( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله . إن الله عزيز ذو انتقام ) . .
فما لهذا المكر من أثر ، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر :
( إن الله عزيز ذو انتقام ) . .
لا يدع الظالم يفلت ، ولا يدع الماكر ينجو . . وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر ، فالظالم الماكر يستحق الانتقام ، وهو بالقياس إلى الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم ، تحقيقا لعدل الله في الجزاء .
يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا : { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } أي : من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع{[16004]} عليه شيء أراده ، ولا يغالب ، وذو انتقام ممن{[16005]} كفر به وجحده { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [ الطور : 11 ] ؛ ولهذا قال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } أي : وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة ، كما جاء في الصحيحين ، من حديث أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء ، كقرصة النقي ، ليس فيها معلم لأحد " {[16006]} .
{ فلا تحسبن الله مُخلفَ وعدِه رُسلَه } مثل قوله : { إنا لننصر رسلنا } { كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي } وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانا بأنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله : { إن الله لا يخلف الميعاد } وإذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلف رسله . { إن الله عزيز } غالب لا يماكر قادر لا يدافع . { ذو انتقام } لأوليائه من أعدائه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوف كفار مكة، فقال سبحانه: {فلا تحسبن الله} يا محمد، {مخلف وعده رسله} في نزول العذاب بكفار مكة في الدنيا، {إن الله عزيز}، يعني منيع، {ذو انتقام} من أهل معصيته...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"فَلا تَحْسَبنّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ" الذي وعدهم من كذّبهم وجحد ما أتَوْهم به من عنده، وإنما قاله تعالى ذكره لنبيه تثبيتا وتشديدا لعزيمته، ومعرّفه أنه منزل من سخطه بمن كذّبه وجحد نبوّته، وردّ عليه ما أتاه به من عند الله، مثال ما أنزل بمن سلكوا سبيلهم من الأمم الذين كانوا قبلهم على مثل منهاجهم من تكذيب رسلهم وجحود نبوّتهم وردّ ما جاءوهم به من عند الله عليهم.
وقوله: "إنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ "يعني بقوله: "إنّ اللّهَ عَزِيزٌ": لا يمانع منه شيء أراد عقوبته، قادر على كل من طلبه، لا يفوتُه بالهَرَب منه. "ذُو انْتِقامٍ" ممن كفر برسله وكذّبهم، وجحد نبوتهم، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} الخطاب به يحتمل ما ذكرنا؛ أي لا تحسبن أن ما تأخر من نزول ما وعد أنه يخلف وعده الذي وعد رسله كما لم يكن تأخير العذاب عنهم من وقت ظلمهم عن غفلة وسهو، ولكن كان وعده إلى ذلك الوقت...
{إن الله عزيز ذو انتقام} قال بعضهم: {عزيز} لا يعجزه شيء، وقيل: {عزيز} قاهر، يقهر، ويذل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي لا تحسبنَّه يخلف رسله وعده؛ لأنه لا يخلف الوعد لصدقه في قوله، وله أن يعذبهم بما وعدهم لحقِّه في مُلْكِه، وهو {عَزِيزٌ} لا يصل إليه أحد، وإن كان ولياً. {ذُو انتِقَامٍ} لا يفوته أحد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المعفول الثاني على الأول؟ قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً، كقوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 9] ثم قال: {رُسُلَهُ} ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً -وليس من شأنه إخلاف المواعيد- كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟... {العزيز} غالب لا يماكر {ذُو انتقام} لأوليائه من أعدائه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فلا تحسبن الله...}، تثبيت للنبي عليه السلام ولغيره من أمته، ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسب مثل هذا، ولكن خرجت العبارة هكذا، والمراد بما فيها من الزجر من شارك النبي عليه السلام في أن قصد تثبيته...
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} وقال في هذه الآية: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين، لزم إما كونه غافلا وإما كونه مخلفا في الوعد، ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلا وقوله: {مخلف رسله} يعني قوله: {إنا لننصر رسلنا} وقوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فما لهذا المكر من أثر، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر: (إن الله عزيز ذو انتقام).. لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو.. وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر، فالظالم الماكر يستحق الانتقام، وهو بالقياس إلى الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم، تحقيقا لعدل الله في الجزاء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{رسله} جمع مراد به النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، فهو جمع مستعمل في الواحد مجازاً. وهذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله منجز له ما وعده من نصره على الكافرين به. فأما وعده للرسل السابقين فذلك أمر قد تحقق فلا يناسب أن يكون مراداً من ظاهر جمع {رسله}. وجملة {إن الله عزيز ذو انتقام} تعليل للنهي عن حُسبانه مُخلف وعده. والعزة: القدرة. والمعنى: أن موجب إخلاف الوعد منتف عن الله تعالى لأن إخلاف الوعد يكون إما عن عَجز وإما عن عدم اعتياد الموعود به، فالعزة تنفي الأول وكونُه صاحب انتقام ينفي الثاني. وهذه الجملة تذييل أيضاً وبها تمّ الكلام...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{عزيز} معناه غالب قوى مسيطر يعز من يشاء ويذل من يشاء،
{ذو انتقام}، أي صاحب انتقام للحق من الباطل، وللضعفاء من الأقوياء، والانتقام معناه مجازاة المسيء بما أساء وأن يقتص بالحق من القوى للضعيف، وأن تكون العقوبة على قدر الجريمة، فأساس العقاب في الشريعة أوفى، أي يكون العقاب على قدر الجريمة، وأن يكون جزاء وفاقا لها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تعني أنّ المهلة التي أعطيت للظالمين ليست بسبب أنّ الله غافل عنهم وعن أعمالهم ولا مخلف لوعده، بل سينتقم منهم في اليوم المعلوم. والانتقام لا يراد به ما كان مصحوباً بالحقد والثأر كما يستخدم عادة في أعمال البشر، بل هو الجزاء والعقاب وإقامة العدالة بحقّ الظالمين، بل إنّها نتيجة عمل الإنسان نفسه...