قوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء } من النطفة ، { بشراً فجعله نسباً وصهراً } أي : جعله ذا نسب وصهر ، وقيل : النسب : ما لا يحل نكاحه ، والصهر : ما يحل نكاحه ، فالنسب ما يوجب الحرمة ، والصهر ما لا يوجبها ، وقيل : وهو الصحيح : النسب من القرابة ، والصهر : تشبه القرابة ، وهو السبب المحرم للنكاح ، وقد ذكرنا أن الله تعالى حرم بالنسب سبعاً وبالسبب سبعاً ، في قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } . { وكان ربك قديراً * }
ومن ماء السماء وماء البحر والنهر إلى ماء النطفة الذي تنشأ منه الحياة البشرية المباشرة :
( وهو الذي خلق من الماء بشرا ، فجعله نسبا وصهرا ، وكان ربك قديرا ) . .
فمن هذا الماء يتخلق الجنين : ذكرا فهو نسب ، وأنثى فهو صهر ، بما أنها موضع للصهر .
وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء . فمن خلية واحدة [ من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل ] تتحد ببويضة المرأة في الرحم ، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب . . الإنسان . . أعجب الكائنات الحية على الإطلاق !
ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة ، لا يدرك البشر سرها ، ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها . فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكرا أو أنثى ، وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه الميزات . . ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلا ، وهذه إلى أن تكون امرأة ، في نهاية المطاف ! ( وكان ربك قديرا ) . . وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب !
ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان ، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة ، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله ، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين ، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة .
وهذه لمحات من كتاب : " الإنسان لا يقوم وحده " عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة :
" كل خلية ذكرا أو أنثى . تحتوى على كروموزومات وجينات [ وحدات الوراثة ] والكروموزومة تكون النوية [ نواة صغيرة ] المعتمة التي تحتوى الجينة . والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان . والسيتوبلازم هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين . وتبلغ الجينات [ وحدات الوراثة ] من الدقة أنها - وهي المسؤولة عن المخلوقات البشرية جميعا ، التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها - لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد ، لكان حجمها أقل من حجم " الكستبان " !
" وهذه الجينات الميكرسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات . " والكستبان " الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم . ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها .
" وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة [ البروتوبلازم ] إلى الشبه الجنسي ، إنما يقص تاريخا مسجلا ، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم .
. . . " لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات ، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية . وهي تحفظ التصميم ، وسجل السلف ، والخواص التي لكل شيء حي . وهي تتحكم تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات . تماما كما تقرر الشكل ، والقشر ، والشعر ، والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان " .
وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة ، التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة . ( وكان ربك قديرا ) . .
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } أي : خلق الإنسان من نطفة ضعيفة ، فسواه وعَدّله ، وجعله كامل الخلقة ، ذكراً أو أنثى ، كما يشاء ، { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } ، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ، ثم يتزوج فيصير صهراً ، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات . وكل ذلك من ماء مهين ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبّكَ قَدِيراً } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي خلق من النطف بشرا إنسانا فجعله نسبا ، وذلك سبعة ، وصهرا ، وهو خمسة . كما :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله فجَعَلَهُ نَسَبا وَصِهْرا : النسب : سبع ، قوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ . . . إلى قوله وَبَناتُ الأُخْتِ . والصهر خمس ، قوله : وأُمّهاتُكُمُ اللاّتِي أرْضَعْنَكُمْ . . . إلى قوله وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ .
وقوله : وكانَ رَبّكَ قَدِيرا يقول : وربك يا محمد ذو قدرة على خلق ما يشاء من الخلق ، وتصريفهم فيما شاء وأراد .
{ وهو الذي خلق من الماء بشرا } يعني الذي خمر به طينة آدم ، أو جعله جزءا من مادة البشر لتجتمع لتبشر وتسلس وتقبل الأشكال والهيئات بسهولة ، أو النطفة . { فجعله نسبا وصهرا } أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم ، وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن كقوله تعالى : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } . { وكان ربك قديرا } حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين ، وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا وأنثى .
وقوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء } الآية ، هو تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم ، والتنبيه على العبرة في ذلك وتعديد النعمة في التواشج الذي جعل بينهم من النسب والصهر ، وقوله { من الماء } إما أن يريد أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء ، وإما أن يريد نطف الرجال وكل ذلك قالته فرقة ، والأول أفصح وأبين ، و «النسب والصهر » معنيان يعمان كل قربى تكون بين كل آدميين ، ف «النسب » هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو في أم قرب ذلك أو بعد ، و «الصهر » تواشج المناكحة ، فقرابة الزوجة هم الأختان{[8850]} ، وقرابة الزوج ثم الأحماء{[8851]} والأصهار يقع عاماً لذلك كله ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «النسب » ما لا يحل نكاحه «والصهر » ما يحل نكاحه وقال الضحاك «الصهر » قرابة الرضاع .
قال القاضي أبو محمد : وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال حرم من النسب سبع ومن الصهر خمس ، وفي رواية أخرى من الصهر سبع يريد قول الله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } [ النساء : 23 ] ، فهذا هو من النسب . ثم يريد ب «الصهر » قوله تعالى : { وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف }{[8852]} [ النساء : 23 ] ، ثم ذكر المحصنات ، ومجمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر مع ما ذكر معه فقصد مما ذكر إلى عظمه وهو الصهر{[8853]} لأن الرضاع صهر وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه ، ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآية الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذواتي الأزواج{[8854]} ، وحكى الزهراوي قولاً أن «النسب » من جهة البنين «والصهر » من جهة البنات .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا حسن وهو في درج ما قدمته ، وقال ابن سيرين نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لأنه جمعه معه نسب وصهر فاجتماعهما وكاد حرمة إلى يوم القيامة . وقوله { وكان ربك قديراً } هي { كان } التي للدوام قبل وبعد لا أنها تعطي مضياً فقط .