الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِٱلشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَآ أَوۡ يَخَافُوٓاْ أَن تُرَدَّ أَيۡمَٰنُۢ بَعۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (108)

قوله : { أَوْ يَخَافُواْ } في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب عطفاً على " يَأْتوا " وفي " أو " على هذا تأويلان ، أحدُهما : أنها على بابِها من كونِها لأحدِ الشيئين ، والمعنى : ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي أو خوفِ رَدِّ الأيمان إلى غيرِهم فتسقطُ أَيْمانهم . والتأويلُ الآخر : أن تكونَ بمعنى الواو ، أي : ذلك الحكم كله أقربُ إلى أَنْ يأتُوا ، وأقربُ إلى أن يَخافوا ، وهذا مفهومٌ من قول ابن عباس . الثاني من وجهي النصب : أنه منصوبٌ بإضمار " أَنْ " بعد " أو " ومعناها " إلا " كقولهم : " لألزمنَّك أو تقضيَني حَقِّي " تقديره : إلاَّ أَنْ تقضِيني ، ف " أو " حرفُ عطفٍ على بابها ، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار " أَنْ " وجوباً ، و " أَنْ " وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعل قبله ، فمعنى : لألزمنَّك أو تقضيَني حقي : ليكوننَّ مني لزومٌ لك أو قضاؤك لحقي ، وكذا المعنى هنا أي : ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها ؛ وإلاَّ خافوا ردَّ الأَيْمان ، كذا قَدَّره ابن عطية بواوٍ قبل " إلا " وهو خلافٌ تقدير النحاة ، فإنهم لا يقدِّرون " أو " إلا بلفظ " إلا " وحدها دون واو .

وكأن " إلا " في عبارته على ما فهمه الشيخ ليسَتْ " إلا " الاستثنائيةَ ، بل أصلُها " إنْ " شرطيةً دَخَلَتْ على " لا " النافيةِ فأُدغمت فيها ، فإنه قال : " أو تكون " أو " بمعنى " إلاَّ إنْ " ، وهي التي عَبَّر عنها ابن عطية بتلك العبارةِ من تقديرِها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاء انتهى . وفيه نظرٌ من وجهين ، أحدُهما : أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ ، أعني كونَ " أو " بمعنى الشرط . والثاني : انه بعد أَنْ حَكَم عليها بأنها بمعنى " إلاَّ إنْ " جَعَلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه .

و { أَن تُرَدَّ } في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به اي : أو يَخافُوا رَدَّ أَيْمانهم . و " بعد أَيْمانهم " إمَّا ظرفٌ ل " تُرَدَّ " أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل " أَيْمان " وجُمِع الضميرُ في قولِه " يَأْتُوا " وما بعده وإنْ كان عائداً في المعنى على مثَّنى وهو الشاهدان ، فقيل : هو عائدٌ على صنفي الشاهدين . وقيل : بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كلِّهم ، معناه : ذلك أَوْلى وأجدرُ أَنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ فيَتَحَرَّوا في شهادتِهم خوفَ الشناعةِ عليهم والفضحيةِ في رَدِّ اليمين على المُدَّعي . وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } لم يذكرْ معلِّق التقوى : إمَّا للعلمِ به أي : واتقوا اللَّهَ في شهادتِكم وفي الموصِين عليهم بأن لا تَخْتَلِسوا لهم شيئاً ؛ لأن القصةَ كانت بهذا السببِ ، وإمَّا قصداً لإِيقاعِ التقوى ، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقى منه . وكذا مفعولُ " اسمعوا " إنْ شئتَ حذفتَه اقتصاراً أو اختصاراً أي : اسمعوا أوامَره ونواهَيه من الأحكام المتقدمة ، وما أفصحَ ما جيء بهاتين الجملتين الأمريتين ، فتباركَ اللَّهُ أصدقُ القائلين .