( ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم ) . فإذا هم يحرمون على أنفسهم بعض الأنعام . لا يركبونها أولا يذوقون لحومها . أو يبيحونها للذكور دون الإناث - كما أسلفنا في سورة الأنعام - باسم الآلهة المدعاة ؛ التي لا يعلمون عنها شيئا ، إنما هي أوهام موروثة من الجاهلية الأولى . والله هو الذي رزقهم هذه النعمة التي يجعلون لما لا يعلمون نصيبا منها ، فليست هي من رزق الآلهة المدعاة لهم ليردوها عليها ، إنما هي من رزق الله ، الذي يدعوهم إلى توحيده فيشركون به سواه ! .
وهكذا تبدو المفارقة في تصورهم وفي تصرفهم على السواء . . الرزق كله من الله . والله يأمر ألا يعبد سواه فهم يخالفون عن أمره فيتخذون الآلهة . وهم يأخذون من رزقه فيجعلونه لما نهاهم عنه ! وبهذا تتبدى المفارقة واضحة جاهرة عجيبة مستنكرة ! .
وما يزال أناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت ، يجعلون نصيبا من رزق الله لهم موقوفا على ما يشبه آلهة الجاهلية . ما يزال بعضهم يطلق عجلا يسميه " عجل السيد البدوي " يأكل من حيث يشاء لا يمنعه أحد ، ولا ينتفع به أحد ، حتى يذبح على اسم السيد البدوي لا على اسم الله ! وما يزال بعضهم ينذرون للأولياء ذبائح يخرجونها من ذمتهم لا لله ، ولا باسم الله ، ولكن باسم ذلك الولي ، على ما كان أهل الجاهلية يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقهم الله . وهو حرام نذره على هذا الوجه . حرام لحمه . ولو سمي اسم الله عليه . لأنه أهل لغير الله به ! .
( تالله لتسألن عما كنتم تفترون ) بالقسم والتوكيد الشديد . فهو افتراء يحطم العقيدة من أساسها لأنه يحطم فكرة التوحيد .
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد ، وجعلوا لها نصيبا مما رزقهم الله فقالوا : { هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ [ بغير علم ]{[16491]} وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } [ الأنعام : 136 ] ، أي : جعلوا لآلهتهم نصيبًا مع الله ، وفضلوهم{[16492]} أيضًا على جانبه ، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه ، وائتفكوه ، وليقابلنهم{[16493]} عليه ، وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم ، فقال : { تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } .
{ ويجعلون لما لا يعلمون } ، أي : لآلهتهم التي لا علم لها ؛ لأنها جماد ، فيكون الضمير { لما } ، أو التي لا يعلمونها ، فيعتقدون فيها جهالات ، مثل أنها تنفعهم وتشفع لهم ، على أن العائد إلى ما محذوف ، أو لجهلهم ، على أن ما مصدرية ، والمجعول له محذوف للعلم به . { نصيبا مما رزقناهم } ، من الزروع والأنعام . { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } ، من أنها آلهة حقيقة بالتقريب إليها ، وهو وعيد لهم عليه .
الضمير في قوله : { ويجعلون } ، للكفار ، وقوله : { لما لا يعلمون } ، يريد الأصنام ، ومعناه : لا يعلمون فيهم حجة ولا برهاناً ، ويحتمل أن يريد بقوله : { يعلمون } ، الأصنام ، أي : يجعلون لجمادات لا تعلم شيئاً { نصيباً } ، فالمفعول محذوف ، ثم عبر عنهم بعبارة من يعقل ، بحسب مذهب الكفار الذين يسندون إليها ما يسند إلى من يعقل ، وبحسب أنه إسناد منفي ، وهذا كله ضعيف ، و «النصيب » المشار إليه ، هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها والإهداء إليها ، والقسم لها من الغلات ، ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام ، أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم ، في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به ، كما قال بعضهم ، و «الفرية » : اختلاق الكذب .
عطف حالة من أحوال كفرهم لها مساس بما أنعم الله عليهم من النّعمة ، فهي معطوفة على جملة { وما بكم من نعمة فمن الله } [ سورة النحل : 53 ] . ويجوز أن تكون حالاً من الضمير المجرور في قوله تعالى : و{ ما بكم من نعمة } على طريق الالتفات . ويجوز أن تكون معطوفة على { يشركون } من قوله تعالى : { إذا فريق منكم بربهم يشركون } [ سورة النحل : 54 ] .
وما حكي هنا هو من تفاريع دينهم الناشئة عن إشراكهم والتي هي من تفاريع كفران نعمة ربّهم ، إذ جعلوا في أموالهم حقاً للأصنام التي لم ترزقهم شيئاً . وقد مرّ ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ سورة النحل : 136 ] .
إلا أنه اقتصر هنا على ذكر ما جعلوه لشركائهم دون ما جعلوه لله لأن المقام هنا لتفصيل كفرانهم النّعمة ، بخلاف ما في سورة الأنعام فهو مقام تعداد أحوال جاهليتهم وإن كان كل ذلك منكَراً عليهم ، إلا أن بعض الكفر أشدّ من بعض .
والجعل : التصيير والوضع . تقول : جعلت لك في مالي كذا . وجيء هنا بصيغة المضارع للدّلالة على تجدّد ذلك منهم واستمراره ، بخلاف قوله تعالى : { وأقسموا بالله } [ سورة النحل : 38 ] بأنه حكاية قضية مضت من عنادهم وجدالهم في أمر البعث .
ومفعول { يعلمون } محذوف لظهوره ، وهو ضمير ( ما ) ، أي لا يعلمونه . ومثل حذف هذا الضمير كثير في الكلام .
وما صدق صلة { ما لا يعلمون } هو الأصنام ، وإنما عبّر عنها بهذه الصّلة زيادة في تفظيع سخافة آرائهم ، إذ يفرضون في أموالهم عطاءً يعطونه لأشياء لا يعلمون حقائقها بَلْه مبلغغِ ما ينالهم منها ، وتخيّلات يتخيّلونها ليست من الوجود ولا من الإدراك ولا من الصلاحية للانتفاع في شيء ، كما قال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميّتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } . وضمير { تعلمون } [ سورة الحجر : 55 ] عائد إلى معاد ضمير { يجعلون } .
ووصف النصيب بأنه { مما رزقناهم } لتشنيع ظلمهم إذ تركوا المنعم فلم يتقرّبوا إليه بما يرضيه في أموالهم مما أمرهم بالإنفاق فيه كإعطاء المحتاج ، وأنفقوا ذلك في التقرّب إلى أشياء موهومة لم ترزقهم شيئاً .
ثم وجه الخطاب إليهم على طريقة الالتفات لقصد التهديد . ولا مانع من الالتفات هنا لعدم وجود فاء التفريع كما في قوله تعالى : { فتمتعوا } [ سورة النحل : 55 ] .
وتصدير جملة التهديد والوعيد بالقسم لتحقيقه ، إذ السؤال الموعود به يكون يوم البعث وهم ينكرونه فناسب أن يؤكّد .
والقسم بالتاء يختصّ بما يكون المقسم عليه أمراً عجيباً ومستغرباً ، كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض } في سورة يوسف ( 73 ) . وسيأتي في قوله تعالى : { وتالله لأكيدن أصنامكم } في سورة الأنبياء ( 57 ) . فالإتيان في القسم هنا بحرف التاء مؤذن بأنهم يسألون سؤالاً عجيباً بمقدار غرابة الجُرم المسؤول عنه .
والسؤال كناية عما يترتّب عليه من العقاب ، لأن عقاب العادل يكون في العرف عقب سؤال المجرم عمّا اقترفه إذ لعلّ له ما يدفع به عن نفسه ، فأجرى الله أمر الحساب يوم البعث على ذلك السَنن الشريف . والتعبير عنه { بكنتم تفترون } كناية عن استحقاقهم العقاب لأن الكذب على الله جريمة .
والإتيان بفعل الكون وبالمضارع للدّلالة على أن الافتراء كان من شأنهم ، وكان متجدداً ومستمراً منهم ، فهو أبلغ من أن يقال : عمّا تفترون ، وعمّا افتريتم .