اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِٱلشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَآ أَوۡ يَخَافُوٓاْ أَن تُرَدَّ أَيۡمَٰنُۢ بَعۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (108)

قوله " ذلك أدْنَى " لا محلَّ لهذه الجملةِ ؛ لاستئنافِها ، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيله ، أي : ما تقدَّم ذكرُه من الأحْكَامِ أقربُ إلى حصولِ إقامةِ الشَّهادة على ما ينبغي ، وقيل : المشارُ إليه الحَبْسُ بعد الصلاة ، وقيل : تحليفُ الشاهدين ، و " أنْ يَأتُوا " أصلُه : " إلى أنْ يأتُوا " ، وقدَّره أبو البقاء{[12874]} ب " مِنْ " أيضاً ، أي : أدْنَى من أن يأتُوا ، وقدَّره مكيٌّ{[12875]} بالباء ، أي : بِأنْ يَأتُوا ، قال شهاب الدين{[12876]} : وليْسَا بواضحَيْنِ ، ثم حذفَ حرفَ الجر ، فَنَشَأ الخلافُ المشهور ، و " عَلَى وَجْهِهَا " متعلِّقٌ ب " يَأتُوا " ، وقيل : في محلِّ نَصْبٍ على الحال منها ، وقدَّره أبو البقاء{[12877]} ب " محققة وصَحِيحَة " ، وهو تفسيرُ معنًى ؛ لما عرفْتَ غير مرة من أنَّ الأكوانَ المقيَّدة لا تُقَدَّر في مثله .

قوله : " أوْ يَخَافُوا " في نصبه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب ؛ عطفاً على " يَأتُوا " ، وفي " أوْ " على هذا تأويلان :

أحدهما : أنها على بابها من كونها لأحدِ الشيئين ، والمعنى : ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي ، أو خوفِ رَدِّ الأيمانِ إلى غيرهم ، فتسقطُ أيمانهم ، والتأويلُ الآخر : [ أن ] تكون بمعنى الواو ، أي : ذلك الحُكْمُ كله أقربُ إلى أنْ يَأتُوا ، وأقربُ إلى أن يَخَافُوا ، وهذا مفهومٌ من قول ابن عبَّاسٍ .

الثاني من وجهي النصب : أنه منصوبٌ بإضمار " أنْ " بعد " أوْ " ، ومعناها هنا " إلاَّ " ؛ كقولهم : " لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَني حَقِّي " ، تقديره : إلاَّ أنْ تَقْضِيني ، ف " أوْ " حرفُ عطفٍ على بابها ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار " أنْ " وجوباً ، و " أنْ " وما في حيِّزها مُؤوَّلةٌ بمصْدرٍ ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعلِ قبله ، فمعنى : " لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي " : لَيَكُونَنَّ منِّي لُزُومٌ لك أو قَضَاؤُكَ لِحَقِّي ، وكذا المعنى هنا أي : ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادةِ على وجهها ؛ وإلاَّ خَافُوا رَدَّ الإيمانِ ، كذا قدَّره ابن عطية{[12878]} بواوٍ قبل " إلاَّ " ، وهو خلافُ تقدير النحاة ؛ فإنَّهمْ لا يقدِّرون " أوْ " إلا بلفظ " ألاَّ " وحدها دون واو ، وكأن " إلاَّ " في عبارته على ما فهمه أبو حيان{[12879]} ليسَتْ " إلاَّ " الاستثنائيةَ ، بل أصلُها " إنْ " شرطيةً دخلتْ على " لاَ " النافيةِ فأدْغمَتْ فيها ، فإنه قال : " أو تكون " أو " بمعنى " إلاّ إنْ " ، وهي التي عبَّر عنها ابن عطيَّة بتلك العبارةِ من تقديرها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاءٍ " .

انتهى ، وفيه نظرٌ من وجهَيْن :

أحدهما : أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ ، أعني كون " أوْ " بمعنى الشرط .

والثاني : أنه بعد أنْ حَكَمَ عليْهَا بأنها بمعنى " إلاَّ إنْ " جعلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه .

و " أنْ تُرَدَّ " في محلِّ نَصْبٍ على المفعُولِ به ، أي : أو يَخَافُوا رَدَّ أيمانهم . و " بَعْدَ أيْمَانِهِمْ " : إمَّا ظرفٌ ل " تُرَدَّ " ، أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ على أنها صفةٌ ل " أيْمَان " ، وجُمِعَ الضميرُ في قوله " يَأتُوا " وما بعده ، وإنْ كان عائداً في المعنى على مثنى ، وهو الشاهدان ، فقيل : هو عائدٌ على صنفي الشاهدين ، وقيل : بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كُلِّهِمْ ، معناه : ذلك أولى وأجدرُ أنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ ، فيَتَحَرَّوْا في شهادتهم ؛ خَوْفَ الشناعةِ عليهم والفَضِيحةِ في رَدِّ اليمينِ على المُدَّعِي ، وقوله : " واتَّقُوا الله " لم يذكر متعلَّق التقوى : إمَّا للعلْمِ به ، أي : واتقوا اللَّهَ في شهادِتكُمْ وفي الموصينَ عليهم بأن لا تَخْتَلِسُوا لهم شيئاً ؛ لأن القصَّةَ كانت بهذا السَّببِ ، وإمَّا قَصْداً لإيقاع التقوى ، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقَى منه ، وكذا مفعولُ " اسْمَعُوا " إنْ شئتَ حذفته اقتصاراً أو اختصاراً ، أي : اسْمَعُوا أوامِرَهُ من نَوَاهِيه من الأحكام المتقدِّمة ، وما أفْصَحَ ما جيء بهاتَيْن الجملتَيْن الأمريتَيْن ، فتباركَ اللَّهُ أصْدَقُ القائلِينَ .


[12874]:ينظر: الإملاء 1/231.
[12875]:ينظر: المشكل 1/253.
[12876]:ينظر: الدر المصون 2/639.
[12877]:ينظر: الإملاء 1/231.
[12878]:ينظر: المحرر الوجيز 2/256.
[12879]:ينظر: البحر المحيط 4/51.