اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (29)

قوله تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } .

هذه «اللام » متعلقة بمعنى الجملة الطَّلبية المتضمنة لمعنى الشرط ، إذ التقدير : إن تتقوا الله ، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم{[55540]} .

وفي الآية هذه وجهان{[55541]} :

أشهرهما عند النحاة والمفسرين : أنها مزيدة كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] و{ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] . على خلاف في هاتين الآيتين .

والتقدير : أعلمكم الله بذلك ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضلِ الله ، وثبوت أن الفضل بيد الله ، وهذا واضح بيِّن ، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتت زيادته شائعاً ذائعاً .

والثاني : أنها غير مزيدة ، والمعنى : لئلا يعلم أهل الكتاب [ عجز المؤمنين . نقل ذلك أبو البقاء{[55542]} ، وهذا لفظه .

وكان قال قبل ذلك : «لا » زائدة ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب ] {[55543]} عجزهم .

وهذا غير مستقيم ؛ لأن المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ من فضل الله ، وكيف يعمل هذا القائل بقوله : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ، فإنه معطوف على مفعول العلم المنفي ، فيصير التقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أنَّ الفضل بيد الله ، وهذا لا يستقيم نفي العلم به ألبتة ، فلا جرم كان قولاً مطرحاً .

وقرأ العامة : «لئلاَّ » بكسر لام كي ، وبعدها همزة مفتوحة مخففة .

وورش يبدلها ياء محضة{[55544]} . وهو تخفيف قياسي نحو : «مِيَة وفِيَة » في «مِئَة وفِئَة » ويدل على زيادتها قراءة عبد الله{[55545]} ، وابن عباس ، وعكرمة ، والجحدري ، وعبد الله بن سلمة : «ليعلم » بإسقاطها .

وقراءة حطَّان بن عبد الله{[55546]} : «لأن يعلم » بإظهار «أن » .

والجحدري أيضاً والحسن : «ليعلم » .

وأصلها كالتي قبلها «لأن يعلم » فأبدل الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة ؛ وقد تقدم أنه قياسي كقراءة ورش «ليلاّ » ثم أدغم النون في الياء .

قال أبو حيان : {[55547]} «بغير غُنَّةٍ كقراءة خلف » أن يضرب «بغير غُنَّةٍ » . انتهى .

فصار اللفظ «ليعلم » . وقوله «بغير غنة » ، ليس عدم الغنة شرطاً في صحة هذه المسألة بل جاء على سبيل الاتفاق ، ولو أدغم بغنة لجاز ذلك فسقوطها في هذه القراءات يؤيد زيادتها في المشهورة{[55548]} .

وقرأ الحسن أيضاً{[55549]} فيما روى عنه أبو بكر بن مجاهد : «ليلا يعلم » بلام مفتوحة وياء ساكنة كاسم المرأة ، ورفع الفعل بعدها .

وتخريجها : على أن أصلها «لأن لا » على أنها لام الجر ولكن فتحت على لغة مشهورة معروفة ؛ وأنشدوا :

أرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[55550]}

بفتح «اللام » ، وحذف الهمزة اعتباطاً ، وأدغمت النون في «اللام » فاجتمع ثلاثة أمثال فثقل النطق به ، وأبدل الوسط ياء تخفيفاً ، فصار اللفظ «ليلا » كما ترى ، ورفع الفعل ؛ لأن «أنْ » هي المخففة لا النَّاصبة ، واسمها على ما تقرر ضمير الشَّأن ، وفصل بينهما وبين الفعل الذي هو خبرها بحرف النَّفْي .

وقرأ الحسن{[55551]} أيضاً فيما روى عنه قطرب : «ليلا » بلام مكسورة ، وياء ساكنة ، ورفع الفعل بعدها ، وهي كالَّتي قبلها في التخريج ، غاية ما في الباب أنه جاء بلام الجر كما هي في اللغة الشهيرة .

وروي عن ابن عباس : «لكي يعلم » و«كي يعلم » .

وعن عبد الله : «لكيلا »{[55552]} .

وهذه كلها مخالفة للسَّواد الأعظم ، ولسواد المصحف .

وقراءة العامة : { أن لا يقدرون } بثبوت النون ، على أن «أنْ » هي المخففة .

وعبد الله : بحذفها{[55553]} على أن «أن » هي الناصبة .

وهذا شاذّ جداً ؛ لأن العلم لا يقع بعده الناصبة .

وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } الظاهر أنه مستأنف .

وقيل : هو خبر ثانٍ عن الفضل .

وقيل : هو الخبر وحده ، والجار قبله حال ، وهي حال لازمة ؛ لأن كونه بيدِ الله لا ينتقل ألبتة{[55554]} .

فصل في اتصال الآية بما قبلها

نقل ابن الخطيب{[55555]} عن الواحدي أنه قال : هذه الآية مشكلة ، وليس للمفسرين فيها قول واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها .

واعلم أن أكثر المفسرين على أن «لا » هاهنا صلة زائدة ، والتقدير : ليعلم أهل الكتاب .

وقال أبو مسلم وجماعة : على أن «لا » ليست زائدة ، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله وتوفيقه .

أما على القول بزيادتها ، فاعلم أنه لا بُدَّ هاهنا من تقديم مقدمة ، وهي أن أهل الكتاب كانوا يقولون : إن الوحْيَ والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلاَّ لنا ، وإنّ الله خصَّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين العالمين .

إذا عرفت هذا ، فنقول : إن الله - تعالى - لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ووعدهم الأجر العظيم في ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآيةِ ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم ، فقال : إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيءٍ من فَضْل الله لقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً .

وأما القول بأن «لا » غير زائدة ، فاعلم أن الضمير في قوله : «لا يَقْدرون » عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - والتقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه ، فقد علموا أنَّهم يقدرون عليه ثم قال : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } فيصير التقدير : إنا جعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله في قوم معينين ، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله .

واعلم أنَّ هذا القول ليس فيه إلاَّ أنا أضمرنا فيه زيادة ، فقلنا في قوله : { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } تقديره : وليعتقدوا أنَّ الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود ، ومن المعلوم أنَّ الإضمار أولى من الحذف ؛ لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً .

وأما إذا افتقرنا إلى الحذف كان ظاهرهُ موهماً للباطل ، فعلمنا أن هذا القول أولى .

فصل في نزول هذه الآية{[55556]}

قال قتادةُ : حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت : لئلا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله{[55557]} .

وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منّا نبيٌّ يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا فنزلت : «لئلا يعلم » ، أي : ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون يعني : أنهم لا يقدرون ، كقوله : { أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً }{[55558]} [ طه : 89 ] والمراد من فضل الله .

قيل : الإسلام وقيل : الثواب .

وقال الكلبي : من رزق الله{[55559]} .

وقيل : نِعَمُ الله التي لا تُحْصَى .

{ وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ليس بأيديهم ، فيصرفوا النُّبُوَّة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يُحِبُّون .

وقيل : إن الفضل بيد الله ، أي : بقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } .

روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول : «إنَّما بَقَاؤكُمْ فِيْمَا سَلَفَ قَبْلكُمْ مِنَ الأممِ كما بَيْنَ صلاةِ العصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ ، أعْطِيَ أهْلُ التَّوراةِ التَّوْراةَ فَعمِلُوا بِهَا حتَّى انْتَصفَ النَّهارُ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطي أهْلُ الإنجيلِ الإنجيلَ فعمِلُوا بِهِ حتَّى صلاةِ العَصْرِ ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً ، ثُمَّ أعطيتُمُ القُرْآنَ فعَمِلْتُمْ بِهِ حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فأعطيتُمْ قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ ، قال أهْلُ التَّوْرَاةِ : رَبَّنَا هؤلاءِ أقَلُّ عملاً وأكْثَرُ أجْراً ، قال : هَلْ ظُلِمْتُمْ مِنْ أجْرِكُمْ شَيْئاً ؟ قَالُوا : لا ، قال : فذلِك فَضْلُ اللَّهِ أوتيهِ مَنْ أشَاءُ » .

وفي رواية : «فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارى وقالُوا : رَبَّنَا »{[55560]} الحديث .


[55540]:الدر المصون 6/282.
[55541]:الدر المصون 6/282.
[55542]:ينظر: الإملاء 2/1211.
[55543]:سقط من أ.
[55544]:ينظر: الدر المصون 6/282.
[55545]:ينظر: المحرر الوجيز 5/271، وقال ابن عطية: وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس: "كي يعلم"، وروي عن ابن عباس: "لكيلا يعلم"، وينظر: البحر المحيط 8/227، والدر المصون 6/286.
[55546]:ينظر: السابق والقرطبي 17/173.
[55547]:البحر المحيط 8/228.
[55548]:الدر المصون 6/283.
[55549]:ينظر: المحرر الوجيز 5/271، والبحر المحيط 8/277، والدر المصون 6/283.
[55550]:تقدم.
[55551]:ينظر: المحرر الوجيز 5/271، والبحر المحيط 8/227، والدر المصون 6/283.
[55552]:ينظر: المصدر السابق.
[55553]:ينظر: المحرر الوجيز 5/271، والبحر المحيط 8/228، والدر المصون 6/283.
[55554]:الدر المصون 6/283.
[55555]:التفسير الكبير 29/215، 216.
[55556]:ينظر: القرطبي 17/173.
[55557]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/697) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/261) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
[55558]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/261) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[55559]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/173).
[55560]:أخرجه البخاري (2/49) كتاب مواقيت الصلاة: باب من أدرك ركعة... حديث (557) وفي (13/455) كتاب التوحيد، باب: المشيئة والإرادة حديث (7467) و(13/157) كتاب التوحيد باب قوله تعالى: "قل فأتوا بالتوراة فاتلوها" حديث (7533) من حديث ابن عمر.