز في الانتقال ، مثل قولهم : قلب عليه اليمين ، فيعيَّروا به بين الناس ؛ فحرف ( أوْ ) للتقسيم ، وهو تقسيم يفيد تفصيل ما أجمله الإشارة في قوله : { ذلك أدنى } الخ . . . وجمع { الأيمان } باعتبار عموم حكم الآية لسائر قضايا الوصايا التي من جنسها ، على أنّ العرب تعدل عن التثنية كثيراً . ومنه قوله تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ]
وذيّل هذا الحكم الجليل بموعظة جميع الأمّة فقال : { واتّقوا الله } الآية .
وقوله { واسمعوا } أمر بالسمع المستعمل في الطاعة مجازاً ، كما تقدّم في قوله تعالى : { إذ قلتم سمعنا وأطعنا } في هذه السورة ( 7 ) .
وقوله والله لا يهدي القوم الفاسقين } تحريض على التقوى والطاعة لله فيما أمر ونهى ، وتحذير من مخالفة ذلك ، لأنّ في اتّباع أمر الله هُدى وفي الإعراض فسقاً . { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي المعرضين عن أمر الله ، فإنّ ذلك لا يستهان به لأنّه يؤدّي إلى الرين على القلب فلا ينفذ إليه الهدى من بعدُ فلا تكونُوهم وكونوا من المهتدين .
هذا تفسير الآيات توخّيتُ فيه أوضح المعاني وأوفقها بالشريعة ، وأطلت في بيان ذلك لإزالة ما غمض من المعاني تحت إيجازها البليغ . وقد نقل الطيبي عن الزجّاج أنّ هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب . وقال الفخر : رَوَى الواحدي عن عمر : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام . وقال ابن عطية عن مكّي بن أبي طالب : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً .
قال ابن عطية : وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها . وذلك بيّن من كتابه .
ولقصد استيفاء معاني الآيات متتابعة تجنّبت التعرّض لما تفيده من الأحكام واختلاف علماء الإسلام فيها في أثناء تفسيرها . وأخّرت ذلك إلى هذا الموضع حين انتهيت من تفسير معانيها . وقد اشتملت على أصلين : أحدهما الأمر بالإشهاد على الوصية ، وثانيهما فصل القضاء في قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء مع أولياء بديل بن أبي مريم .
فالأصل الأول : من قوله تعالى : { شهادة بينكم } إلى قوله { ولا نكتم شهادة الله } .
والأصل الثاني : من قوله : { فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً } إلى قوله { بعد أيمانهم } . ويحصل من ذلك معرفة وجه القضاء في أمثال تلك القضية ممّا يتّهم فيه الشهود .
وقوله : { شهادة بينكم } الآية بيان لكيفية الشهادة ، وهو يتضمّن الأمر بها ، ولكن عدل عن ذكر الأمر لأنّ الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محلّ ثقتهم .
وأهمّ الأحكام التي تؤخذ من الآية ثلاثة : أحدها : استشهاد غير المسلمين في حقوق المسلمين ، على رأي من جعله المراد من قوله { أو آخران من غيركم } . وثانيها : تحليف الشاهد على أنّه صادق في شهادته . وثالثها : تغليظ اليمين بالزمان .
فأمّا الحكم الأول : فقد دلّ عليه قوله تعالى : { أو آخران من غيركم } . وقد بيّنا أنّ الأظهر أنّ الغيرية غيرية في الدين . وقد اختلف في قبول شهادة غير المسلمين في القضايا الجارية بين المسلمين ؛ فذهب الجمهور إلى أنّ حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] وقوله { ممّن ترْضَوْن من الشهداء } [ البقرة : 282 ] وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي . وذهب جماعة إلى أنّ الآية محكمة ، فمنهم من جعلها خاصّة بالشهادة على الوصية في السفر إذا لم يكن مع الموصي مسلمون . وهو قول أبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وقضى بذلك أبو موسى الأشعري في وصية مثل هذه ، أيام قضائه بالكوفة ، وقال : هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، وشريح ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدّي ، وسفيان الثوري ، وجماعة ، وهم يقولون : لا منسوخ في سورة المائدة ، تبعاً لابن عباس . ومنهم من تأوّل قوله { من غيركم } على أنّه من غير قبيلتكم ، وهو قول الزهري ، والحسن ، وعكرمة .
وقال أحمد بن حنبل بقياس بقية العقود المشهود فيها في السفر على شهادة الوصية ، فقال بأنّ شهادة أهل الذمّة على المسلمين في السفر ماضية ، وزاد فجعلها بدون يمين . والأظهر عندي أنّ حكم الآية غير منسوخ ، وأنّ قبول شهادة غير المسلمين خاصّ بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة ، وأنّ وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنّها تعرض في حالة لا يستعدّ لها المرء من قبلُ فكان معذوراً في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات ، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثّق لها بغير ذلك ؛ فكان هذا الحكم رخصة .
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلاّ في الضرورة ، عند من رأى إعمالها في الضرورة ، أنّ قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مَقطَعاً للحقوق . فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود : اتّقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفّذون . ولمّا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس إلى اتّباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلاً لأن تزكّيهم أمّته وتسمهم بالصدق وهم كذّبوا رسولنا ، ولأنّ من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره ، ولا لمجال التضييق والتوسّع في أعماله الناشئة عن معتقداته ، إذ لعلّ في دينه ما يبيح له الكذب ، وبخاصّة إذا كانت شهادته في حقّ لمن يخالفه في الدين ، فإنّنا عهدنا منهم أنّهم لا يتوخّون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم . قال تعالى حكاية عنهم « ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين ( أي المسلمين ) سبيل » فمن أجل ذلك لم يكن مظنّة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطاً . وهذا حال الغالب منهم ، وفيهم من قال الله في شأنه { من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك } [ آل عمران : 75 ] ولكن الحكم للغالب .
وأمّا حكم تحليف الشاهد على صدقه في شهادته : فلم يرد في المأثور إلاّ في هذا الموضع ؛ فأمّا الذين قالوا بنسخ قبول شهادة الكافر فتحليف شاهدي الوصية الكافرين منسوخ تبعاً ، وهو قول الجمهور . وأمّا الذين جعلوه محكَماً فقد اختلفوا ، فمنهم من خصّ اليمين بشاهدي الوصية من غير المسلمين ، ومنهم من اعتبر بعلّة مشروعية تحليف الشاهدين من غير المسلمين ، فقاس عليه تحليف الشاهدين إذا تطرّقت إليهما الريبة ولو كانا مسلمين . وهذا لا وجه له إذ قد شرط الله فيهما العدالة وهي تنافي الريبة ، نعم قد يقال : هذا إذا تعذّرت العدالة أو ضعفت في بعض الأوقات ووقع الاضطرار إلى استشهاد غير العدول كما هي حالة معظم بلاد الإسلام اليومَ ، فلا يبعد أن يكون لتحيلف الشاهد المستور الحال وجهٌ في القضاء . والمسألة مبسوطة في كتب الفقه .
وأمّا حكم تغليظ اليمين : فقد أخذ من الآية أنّ اليمين تقع بعد الصلاة ، فكان ذلك أصلاً في تغليظ اليمين في نظر بعض أهل العلم ، ويجيء في تغليظ اليمين أن يكون بالزمان والمكان واللفظ . وفي جميعها اختلاف بين العلماء . وليس في الآية ما يتمسّك به بواحد من هذه الثلاثة إلاّ قوله : { من بعد الصلاة } وقد بيّنتُ أنّ الأظهر أنّه خاصّ بالوصية ، وأمّا التغليظ بالمكان وباللفظ فتفصيله في كتب الخلاف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك أدنى}، يعني أجدر، نظيرها في النساء، {أن يأتوا}، يعني النصرانيين، {بالشهادة على وجهها}، كما كانت ولا يكتمان شيئا، {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم}: أو يخافوا أن يطلع على خيانتهم فيرد شهادتهما بشهادة الرجلين المسلمين من أولياء الميت، فحلف عبد الله والمطلب كلاهما أن الذي في وصية الميت حق، وأن هذا الإناء من متاع صاحبنا، فأخذوا تميم بن أوس الداري، وعدي بن بندا النصرانيين بتمام ما وجدوا في وصية الميت حين اطلع الله عز وجل على خيانتهما في الإناء، ثم وعظ الله عز وجل المؤمنين ألا يفعلوا مثل هذا، وألا يشهدوا بما لم يعاينوا ويروا، فقال سبحانه يحذرهم نقمته: {واتقوا الله واسمعوا} مواعظه، {والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ذلكَ": هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء إذا ارتبتم في أمرهم واتهمتموهم بخيانة المال من أوصى إليهم من حَبْسهم بعد الصلاة، واستحلافكم إياهم على ما ادّعى قِبَلهم أولياء الميت أدْنى لَهُم "أنْ يَأْتُوا بالشّهادَةِ على وجهِها "يقول: هذا الفعل إذا فعلتم بهم أقرب لهم أن يصدقُوا في أيمانهم، ولا يكتموا، ويقرّوا بالحقّ، ولا يخونوا. "أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدّ أيمَانٌ بَعْدَ أيمَانِهِمْ ": أو يخافوا هؤلاء الأوصياء إن عُثِر عليهم أنهم استحقوا إثما في أيمانهم بالله، أن تردّ أيمانهم على أولياء الميت بعد أيمانهم التي عثر عليها أنها كذب، فيستحقوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم، فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم مخافة الفضيحة على أنفسهم وحذرا أن يستحقّ عليهم ما خانوا فيه أولياء الميت وورثته.
وقال آخرون: معنى ذلك: "تحبسونهما من بعد الصلاة"، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، وعلى أنهما استحقا إثما، فآخران يقومان مقامهما. عن السديّ، قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان بالله لا نشتري به ثمنا قليلاً ولو كان ذا قُربى، ولا نكتم شهادة الله، إنا إذن لمن الاثمين، إنّ صاحبكم لبهذا أوصى، وإن هذه لتركته فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم أجز لكما شهادة وعاقبتكما. فإن قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
"وَاتّقُوا اللّهَ وَاسمَعُوا وَاللّهُ لا يَهدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ": وخافوا الله أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة وأن تذهبوا بها مال من يحرم عليكم ماله، وأن تخونوا من ائتمنكم. "واسمَعُوا": اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به، فاعملوا به وانتهوا إليه." وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ ": والله لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان وعصى ربه.
وكان ابن زيد يقول: الفاسق في هذا الموضع: هو الكاذب وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفوع، إلاّ أن الله تعالى عمّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفساق، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض بخبر ولا عقل، فذلك على معاني الفسق كلها حتى يخصص شيئا منها ما يجب التسليم له فيسلم له.
ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين، هل هو منسوخ، أو هو محكم ثابت؟ فقال بعضهم: هو منسوخ.
وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة.
والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية منسوخ، وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام، من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا، أن من ادّعِيَ عليه دعوى مما يملكه بنو آدم أن المدّعى عليه لا يبرئه مما ادّعِيَ عليه إلاّ اليمين إذا لم يكن للمدّعي بينة تصحح دعواه، وأنه إن اعترف وفي يدي المدّعى سلعة له، فادّعى أنها له دون الذي في يده، فقال الذي هي في يده: بل هي لي اشتريتها من هذا المدّعي، أن القول قول من زعم الذي هي في يده أنه اشتراها منه دون من هي في يده مع يمينه إذا لم يكن للذي هي في يده بينة تحقق به دعواه الشراء منه. فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلاف فيه بين أهل العلم، وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمر وصية الموصي إلى عدلين من المسلمين أو إلى آخرَيْن من غيرهم، إنما ألزَم النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما ذكر عنه الوصيين اليمين حين ادّعى عليهما الورثة ما ادّعوا ثم لم يُلزم المدّعى عليهما شيئا إذ حلفا، حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم، فحينئذٍ ألزم النبيّ صلى الله عليه وسلم ورثة الميت اليمين، لأن الوصيين تحوّلا مدّعِيَين بدعواهما ما وجدا في أيديهما من مال الميت أنه لهما اشتريا ذلك منه، فصارا مقرّين بالمال للميت مدّعيين منه الشراء، فاحتاجا حينئذٍ إلى بينة تصحح دعواهما وورثة الميت ربّ السلعة أولى باليمين منهما، فذلك قوله تعالى: "فإنْ عُثرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما...". فإذ كان تأويل ذلك كذلك فلا وجه لدعوى مدّع أن هذه الآية منسوخة، لأنه غير جائز أن يقضى على حكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ إلاّ بخبر يقطع العذر إما من عند الله أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بورود النقل المستفيض بذلك، فأما ولا خبر بذلك، ولا يدفع صحته عقل، فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم وعظ الله المؤمنين، وحذرهم أن يفعلوا مثل ذلك، فقال: (واتقوا الله واسمعوا) مواعظه (والله لا يهدي القوم الفاسقين) ما داموا في فسقهم، أو قال ذلك لقوم علم الله منهم أنهم لا يرجعون عن ذلك أبدا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ذلك} الذي تقدم من بيان الحكم {أدنى} أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة {بالشهادة على وَجْهِهَا أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان} أن تكرّ أيمان شهود آخرين بعد إيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل. {واسمعوا} سمع إجابة وقبول.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الإشارة ب {ذلك} هي إلى جميع ما حد الله قبل من حبس الشاهدين من بعد الصلاة لليمين، ثم إن عثر على جورهما ردت اليمين وغرما. فذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل، لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين، هذا قول ابن عباس رحمه الله، ويظهر من كلام السدي أن الإشارة ب {ذلك} إنما هي إلى الحبس من بعد الصلاة فقط... وقوله تعالى: {على وجهها} معناه على جهتها القويمة التي لم تبدل ولا حرفت، ثم أمر تعالى بالتقوى التي هي الاعتصام بالله وبالسمع لهذه الأمور المنجية، وأخبر أنه لا يهدي القوم الفاسقين، من حيث هم فاسقون، وإلا فهو تعالى يهديهم إذا تابوا، ويحتمل أن يكون لفظ {الفاسقين} عاماً والمراد الخصوص فيمن لا يتوب.
والمعنى: اتقوا الله أن تخونوا في الأمانات واسمعوا مواعظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها والله لا يهدي القوم الفاسقين، وهو تهديد ووعيد لمن خالف حكم الله وأوامره فهذا هو القول في تفسير هذه الآية التي اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
553- لا يمين بعد يمين، غير أن ظاهره يقتضي يمينا بعد يمين، وهو خلاف الإجماع فتعين حمله على يمين بعد رد يمين على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، لأن اللفظ إذا ترك من وجه بقي حجة في الباقي. (نفسه: 4/92-93)
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم هذا على هذا الوجه الغريب، بين سبحانه سرَّه فقال: {ذلك} أي الأمر المحكم المرتب هذا الترتيب بالأيمان وغيرها {أدنى} أي أقرب {أن} أي إلى أن {يأتوا} أي الذين شهدوا أولاً {بالشهادة} أي الواقعة في نفس الأمر {على وجهها} من غير أدنى ميل بسبب أن يخافوا من الحنث عند الله بعد هذا التغليظ {أو يخافوا} إن لم يمنعهم الخوف من الله {أن ترد} أي تثنى وتعاد {أيمان} أي من الورثة {بعد أيمانهم} للعثور على ريبة فيصيروا بافتضاحهم مثلاً للناس...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وحاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز، أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهوداً مسلمين، وكان في سفر، ووجد كفاراً جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفاً بالله على أنهما شهدا بالحق، وما كتما من الشهادة شيئاً ولا خانا مما تركه الميت شيئاً، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه من خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى حكمة شرعه لهذه الشهادة وهذه الأيمان، في هذا الأمر المبني على الثقة والائتمان، فقال: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} أي ذلك الذي ذكر من تكليف المؤتمن على الوصية القيام على مشهد من الناس بعد الصلاة وإقسامه تلك اليمين المغلظة أقرب الوسائل إلى أن يؤدي الشهداء الشهادة على وجهها بلا تغيير ولا تبديل، تعظيما لله ورهبة عن عذابه ورغبة في ثوابه، أو خوفا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم في الشهادة برد أيمان إلى الورثة بعد أيمانهم تكون مبطلة لها، فمن لم يمنعه خوف الله وتعظيمه أن يكذب أو يخون لضعف دينه يمنعه خوف الفضيحة على أعين الناس.
{واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي واتقوا الله أيها المؤمنون في الشهادة والأمانة وفي كل شيء واسمعوا سمع إجابة وقبول هذه الأحكام وسائر ما شرعه الله تعالى لكم، فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين عن أمر الله تعالى محرومين من هدايته مستحقين لعقابه.
إيضاح لتفسير الآيات وبلاغتها والاستنباط منها:
قال الرازي بعد تفسير الآية الثانية: اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما، وروى الواحدي رحمه الله في البسيط عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام اه.
وأورد الآلوسي في روح المعاني عبارة الرازي عن المفسرين دون رواية الواحدي عن عمر، ثم نقل مثلها عن السعد التفتازاني وعن الطبرسي في الآيتين – لا الثانية فقط – وقال إن الطبرسي افتخر بما أتى فيه ولم يأت بشيء.
أقول: نحن لا يروعنا ما يراه المفسرون من الصعوبة في إعراب بعض الآيات أو في حكمها لأن لهم مذاهب في النحو والفقه يزنون بها القرآن فلا يفهمونه إلا منها، والقرآن فوق النحو والفقه والمذاهب كلها، فهو أصل الأصول، ما وافقه فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود مرذول، وإنما يهمنا ما يقوله علماء الصحابة والتابعين فيه، فهو العون الأكبر لنا على فهمه، ولم يرو عن أحد منهم ما يدل على وجدان شيء من الصعوبة في عبارة الآيتين. وما نقله الواحدي عن عمر رضي الله عنه في آية «فإن عثر على أنهما استحقا إثما» فليس مما يؤيد ما نقل عن المفسرين من استصعابها، بل معناه أن أحكامها أشد من سائر أحكام السورة، ولعله يعني بذلك ما فيها من التضييق في رد أيمان بعد أيمان، وإظهار فضائح من كذب وخان، قال في حقيقة الأساس: عضلت على فلان – ضيقت عليه أمره وحلت بينه وبين ما يريد. ومنه النهي عن عضل النساء أي منعهن من الزواج.
ولكن أصحاب المذاهب الفقهية اضطربوا في عدة أحكام من أحكامها لمجيئها مخالفة لأقيستهم ولما عليه العمل بثبوته في سائر الأحكام – منها حلف الشاهد اليمين، ومنها شهادة غير المسلم فيما هو خاص بالمسلمين، ومنها العمل بيمين المدعي، وقد اجتهدوا في تخريج كل مسألة من تلك المسائل على الثابت عندهم كما تراه قريبا.
حتى ادعوا في بعضها النسخ، ورووه عن بعض الصحابة بسند لم يصح، فلهذا رأينا بعد تفسير الآيتين بما يفهم من ظاهر اللفظ بالاختصار أن نفصل ما اشتملتا عليه من الفوائد والأحكام، ليظهر حتى للضعيف في علم العربية ما فيهما من إعجاز الإيجاز، وما جنته المذاهب النحوية والفقهية على كثير من العلماء، حتى قال ما قال في الآيتين أشهرهم بسعة الاطلاع أو بالدقة والذكاء.
أما دعوى النسخ فقد علم مما سلف ومما سيأتي قريبا ما عليه المحققون من أنه ليس في سورة المائدة منسوخ، وقد حرر المسألة الحافظ ابن كثير في تفسيره...
وأما الفوائد والأحكام التي اشتملت عليها الآيتان بإيجازهما، فهاك ما يتبادر إلى الذهن منها.
- الحث على الوصية وتأكيد أمرها وعدم التهاون فيها بشواغل السفر وإن قصرت فيه الصلاة وأبيح فيه الإفطار في رمضان.
- الإشهاد على الوصية في الحضر والسفر، ليكون أمرها أثبت، والرجاء في تنفيذها أقوى، وإن كثيرا من الناس لا يكتبون وصيتهم ولا يشهدون أحدا عليها فيكون ذلك في بعض الأحيان سببا لضياعها.
- إن الأصل في الإشهاد على الوصية أن يختار الشاهدان من المؤمنين الموثوق بعدالتهم كما ثبت في آيات أخرى أيضا، وحكمته ظاهرة من وجوه لا حاجة إلى شرحها.
- إن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع. فإن وجبت الوصية وجب بشرطه وإلا فهو مندوب، لأن مقصد الشارع من إثبات الوصية لا يترك البتة إذا لم يتيسر إقامته على وجه الكمال، إذ الميسور لا يسقط بالمعسور، والمقام هنا مقام إثبات الحقوق، لا مقام التعبد الذي يشترط فيه الإيمان. ولا مقام التشريف والتكريم للأديان وأهل الأديان.
- إن الشهادة تشمل ما يقوله كل من الخصمين من إقرار في القضية أو إنكار، ونفي للمدعي به أو إثبات.
- شرعية اختيار الأوقات التي تؤثر في قلوب الشهود ومقسمي الأيمان ويرجى أن يصدقوا ويبروا فيها كما بيناه في تعليل القسم بعد الصلاة، ومثله في ذلك اختيار المكان، وهو مشروع أيضا.
ومما ورد في السنة في ذلك ما رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وصححه وابن ماجه بسند رجاله ثقات وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه عن جابر مرفوعا (لا يحلف أحد عند منبري كاذبا إلا تبوأ مقعده من النار) 262 وعن أبي هريرة حديث بمعناه عند أحمد وابن ماجه. وروى النسائي بإسناد رجاله ثقاب عن أبي أمامة بن ثعلبة رفعه (من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) واستدل بالآية وبهذه الأحاديث جماهير الفقهاء على جواز التغليظ على الحالف بمكان معين تثبت حرمته شرعا كالمسجد الحرام، وخاصة ما بين الركن ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والمسجد النبوي وخاصة ما كان منه عند منبره صلى الله عليه وسلم، وبالزمان كيوم الجمعة وبعد صلاة العصر، وقال بعضهم – ومنهم الحنفية – أن ما ذكر من النصوص لا يدل على ذلك. ولعله لا ينكر أحد التغليظ بما ورد فيها، وإنما الخلاف في القياس عليها أو الأخذ بفحواها.
وقال الرازي في تفسير الآية: قال الشافعي رحمه الله: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مئتي درهم – في الزمان والمكان، فيحلف بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد، وقال أبو حنيفة رحمه الله يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان ومكان، وهذا على خلاف الآية، ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم، ولا شك أن الذي قاله الشافعي رضي الله عنه أقوى اه.
هذه العبارة تشهد على نفسها بالتعصب فلا يقال إن أبا حنيفة خالف الآية إلا إذا أجاز ترك العمل بمنطوقها في هذا الموضوع نفسه.
- التغليظ على الحالف بصيغة اليمين بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب كالألفاظ التي وردت في الآية، وأشد منها ما ورد في شهادة اللعان، وقد جرى على هذا أصحاب الجمعيات السياسية في الإسلام وغيره فاخترعوا أيمانا وأقساما قد يتحامى أفسق الناس وأجرأهم على الإجرام أن يحنث بها. وقد بينا ما يجب البر به وما يجب الحنث به من الأيمان وسائر مهمات أحكامها في تفسير آية كفارتها من هذه السورة.
- إن الأصل في أخبار الناس وشهادتهم التي هي أخبار مؤكدة صادرة عن علم صحيح أن تكون مقبولة مصدقة. ولهذا شرط في حكم تحليف الشاهدين الارتياب في خبرهما، وصدر هذا الشرط بأن التي لا تدل على تحقق الوقوع، إشارة إلى أن الأصل في وقوعها أن يكون شاذا.
- إن الأصل في الناس أن يكونوا أمناء، وفي المؤتمن أن يكون أمينا، وأن يكون ما يقوله في أمر الأمانة مقبولا. ولذلك قال «فإن عثر على أنهما استحقا إثما» فأفادت أداة الشرط أن الأصل في هذا أن لا يقع، وأنه إن وقع كان شاذا. وأفاد فعل «عثر» المبني للمفعول إن هذا الشذوذ إن وقع فشأنه أن يطلع عليه بالمصادفة والاتفاق، لا بالبحث وتتبع العثرات.
- شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام أو الخصوم في شهادتهم، وهو الذي عليه العمل الآن في أكثر الأمم، بل تحتمه قوانينها الوضعية باطراد لكثرة ما يقع من شهادة الزور، وسيأتي بحث الفقهاء في ذلك.
-12- شرعية ائتمان المسلم لغير المسلم على المال وشرعية تحليف المؤتمن والعمل بيمينه.
- شرعية رد اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق الله له بيمين صار حالفها خصما له. ومن هذا القبيل شهادة المتلاعنين وأقسامهما، فإذا شهد الرجل على امرأته بالزنا تلك الشهادة المشروعة في سورة النور المتضمنة للقسم المغلظ -ترد الشهادة مع اليمين إلى زوجه التي رماها بذلك، فإذا شهدت بالله مثل شهادته سقط عنها الحد وبرئت من التهمة في شرع الله، وبالنسبة إلى غيره من عباد الله. ومنه أيمان القسامة في الدماء، وقد اختلف الفقهاء فيمن يبدأ باليمين – المدعون ذووا القتيل؟ أم المدعى عليهم ذووا المتهم بالقتل، وأيا ما كان البادئون فإن الأيمان ترد إلى الآخرين.
- إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة لميت بأمر يتعلق بالتركة فالذي يجب تقديمه منهم للقيام به من كان أولاهم به. ومن بلاغة الإيجاز إبهام الأوليين بالقسم في الآية لاختلاف الأولوية باختلاف الأحوال والوقائع كما أشرنا إليه. فإذا تعين أصحاب الأولوية بلا نزاع فذاك وإلا فالحاكم هو الذي يقدم من يراه الأولى.
- صحة شهادة غير المسلم على المسلم والعمل بها في الجملة، وأخرناه ليتصل بما نوضحه به في الفصل الآتي.
كل هذه الأحكام مفهومة من الآيتين فتأمل جمعهما لهذه المعاني الكثيرة على إيجازهما وإيضاحهما للمعنى المقصود بهما بالذات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: أنّ ما شرع الله من التوثيق والضبط، ومن ردّ الشهادة عند العثور على الريبة أرجى إلى الظنّ بحصول الصدق لكثرة ما ضبط على كلا الفريقين ممّا ينفي الغفلة والتساهل، بله الزور والجور مع توقّي سوء السمعة...
ومعنى قوله {على وجهها}، أي على سنّتها وما هو مقوّم تمامها وكمالها، فاسم الوجه في مثل هذا مستعار لأحسن ما في الشيء وأكمله تشبيهاً بوجه الإنسان، إذ هو العضو الذي يعرف به المرء ويتميز عن غيره. ولمّا أريد منه معنى الاستعارة لهذا المعنى، وشاع هذا المعنى في كلامهم، قالوا: جاء بالشيء الفلاني على وجهه، فجعلوا الشيء مأتيّاً به، ووصفوه بأنه أتي به متمكّناً من وجهه، أي من كمال أحواله...
وقوله {واسمعوا} أمر بالسمع المستعمل في الطاعة مجازاً ...
ولقصد استيفاء معاني الآيات متتابعة تجنّبت التعرّض لما تفيده من الأحكام واختلاف علماء الإسلام فيها في أثناء تفسيرها. وأخّرت ذلك إلى هذا الموضع حين انتهيت من تفسير معانيها. وقد اشتملت على أصلين: أحدهما الأمر بالإشهاد على الوصية، وثانيهما فصل القضاء في قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء مع أولياء بديل بن أبي مريم.
فالأصل الأول: من قوله تعالى: {شهادة بينكم} إلى قوله {ولا نكتم شهادة الله}.
والأصل الثاني: من قوله: {فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً} إلى قوله {بعد أيمانهم}. ويحصل من ذلك معرفة وجه القضاء في أمثال تلك القضية ممّا يتّهم فيه الشهود.
وقوله: {شهادة بينكم} الآية بيان لكيفية الشهادة، وهو يتضمّن الأمر بها، ولكن عدل عن ذكر الأمر لأنّ الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محلّ ثقتهم.
وأهمّ الأحكام التي تؤخذ من الآية ثلاثة: أحدها: استشهاد غير المسلمين في حقوق المسلمين، على رأي من جعله المراد من قوله {أو آخران من غيركم}. وثانيها: تحليف الشاهد على أنّه صادق في شهادته. وثالثها: تغليظ اليمين بالزمان.
فأمّا الحكم الأول: فقد دلّ عليه قوله تعالى: {أو آخران من غيركم}. وقد بيّنا أنّ الأظهر أنّ الغيرية غيرية في الدين. وقد اختلف في قبول شهادة غير المسلمين في القضايا الجارية بين المسلمين؛ فذهب الجمهور إلى أنّ حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2] وقوله {ممّن ترْضَوْن من الشهداء} [البقرة: 282] وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي. وذهب جماعة إلى أنّ الآية محكمة، فمنهم من جعلها خاصّة بالشهادة على الوصية في السفر إذا لم يكن مع الموصي مسلمون. وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، وقضى بذلك أبو موسى الأشعري في وصية مثل هذه، أيام قضائه بالكوفة، وقال: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيّب، وابن جبير، وشريح، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، والسدّي، وسفيان الثوري، وجماعة، وهم يقولون: لا منسوخ في سورة المائدة، تبعاً لابن عباس. ومنهم من تأوّل قوله {من غيركم} على أنّه من غير قبيلتكم، وهو قول الزهري، والحسن، وعكرمة.
وقال أحمد بن حنبل بقياس بقية العقود المشهود فيها في السفر على شهادة الوصية، فقال بأنّ شهادة أهل الذمّة على المسلمين في السفر ماضية، وزاد فجعلها بدون يمين. والأظهر عندي أنّ حكم الآية غير منسوخ، وأنّ قبول شهادة غير المسلمين خاصّ بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة، وأنّ وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنّها تعرض في حالة لا يستعدّ لها المرء من قبلُ فكان معذوراً في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثّق لها بغير ذلك؛ فكان هذا الحكم رخصة.
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلاّ في الضرورة، عند من رأى إعمالها في الضرورة، أنّ قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مَقطَعاً للحقوق. فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود: اتّقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفّذون. ولمّا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس إلى اتّباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلاً لأن تزكّيهم أمّته وتسمهم بالصدق وهم كذّبوا رسولنا، ولأنّ من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره، ولا لمجال التضييق والتوسّع في أعماله الناشئة عن معتقداته، إذ لعلّ في دينه ما يبيح له الكذب، وبخاصّة إذا كانت شهادته في حقّ لمن يخالفه في الدين، فإنّنا عهدنا منهم أنّهم لا يتوخّون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم. قال تعالى حكاية عنهم « ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين (أي المسلمين) سبيل» فمن أجل ذلك لم يكن مظنّة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطاً. وهذا حال الغالب منهم، وفيهم من قال الله في شأنه {من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك} [آل عمران: 75] ولكن الحكم للغالب.
وأمّا حكم تحليف الشاهد على صدقه في شهادته: فلم يرد في المأثور إلاّ في هذا الموضع؛ فأمّا الذين قالوا بنسخ قبول شهادة الكافر فتحليف شاهدي الوصية الكافرين منسوخ تبعاً، وهو قول الجمهور. وأمّا الذين جعلوه محكَماً فقد اختلفوا، فمنهم من خصّ اليمين بشاهدي الوصية من غير المسلمين، ومنهم من اعتبر بعلّة مشروعية تحليف الشاهدين من غير المسلمين، فقاس عليه تحليف الشاهدين إذا تطرّقت إليهما الريبة ولو كانا مسلمين. وهذا لا وجه له إذ قد شرط الله فيهما العدالة وهي تنافي الريبة، نعم قد يقال: هذا إذا تعذّرت العدالة أو ضعفت في بعض الأوقات ووقع الاضطرار إلى استشهاد غير العدول كما هي حالة معظم بلاد الإسلام اليومَ، فلا يبعد أن يكون لتحيلف الشاهد المستور الحال وجهٌ في القضاء. والمسألة مبسوطة في كتب الفقه.
وأمّا حكم تغليظ اليمين: فقد أخذ من الآية أنّ اليمين تقع بعد الصلاة، فكان ذلك أصلاً في تغليظ اليمين في نظر بعض أهل العلم، ويجيء في تغليظ اليمين أن يكون بالزمان والمكان واللفظ. وفي جميعها اختلاف بين العلماء. وليس في الآية ما يتمسّك به بواحد من هذه الثلاثة إلاّ قوله: {من بعد الصلاة} وقد بيّنتُ أنّ الأظهر أنّه خاصّ بالوصية، وأمّا التغليظ بالمكان وباللفظ فتفصيله في كتب الخلاف.