الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (29)

قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } : هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ ، إذ التقدير : إنْ تتقوا اللَّهَ وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا ، لئلا يعلمَ . وفي " لا " هذه وجهان ، أحدهما :/ وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }

[ الأعراف : 12 ] ، و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] على خِلافٍ في هاتين الآيتين . والتقدير : أَعْلَمَكم اللَّهُ بذلك ، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللَّهِ وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ الله ، وهذا واضح بَيَّنٌ ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً .

والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ . والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين ، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ ، وكان قد قال قبلَ ذلك : " لا " زائدة والمعنى : ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم " وهذا غيرُ مستقيم ؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللَّهِ وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ } ؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير : ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد الله ؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به البتة ، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه .

وقراءةُ العامَّةِ " لئلا " بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ . وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قياسيٌّ نحو : مِيَة وفِيَة ، في : مئة وفئة . ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد الله وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد الله بن سلمة " لِيَعْلَم " بإسقاطِها ، وقراءةُ حطان ابن عبد الله " لأَنْ يعلمَ " بإظهار " أَنْ " . والجحدري أيضاً والحسن " لِيَنَّعَلَمَ " وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم ، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة ، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش " لِيَلاَّ " ثم أَدْغَمَ النون في الياء . قال الشيخ : " بغير غُنَّة كقراءة خلف { أَن يَضْرِبَ } [ البقرة : 26 ] بغيرِ غُنَّة " انتهى . فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ . وقوله : " بغير غنَّة " ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولو أَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ .

وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد " لَيْلاً يَعْلَمَ " بلام مفتوحةٍ وياءٍ ساكنةٍ كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها . وتخريجُها : على أنَّ أصلَها : لأَنْ لا ، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة ، وأنشدوا :

أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بفتح اللام ، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً ، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً ، فصار اللفظُ " لَيْلا " كما ترى ورُفِع الفعل ؛ لأنَّ " أَنْ " هي المخففةُ لا الناصبةُ ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي .

وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب " لِيْلا " بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل ، وهي كالتي قبلها في التخريج . غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة الشهيرة . ورُوي عن ابن عباس " لكي يعلَمَ " ، و " كي يعلم " وعن عبد الله " لكيلا " وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحف .

وقرأ العامَّةُ { أَنْ لا يَقْدِرُون } بثوبت النون على أنَّ " أَنْ " هي المخففة وعبد الله بحَذْفِها على أَنَّ " أَنْ " هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً ؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ .

وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } الظاهرُ أنه مستأنف . وقيل : هو خبرٌ ثانٍ عن الفضل . وقيل : هو الخبرُ وحدَه ، والجارُّ قبله حالٌ وهي حالٌ لازِمةٌ ؛ لأنَّ كونَه بيدِ الله تعالى لا ينتقِلُ البتة .