البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِٱلشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَآ أَوۡ يَخَافُوٓاْ أَن تُرَدَّ أَيۡمَٰنُۢ بَعۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (108)

{ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم } أي ذلك الحكم السابق ولما كان الشاهدان لهما حالتان : حالة يرتاب فيها إذا شهدا ، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية قوبلت هذه الحالة بقوله : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي على ما شهدا حقيقة دون إنكار ولا تحريف ولا كذب ، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف ، فإذ ذاك لا يلتفت إلى أيمانهم وترد على شهود آخرين فعمل بأيمانهم وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم قوبلت هذه الحالة بقوله : { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } وكان العطف بأو لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما لا يخلوان من إحدى هاتين الحالتين إما حصول ريبة في شهادتهما وإما الاطلاع على خيانتهما فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فالمعنى ما تقدّم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم فتسقط أيمانهم ولا تقبل .

قال ابن عباس ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين انتهى .

وقيل ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس .

وقيل إلى الحبس بعد الصلاة فقط .

قال ابن عطية ويظهر هذا من كلام السدّي وأو على هذا التأويل بمنزلة قولك تحبني يا زيد أو تسخطني كأنك قلت وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان } وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا أو أقرب إلى أن يخافوا انتهى .

فتلخص أن { أو } تكون على بابها أو تكون بمعنى الواو ، و { يخافوا } معطوف في هذين الوجهين على { يأتوا } أو يكون بمعنى إلى أن كقولك لألزمنك أو تقضيني حقي وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه ، وإذا كانت بمعنى إلى أن فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين .

إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو يأتوا لكنه يكون على مصدر متوهم وذلك على ما تقرر في علم العربية ، وجمع الضمير في يأتوا وما بعده وإن كان السابق مثنى فقيل هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع ، وقيل لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما بل إلى الناس الشهود والتقدير ذلك أدنى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي .

{ واتقوا الله واسمعوا } أي احذروا عقاب الله تعالى واتخذوا وقاية منه بأن لا تخونوا ولا تحلفوا به كاذبين وأدوا الأمانة إلى أهلها واسمعوا سماع إجابة وقبول .

{ والله لا يهدي القوم الفاسقين } إشارة إلى من حرّف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة الله فالله لا يهديه إلا إذا تاب ، فاللفظ عام والمعنى اشتراط انتفاء التوبة .