ثم قال : { لئلا يعلم أهل الكتاب } قال قتادة : حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم ، فأنزل الله تعالى : { لئلا يعلم أهل الكتاب } وقال مجاهد : قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا به ، فأنزل الله تعالى : { لئلا يعلم أهل الكتاب } أي ليعلم " ولا " صلة { ألا يقدرون على شيء من فضل الله } أي ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله ، { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث عن نافع ، عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس ، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً ، فقال : من يعمل إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ، ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين " فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء ؟ قال الله تعالى : هل ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا قال : فإنه فضلي أعطيه من شئت " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة عن يزيد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار ، فقالوا : لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا ، وما عملناه باطل ، فقال لهم : لا تفعلوا ، أكملوا بقية عملكم ، وخذوا أجركم كاملاً ، فأبوا وتركوا ، واستأجر قوماً آخرين بعدهم ، فقال : أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه ، فقال : أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا ، فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " .
( لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله . وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ) . . فقد كان أهل الكتاب يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) . . ( وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) . . فالله يدعو الذين آمنوا إلى استحقاق رحمته وجنته وهبته ومغفرته حتى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على احتجاز شيء من فضله ، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء ، غير مقصور على قوم ، ولا محجوز لطائفة ، ولا محدود ولا قليل : ( والله ذو الفضل العظيم ) . .
وهي دعوة فيها تحضيض واستجاشة واستشارة للسباق إلى الجنة والرحمة . تختم بها السورة ختاما يتناسق مع سياقها كله ، ومع الهتاف المكرر فيها لهذه القلوب كي تحقق إيمانها وتخشع لربها وتستجيب لتكاليف الإيمان في الأموال والأرواح . في تجرد وإخلاص .
وبعد فهذه السورة نموذج من النماذج القرآنية الواضحة في خطاب القلوب البشرية ، واستجاشتها بأسلوب عميق التأثير . وهي في بدئها وسياقها وختامها ؛ وفي إيقاعاتها وصورها وظلالها ؛ وفي طريقة تناولها للموضوع وسيرها فيه جولة بعد جولة ، وشوطا بعد شوط . . هي في هذا كله درس بديع لأصحاب هذه الدعوة ، يعلمهم كيف يخاطبون الناس ، وكيف يوقظون الفطرة ، وكيف يستحيون القلوب !
إنها درس رباني من صانع القلوب ، ومنزل القرآن ، وخالق كل شيء بقدر . وفي هذه المدرسة الإلهية يتخرج الدعاة المستجابون الموفقون . . .
{ لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }أي : ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رَدّ ما أعطاه الله ، ولا [ على ]{[28346]} إعطاء ما منع الله ، { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قال ابن جرير : { لِئَلا يَعْلَمَ } أي : ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها : " لكي يعلم " . وكذا حطَّان {[28347]} بن عبد الله ، وسعيد بن جبير ، قال ابن جرير : لأن العرب تجعل " لا " صلة في كل كلام دخل في أوله وآخره جحد غير مصرح ، فالسابق كقوله : { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ، { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] ، { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاّ يَقْدِرُونَ عَلَىَ شَيْءٍ مّن فَضْلِ اللّهِ وَأَنّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، يفعل بكم ربكم هذا لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي آتاكم وخصّكم به ، لأنهم كانوا يرون أن الله قد فضّلهم على جميع الخلق ، فأعلمهم الله جلّ ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ، ما لم يؤتهم ، وأن أهل الكتاب حسدوا المؤمنين لما نزل قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا الله وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُون بِهِ وَيَغْفِرْ بَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال الله عزّ وجلّ : فعلت ذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ . . . الآية ، قال : لما نزلت هذه الآية ، حَسدَ أهل الكتاب المسلمين عليها ، فأنزل الله عزّ وجلّ لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ . . . الآية ، قال : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إنّمَا مَثَلُنا وَمَثَلُ أهْلِ الكِتابَيْنِ قَبْلَنا ، كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتأْجَرَ أُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ إلى اللّيْلِ على قِيرَاطٍ ، فَلَمّا انْتَصَفَ النّهارُ سَئِمُوا عَمَلَهُ وَمَلّوا ، فحاسَبَهُمْ ، فأَعطَاهُمْ عَلى قَدْرِ ذَلكَ ، ثُمّ اسْتأْجَرَ أُجُرَاءَ إلى اللّيْلِ عَلى قِيرَاطَيْنِ ، يَعْمَلُونَ لَهُ بَقِيّةَ عَمَلِهِ ، فَقِيلَ لَهُ : ما شأْنُ هَؤُلاءِ أقَلّهُمْ عَمَلاً ، وأكْثَرُهُمْ أجْرا ؟ قال : مالي أُعْطي مَنْ شِئْتُ ، فأرْجُوا أنْ نَكُونَ نَحْنُ أصحَابَ القِيرَاطَينِ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة كِفْلَينِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال : بلغنا أنها حين نزلت حسد أهل الكتاب المسلمين ، فأنزل الله لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ .
حدثنا أبو عمار ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ الذين يتسمعون ألاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، مثله .
وقيل : لِئَلاّ يَعْلَمَ إنما هو ليعلم . وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «لِكَيْ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ » لأن العرب تجعل «لا » صلة في كلّ كلام دخل في أوّله أو آخره جحد غير مصرّح ، كقوله في الجحد السابق ، الذي لم يصرّح به ما مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ ، وقوله : وَما يَشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ، وقوله : وَحَرَامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها . . . الآية ، ومعنى ذلك : أهلكناها أنهم يرجعون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا أبو هارون الغَنويّ ، قال : قال : خطاب بن عبد الله لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ .
قال : ثنا ابن عُلَية ، عن أبي المعلىّ ، قال : كان سعيد بن جُبَير يقول «لِكَيْلا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ » .
وقوله : وأنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : وليعلموا أن الفضل بيد الله دونهم ، ودون غيرهم من الخلق يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يقول : يعطي فضله ذلك من يشاء من خلقه ، ليس ذلك إلى أحد سواه وَالله ذُو الفَضْل العَظِيم يقول تعالى ذكره : والله ذو الفضل على خلقه ، العظيم فضله .
لئلا يعلم أهل الكتاب أي ليعلموا ولا مزيدة ويؤيده أنه قرئ ليعلم ولكي يعلم ولأن يعلم بإدغام النون في الياء ألا يقدرون على شيء من فضل الله أن هي المخففة والمعنى أنه لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله ولا يتمكنون من نيله لأنهم لم يؤمنوا برسوله وهو مشروط بالإيمان به أو لا يقدرون على شيء من فضله فضلا عن أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة فيخصوها بمن أرادوا ويؤيده قوله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقيل لا غير مزيدة والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله ولا ينالونه فيكون وإن الفضل عطفا على لئلا يعلم وقرئ ليلا يعلم ووجهه أن الهمزة حذفت وأدغمت النون في اللام ثم أبدلت ياء وقرئ ليلا على أن الأصل في الحروف المفردة الفتح .