قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } .
هذه «اللام » متعلقة بمعنى الجملة الطَّلبية المتضمنة لمعنى الشرط ، إذ التقدير : إن تتقوا الله ، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم{[55540]} .
وفي الآية هذه وجهان{[55541]} :
أشهرهما عند النحاة والمفسرين : أنها مزيدة كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] و{ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] . على خلاف في هاتين الآيتين .
والتقدير : أعلمكم الله بذلك ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضلِ الله ، وثبوت أن الفضل بيد الله ، وهذا واضح بيِّن ، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتت زيادته شائعاً ذائعاً .
والثاني : أنها غير مزيدة ، والمعنى : لئلا يعلم أهل الكتاب [ عجز المؤمنين . نقل ذلك أبو البقاء{[55542]} ، وهذا لفظه .
وكان قال قبل ذلك : «لا » زائدة ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب ] {[55543]} عجزهم .
وهذا غير مستقيم ؛ لأن المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ من فضل الله ، وكيف يعمل هذا القائل بقوله : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ، فإنه معطوف على مفعول العلم المنفي ، فيصير التقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أنَّ الفضل بيد الله ، وهذا لا يستقيم نفي العلم به ألبتة ، فلا جرم كان قولاً مطرحاً .
وقرأ العامة : «لئلاَّ » بكسر لام كي ، وبعدها همزة مفتوحة مخففة .
وورش يبدلها ياء محضة{[55544]} . وهو تخفيف قياسي نحو : «مِيَة وفِيَة » في «مِئَة وفِئَة » ويدل على زيادتها قراءة عبد الله{[55545]} ، وابن عباس ، وعكرمة ، والجحدري ، وعبد الله بن سلمة : «ليعلم » بإسقاطها .
وقراءة حطَّان بن عبد الله{[55546]} : «لأن يعلم » بإظهار «أن » .
والجحدري أيضاً والحسن : «ليعلم » .
وأصلها كالتي قبلها «لأن يعلم » فأبدل الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة ؛ وقد تقدم أنه قياسي كقراءة ورش «ليلاّ » ثم أدغم النون في الياء .
قال أبو حيان : {[55547]} «بغير غُنَّةٍ كقراءة خلف » أن يضرب «بغير غُنَّةٍ » . انتهى .
فصار اللفظ «ليعلم » . وقوله «بغير غنة » ، ليس عدم الغنة شرطاً في صحة هذه المسألة بل جاء على سبيل الاتفاق ، ولو أدغم بغنة لجاز ذلك فسقوطها في هذه القراءات يؤيد زيادتها في المشهورة{[55548]} .
وقرأ الحسن أيضاً{[55549]} فيما روى عنه أبو بكر بن مجاهد : «ليلا يعلم » بلام مفتوحة وياء ساكنة كاسم المرأة ، ورفع الفعل بعدها .
وتخريجها : على أن أصلها «لأن لا » على أنها لام الجر ولكن فتحت على لغة مشهورة معروفة ؛ وأنشدوا :
أرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[55550]}
بفتح «اللام » ، وحذف الهمزة اعتباطاً ، وأدغمت النون في «اللام » فاجتمع ثلاثة أمثال فثقل النطق به ، وأبدل الوسط ياء تخفيفاً ، فصار اللفظ «ليلا » كما ترى ، ورفع الفعل ؛ لأن «أنْ » هي المخففة لا النَّاصبة ، واسمها على ما تقرر ضمير الشَّأن ، وفصل بينهما وبين الفعل الذي هو خبرها بحرف النَّفْي .
وقرأ الحسن{[55551]} أيضاً فيما روى عنه قطرب : «ليلا » بلام مكسورة ، وياء ساكنة ، ورفع الفعل بعدها ، وهي كالَّتي قبلها في التخريج ، غاية ما في الباب أنه جاء بلام الجر كما هي في اللغة الشهيرة .
وروي عن ابن عباس : «لكي يعلم » و«كي يعلم » .
وعن عبد الله : «لكيلا »{[55552]} .
وهذه كلها مخالفة للسَّواد الأعظم ، ولسواد المصحف .
وقراءة العامة : { أن لا يقدرون } بثبوت النون ، على أن «أنْ » هي المخففة .
وعبد الله : بحذفها{[55553]} على أن «أن » هي الناصبة .
وهذا شاذّ جداً ؛ لأن العلم لا يقع بعده الناصبة .
وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } الظاهر أنه مستأنف .
وقيل : هو الخبر وحده ، والجار قبله حال ، وهي حال لازمة ؛ لأن كونه بيدِ الله لا ينتقل ألبتة{[55554]} .
نقل ابن الخطيب{[55555]} عن الواحدي أنه قال : هذه الآية مشكلة ، وليس للمفسرين فيها قول واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها .
واعلم أن أكثر المفسرين على أن «لا » هاهنا صلة زائدة ، والتقدير : ليعلم أهل الكتاب .
وقال أبو مسلم وجماعة : على أن «لا » ليست زائدة ، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله وتوفيقه .
أما على القول بزيادتها ، فاعلم أنه لا بُدَّ هاهنا من تقديم مقدمة ، وهي أن أهل الكتاب كانوا يقولون : إن الوحْيَ والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلاَّ لنا ، وإنّ الله خصَّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين العالمين .
إذا عرفت هذا ، فنقول : إن الله - تعالى - لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ووعدهم الأجر العظيم في ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآيةِ ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم ، فقال : إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيءٍ من فَضْل الله لقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً .
وأما القول بأن «لا » غير زائدة ، فاعلم أن الضمير في قوله : «لا يَقْدرون » عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - والتقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه ، فقد علموا أنَّهم يقدرون عليه ثم قال : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } فيصير التقدير : إنا جعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله في قوم معينين ، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله .
واعلم أنَّ هذا القول ليس فيه إلاَّ أنا أضمرنا فيه زيادة ، فقلنا في قوله : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } تقديره : وليعتقدوا أنَّ الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود ، ومن المعلوم أنَّ الإضمار أولى من الحذف ؛ لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً .
وأما إذا افتقرنا إلى الحذف كان ظاهرهُ موهماً للباطل ، فعلمنا أن هذا القول أولى .
فصل في نزول هذه الآية{[55556]}
قال قتادةُ : حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت : لئلا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله{[55557]} .
وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منّا نبيٌّ يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا فنزلت : «لئلا يعلم » ، أي : ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون يعني : أنهم لا يقدرون ، كقوله : { أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً }{[55558]} [ طه : 89 ] والمراد من فضل الله .
وقال الكلبي : من رزق الله{[55559]} .
وقيل : نِعَمُ الله التي لا تُحْصَى .
{ وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ليس بأيديهم ، فيصرفوا النُّبُوَّة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يُحِبُّون .
وقيل : إن الفضل بيد الله ، أي : بقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } .
روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول : «إنَّما بَقَاؤكُمْ فِيْمَا سَلَفَ قَبْلكُمْ مِنَ الأممِ كما بَيْنَ صلاةِ العصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ ، أعْطِيَ أهْلُ التَّوراةِ التَّوْراةَ فَعمِلُوا بِهَا حتَّى انْتَصفَ النَّهارُ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطي أهْلُ الإنجيلِ الإنجيلَ فعمِلُوا بِهِ حتَّى صلاةِ العَصْرِ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطيتُمُ القُرْآنَ فعَمِلْتُمْ بِهِ حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فأعطيتُمْ قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ ، قال أهْلُ التَّوْرَاةِ : رَبَّنَا هؤلاءِ أقَلُّ عملاً وأكْثَرُ أجْراً ، قال : هَلْ ظُلِمْتُمْ مِنْ أجْرِكُمْ شَيْئاً ؟ قَالُوا : لا ، قال : فذلِك فَضْلُ اللَّهِ أوتيهِ مَنْ أشَاءُ » .
وفي رواية : «فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارى وقالُوا : رَبَّنَا »{[55560]} الحديث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.