قوله تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } . قرأ ابن عامر إبراهام بالألف في بعض المواضع . وهو ثلاثة وثلاثون موضعا جملته تسعة وتسعون موضعا . وهو اسم أعجمي . ولذلك لا يجري عليه الصرف وهو إبراهيم بن تارخ . هو آزر بن ناخور . وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز . وقيل بابل وقيل : كوثى ، وقيل : كسكر ، وقيل حران ، ولكن أباه نقله إلى أرض بابل أرض نمرود بن كنعان ، ومعنى الابتلاء الاختبار والامتحان والأمر ، وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء ، لأنه عالم بهم ، ولكن ليعلم العباد أحوالهم ، حتى يعرف بعضهم بعضاً . واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم . فقال عكرمة : وابن عباس رضي الله عنهما : هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام ، ولم يبتل بها أحد ، فأقامها كلها إلا إبراهيم ، فكتب له البراءة ، فقال :{ وإبراهيم الذي وفى } : عشر في براءة : { التائبون العابدون } إلى آخرها ، وعشر في الأحزاب { إن المسلمين والمسلمات } إلى آخرها . وعشر في سورة المؤمنين في قوله : { قد أفلح المؤمنون } الآيات ، وقوله :{ إلا المصلين } في سأل سائل .
قال طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما : ابتلاه الله بعشرة أشياء وهي : الفطرة خمس في الرأس ، قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس ، وخمس في البدن : تقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، والختان ، والاستنجاء بالماء . وفي الخبر : أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب ، وأول من اختتن ، وأول من قلم الأظافر ، وأول من رأى الشيب ، فلما رآه قال : يا رب ما هذا قال : الوقار ، قال : يا رب زدني وقاراً ، قال مجاهد : هي الآيات التي بعدها في قوله عز وجل { إني جاعلك للناس إماماً } إلى آخر القصة ، وقال الربيع وقتادة : مناسك الحج ، وقال الحسن : ابتلاه الله بسبعة أشياء : بالكواكب والقمر ، والشمس ، فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول ، وبالنار فصبر عليها ، وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها ، قال سعيد بن جبير : هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت : { ربنا تقبل منا } الآية فرفعاها بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قال يمان بن رباب : هن محاجة قومه قال الله تعالى : { وحاجه قومه } إلى قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } وقيل هي قوله : { الذي خلقني فهو يهدين } إلى آخر الآيات . { فأتمهن } قال قتادة : أداهن ، قال الضحاك : قام بهن وقال يمان : عمل بهن .
قوله تعالى : { قال } . إني جاعلك للناس إماماً } . يقتدى بك في الخير .
قوله تعالى : { قال } . إبراهيم { ومن ذريتي } . أي ومن أولادي أيضاً فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم .
قوله تعالى : { قال } . الله تعالى . { لا ينال } . لا يصيب .
قوله تعالى : { عهدي الظالمين } . قرأ حمزة و حفص بإسكان الياء والباقون بفتحها أي من كان منهم ظالماً لا يصيبه ، قال عطاء بن أبي رباح : عهدي رحمتي ، وقال السدي : نبوتي ، وقيل : الإمامة ، قال مجاهد : ليس لظالم أن يطاع في ظلمه . ومعنى الآية لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك ، وقيل : أراد بالعهد الأمان من النار ، وبالظالم المشرك كقوله تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن } .
( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن . قال : إني جاعلك للناس إماما . قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ) . .
يقول للنبي [ ص ] اذكر ما كان من ابتلاء الله لإبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف ، فأتمهن وفاء وقضاء . . وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله عنه فيستحق شهادته الجليلة : ( وإبراهيم الذي وفى ) . . وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم . مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل . والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم !
عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى . أو تلك الثقة :
( قال : إني جاعلك للناس إماما ) . .
إماما يتخذونه قدوة ، ويقودهم إلى الله ، ويقدمهم إلى الخير ، ويكونون له تبعا ، وتكون له فيهم قيادة .
عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر : الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد . ذلك الشعور الفطري العميق ، الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة وتمضي في طريقها المرسوم ، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق ، وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق . . ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله ؛ وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى . وعلى أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث ، تلبية لتلك الفطرة ، وتنشيطا لها لتعمل ، ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد . وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها ؛ وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة . وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى . وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة . ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان ، وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق ، وفكرة عن تكوينها أدق ، وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل ، أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح :
وجاءه الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه ، يقرر القاعدة الكبرى التي أسلفنا . . إن الإمامة لمن يستحقونها بالعمل والشعور ، وبالصلاح والإيمان ، وليست وراثة أصلاب وأنساب . فالقربى ليست وشيجة لحم ودم ، إنما هي وشيجة دين وعقيدة . ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم إن هي إلا دعوى الجاهلية ، التي تصطدم اصطداما أساسيا بالتصور الإيماني الصحيح :
( قال : لا ينال عهدي الظالمين ) . . .
والظلم أنواع وألوان : ظلم النفس بالشرك ، وظلم الناس بالبغي . . والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة : امامة الرسالة ، وإمامة الخلافة ، وإمامة الصلاة . . وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة . فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها . ومن ظلم - أي لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها ؛ بكل معنى من معانيها .
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع فيتنحية اليهود عن القيادة والإمامة ، بما ظلموا ، وبما فسقوا ، وبما عتوا عن أمر الله ، وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم . .
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم . بما ظلموا ، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله ، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم . . ودعواهم الإسلام ، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة ، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله .
إن التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل . ولا يعترف بقربى ولا رحم إذا أنبتت وشيجة العقيدة والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل . . وهو يفصل بين جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته ، بل يفصل بين الوالد والولد ، والزوج والزوج إذا انقطع بينهما حبل العقيدة . فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر . ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة . والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء ، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر ، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة . . إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا . . إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة . وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين . . إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم . . وهذا هو التصور الإيماني ، الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني ، في كتاب الله الكريم . .
{ وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرّيّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَإِذِ ابْتَلَى } وإذ اختبر ، يقال منه : ابتليت فلانا ابتليه ابتلاءً . ومنه قول الله عزّ وجل : { وابْتَلُوا اليَتامَى } يعني به : اختبروهم . وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم اختبارا بفرائض فرضها عليه ، وأمْرٍ أمَرَه به ، وذلك هو الكلمات التي أوحاهنّ إليه وكلفه العمل بهنّ امتحانا منه له واختبارا .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الكلمات التي ابتلى اللّهُ بها إبراهيمَ نبيّه وخليلَهُ صلوات الله عليه ، فقال بعضهم : هي شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكلِماتٍ } قال : قال ابن عباس : لم يُبْتَلَ أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم ، ابتلاه الله بكلمات فأتمهنّ قال : فكتب الله له البراءة ، فقال : { وَإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى } قال : عشر منها في الأحزاب ، وعشر منها في براءة ، وعشر منها في المؤمنين وسأل سائل وقال : إن هذا الإسلام ثلاثون سهما .
حدثنا إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد الطحان ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ما ابْتُلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم ابتلي بالإسلام فأتمه ، فكتب الله له البراءة ، فقال : { وَإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى } فذكر عشرا في براءة ، فقال : { التّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ } إلى آخرِ الاَيات ، وعشرا في الأحزاب : { إنّ المُسْلمينَ وَالمُسلمات } ، وعشرا في سورة المؤمنين ، إلى قوله : { وَالّذِينَ هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحافِظُونَ } ، وعشرا في سأل سائل : { وَالّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } .
حدثنا عبيد الله بن أحمد بن شبرمة ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا خارجة بن مصعب ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الإسلام ثلاثون سهما ، وما ابتُلي بهذا الدين أحدٌ فأقامه إلا إبراهيم ، قال الله : { وإبراهيم الّذِي وَفّى }فكتب الله له براءة من النار .
وقال آخرون : هي خصال عشرٌ من سنن الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد . في الرأس : قصّ الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس . وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل أثر الغائط والبول بالماء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحكم بن أبان ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن ابن عباس بمثله ، ولم يذكر أثر البول .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال . قال : حدثنا قتادة في قوله : { وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : ابتلاه بالختان ، وحلق العانة ، وغسل القبل والدبر ، والسواك ، وقصّ الشارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط . قال أبو هلال : ونسيت خصلة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن مطر ، عن أبي الخلد قال : ابتُلي إبراهيم بعشرة أشياء هنّ في الإنسان : سنة الاستنشاق ، وقصّ الشارب ، والسواك ، ونتف الإبط ، وقَلْم الأظفار ، وغسل البراجم ، والختان ، وحلق العانة ، وغسل الدّبُرُ والفَرْج .
وقال بعضهم : بل الكلمات التي ابتلي بهن عشر خلال ، بعضهنّ في تطهير الجسد ، وبعضهنّ في مناسك الحجّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن حنش عن ابن عباس في قوله : { وَإذِ ابْتَلى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِماتٍ فأتَمّهُنّ } قال : ستة في الإنسان ، وأربعة في المشاعر فالتي في الإنسان : حلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقصّ الشارب ، والغسل يوم الجمعة . وأربعة في المشاعر : الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة .
وقال آخرون : بل ذلك : { إني جاعلك للناس إماما } في مناسك الحجّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت إسماعيل بن أبي خالد ، عتن أبي صالح في قوله : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِماتٍ فأتَمّهُنّ } فمنهن : إنّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماما وآيات النسك .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح مولى أم هانىء في قوله : { وَإِذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال منهن : { إني جاعِلُكَ للنّاسِ إماما } ومنهن آيات النسك : { وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ } .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأتَمّهُنّ } قال الله لإبراهيم : إني مبتليك بأمر ، فما هو ؟ قال : تجعلني للناس إماما . قال : نعم . قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين . قال : تجعل البيت مثابة للناس قال : نعم . وأمْنا قال : نعم . وتجعلنا مسلمين لك ، ومن ذرّيتنا أمة مسلمة لك قال : نعم . وترينا مناسكنا وتتوب علينا قال : نعم . قال : وتجعل هذا البلد آمنا قال : نعم . قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم قال : نعم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح أخبره به عن عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه . قال ابن جريج : فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا .
حدثنا سفيان ، قال : حدثني أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فأتَمّهُنّ } قال : ابتلي بالاَيات التي بعدها : { إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما قال وَمِنْ ذُرّيّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِمِينَ } .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَإذْ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتَ فأتَمّهُن }فالكلمات : { إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما }وقوله : { وَإذ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثابَةً للنّاسِ } وقوله : { وَاتّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلّى } وقوله : { وَعَهِدْنا إلى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ } الآية ، وقوله : { وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمَ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ } الآية قال : فذلك كلمة من الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم .
حدثني محمد بن سعيد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأتَمّهُنّ فمنهنّ : إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما ومنهن : وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ ومنهن الاَيات في شأن النسك ، والمقام الذي جعل لإبراهيم ، والرزق الذي رزق ساكنو البيت ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذرّيتهما عليهما السلام .
وقال آخرون : بل ذلك مناسك الحجّ خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا عمرو بن نبهان ، عن قتادة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ }قال : مناسك الحج .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان ابن عباس يقول في قوله : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ }قال : المناسك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : قال ابن عباس : ابتلاه بالمناسك .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : بلغنا عن ابن عباس أنه قال : إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم : المناسك .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس قوله :
{ وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ ربّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : مناسك الحجّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس في قوله : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ }قال : منهن مناسك الحجّ .
وقال آخرون : هي أمور منهن الختان . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة عن يونس بن أبي إسحاق ، عن الشعبي : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِماتٍ } قال : منهن الختان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : سمعت الشعبي يقول : فذكر مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : سمعت الشعبي ، وسأله أبو إسحاق عن قول الله :
{ وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : منهن الختان يا أبا إسحاق .
وقال آخرون : بل ذلك الخلال الستّ : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان ، التي ابتلي بهنّ فصبر عليهنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : قلت للحسن : { وإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتَ فأتَمّهُنّ } قال : ابتلاه بالكوكب فرضي عنه ، وابتلاه بالقمر فرضي عنه ، وابتلاه بالشمس فرضي عنه ، وابتلاه بالنار فرضي عنه ، وابتلاه بالهجرة ، وابتلاه بالختان .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : إي والله ابتلاه بأمر فصبر عليه ، ابتلاه بالكوكب ، والشمس ، والقمر ، فأحسن في ذلك ، وعرف أن ربه دائم لا يزول ، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين ، ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك ، فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان فصبر على ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عمن سمع الحسن يقول في قوله : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : ابتلاه الله بذبح ولده ، وبالنار ، وبالكوكب ، والشمس ، والقمر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن الحسن : { وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : ابتلاه بالكوكب ، وبالشمس ، والقمر ، فوجده صابرا .
حدثنا به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : الكلمات التي ابتلى بهنّ إبراهيم ربه :
{ رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ ، رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لكَ وَمِنْ ذُرّيَتِنا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنَا ، إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحِيمُ ، رَبّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه ، وأمره أن يعمل بهنّ وأتمهنّ ، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل . وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل الكلمات ، وجائز أن تكون بعضه لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتُحن فيما بلغنا بكل ذلك ، فعمل به وقام فيه بطاعة الله وأَمْره الواجب عليه فيه . وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز لأحد أن يقول : عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء ، ولا عنى به كل ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من الحجة ولم يصحّ فيه شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد ، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته . غير أنه روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران لو ثبتا ، أو أحدهما ، كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب . أحدهما ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا راشد بن سعد ، قال : حدثني ريان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «ألاَ أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمّى اللّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الّذِي وَفّى ؟ لأنّهُ كانَ يَقُولُ كُلّما أصبَحَ وَكُلّما أمْسَى : فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ حتى يختم الآية » .
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا الحسن بن عطية . قال : حدثنا إسرائيل ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى قال : «أتَدْرُونَ مَا وفّى » ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «وَفّى عَملَ يَوْمِهِ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي النّهَارِ » . فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده . كان بيّنا أن الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم فقام بهن هو قوله كُلّما أصْبَحَ وأمْسَى : { فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحَمْدُ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } . أو كان خبر أبي أمامة عدولاً نقلته ، كان معلوما أن الكلمات التي أُوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهنّ أن يصلي كل يوم أربع ركعات . غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر .
والصواب من القول في معنى الكلمات التي أخبر الله أنه ابتلي بهنّ إبراهيم ما بينا آنفا .
ولو قال قائل في ذلك : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا ، لأن قوله : إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقوله : { وَعَهْدِنا إلى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِي للطّائِفِينَ } وسائر الاَيات التي هي نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهنّ إبراهيم .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأتَمّهُنّ .
يعني جل ثناؤه بقوله : { فَأتَمّهُنّ } فأتمّ إبراهيم الكلمات ، وإتمامه إياهنّ إكماله إياهنّ بالقيام لله بما أوجب عليه فيهنّ وهو الوفاء الذي قال الله جل ثناؤه : وَإبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى يعني وفّى بما عهد إليه بالكلمات ، فأمره به من فرائضه ومحنه فيها . كما :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { فأتَمّهُنّ } أي فأدّاهنّ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فأتَمّهُنّ } أي عمل بهنّ ، فأتمهنّ .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فأتَمّهُنّ }أي عمل بهنّ فأتمهنّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { قالَ إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما } فقال الله : يا إبراهيم إني مُصَيّرك للناس إماما يؤتمّ به ويقتدي به . كما :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما } ليؤتمّ به ، ويقتدي به يقال منه : أممت القوم فأنا أؤمهم أمّا وإمامةً إذا كنت إمامهم .
وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم : إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما إني مصيرك تؤمّ مَنْ بَعْدَكَ من أهل الإيمان بي وبرسلي ، فتقدمهم أنت ، ويتبعون هديك ، ويستنّون بسنتك التي تعمل بها بأمري إياك ووحيي إليك .
القول في تأويل قوله تعالى : { قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِي } .
يعني جل ثناؤه بذلك ، قال إبراهِيمُ لما رفع الله منزلته وكرّمه ، فأعلمه ما هو صانع به من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره ولمن جاء بعده من ذرّيته وسائر الناس غيرهم يهتدي بهديه ويقتدي بأفعاله وأخلاقه : يا ربّ ومن ذرّيتي فاجعل أئمة يقتدي بهم كالذي جعلتني إماما يؤتمّ به ويتقدى بي ، مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها . كما :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال إبراهيم : { وَمِنْ ذُرّيّتِي }يقول : فاجعل من ذرّيتي من يؤتمّ به ويقتدي به .
وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم : وَمِنْ ذُرّيّتِي مسألة منه ربّه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه ، كما قال : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه بقوله : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } .
والظاهر من التنزيل يدلّ على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه : { وَمِنْ ذُرّيّتِي } في إثر قول الله جل ثناؤه : { إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما } فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذرّيته لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه لكان مبينا ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره ، اكتفى بالذكر الذي قد مضى من تكريره وإعادته ، فقال : { وَمِنْ ذُرّيّتِي }بمعنى : ومن ذرّيتي فاجعل مثل الذي جعلتني به من الإمامة للناس .
القول في تأويل قوله تعالى : { قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } .
هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير ، وهو من الله جل ثناؤه جواب لما توهم في مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة مثله ، فأخبر أنه فاعل ذلك إلا بمن كان من أهل الظلم منهم ، فإنه غير مصيّره كذلك ، ولا جاعله في محل أوليائه عنده بالتكرمة بالإمامة لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به .
واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرّم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه ، فقال بعضهم : ذلك العهد هو النبوّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ يقول : عهدي ، نبوّتي . فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية : لا ينال النبّوة أهل الظلم والشرك .
وقال آخرون : معنى العهد عهد الإمامة ، فتأويل الآية على قولهم : لا أجعل من كان من ذرّيتك بأسرهم ظالما إماما لعبادي يقتدى به . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ }قال : لا يكون إمامٌ ظالما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قال الله : { لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } قال : لا يكون إمامٌ ظالما .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة بمثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله قالَ : { لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } قال : لا يكون إمامٌ ظالم يقتدى به .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا مسروق بن أبان الحطاب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } قال : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به .
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } قال : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ }قال : لا يكون إماما ظالمٌ .
قال ابن جريج : وأما عطاء فإنه قال : { إنّي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما ، قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِي } ، فأبى أن يجعل من ذرّيته ظالما إماما ، قلت لعطاء : ما عَهْدُه ؟ قال : أَمْرُه .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { لا يَنالُ عَهْدِي الظالِمِينَ } يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن إسرائيل ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته فانقضه .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : ليس لظالم عهد .
وقال آخرون : معنى العهد في هذا الموضع : الأمان .
فتأويل الكلام على معنى قولهم ، قال الله : لا ينال أماني أعدائي ، وأهل الظلم لعبادي أي لا أؤمنهم من عذابي في الاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } ذلكم عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالم ، فأما في الدنيا فقد نالوا عهد الله ، فوارثوا به المسلمين وعادوهم وناكحوهم به ، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِمِينَ قال : لا ينال عهدَ الله في الاَخرة الظالمون ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم وأكل به وعاش .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم : { قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } قال : لا ينال عهد الله في الاَخرة الظالمون ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وأبصر وعاش .
وقال آخرون : بل العهد الذي ذكره الله في هذا الموضع : دِينُ الله . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال الله لإبراهيم : { لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ }فقال : فَعَهْدُ الله الذي عهد إلى عباده : دينه . يقول : لا ينال دينه الظالمين ، ألا ترى أنه قال : { وَبَارَكْنا عَلَيْهِ وَعلى إسْحَاقَ وَمنْ ذُرّيتهما مُحْسنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } يقول : ليس كل ذرّيتك يا إبراهيم على الحقّ .
حدثني يحيى بن جعفر ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } قال : لا ينال عهدي عدوّ لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا وَليّا يطيعني .
وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهِرَ خبرٍ عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله الذي هو النبوّة والإمامة لأهل الخير ، بمعنى الاقتداء به في الدنيا ، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الاَخرة ، من وفي لله به في الدنيا ، من كان منهم ظالما متعدّيا جائرا عن قصد سبيل الحقّ . فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم أن من ولده من يشرك به ، ويجور عن قصد السبيل ، ويظلم نفسه وعباده . كالذي :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشر ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : { لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } قال : إنه سيكون في ذرّيتك ظالمون .
وأما نصب الظالمين ، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين . وذُكر أنه في قراءة ابن مسعود : { لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمُونَ } بمعنى أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله . وإنما جاز الرفع في الظالمين والنصب ، وكذلك في العهد لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء ، كما يقال : نالني خيرُ فلان ونلت خَيْرَهُ ، فيوجه الفعل مرّة إلى الخير ومرّة إلى نفسه . وقد بينا معنى الظلم فيما مضى فكرهنا إعادته .
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } كلفه بأوامر ونواه ، والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء ، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفهما ، والضمير لإبراهيم ، وحسن لتقدمه لفظا وإن تأخر رتبة ، لأن الشرط أحد التقدمين ، والكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة في قوله تعالى : { التائبون العابدون } الآية وقوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } إلى آخر الآية ، وقوله : { قد أفلح المؤمنون } إلى قوله : { أولئك هم الوارثون } كما فسرت بها في قوله { فتلقى آدم من ربه كلمات } وبالعشر التي هي من سننه ، وبمناسك الحج ؛ وبالكواكب ، والقمرين ، والختان ، وذبح الولد ، والنار ، والهجرة . على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن وبما تضمنته الآيات التي بعدها . وقرئ إبراهيم ربه على أنه دعا ربه بكلمات مثل { أرني كيف تحيي الموتى } . { واجعل هذا البلد آمنا } ليرى هل يجيبه . وقرأ ابن عامر إبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة . { فأتمهن } فأداهن كملا وقام بهن حق القيام ، لقوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفى } وفي القراءة الأخيرة الضمير لربه ، أي أعطاه جميع ما دعاه . { قال إني جاعلك للناس إماما } استئناف إن أضمرت ناصب إذ كأنه قيل : فماذا قال ربه حين أتمهن فأجيب بذلك . أو بيان لقوله ابتلى فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع قواعده ، والإسلام وإن نصبته يقال فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها ، أو جاعل من جعل الذي له مفعولان ، والإمام اسم لمن يؤتم به وإمامته عامة مؤبدة ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه . { قال ومن ذريتي } عطف على الكاف أي وبعض ذريتي ، كما تقول : وزيدا ، في جواب : سأكرمك ، والذرية نسل الرجل ، فعلية أو فعولة قلبت راؤها الثانية ياء كما في تقضيت . من الذر بمعنى التفريق ، أو فعولة أو فعيلة قلبت همزتها من الذرة بمعنى الخلق . وقرئ ذريتي بالكسر وهي لغة . { قال لا ينال عهدي الظالمين } إجابة إلى ملتمسه ، وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة ، وأنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من الله تعالى وعهد ، والظالم لا يصلح لها ، وإنما ينالها البررة الأتقياء ، منهم . وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة ، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة . وقرئ " الظالمون " والمعنى واحد إذ كل ما نالك فقد نلته .
لما كملت الحجج نهوضاً على أهل الكتابين ومشركي العرب في عميق ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام ، وتبين سوء نواياهم التي حالت دون الاهتداء بهديه والانتفاع بفضله ، وسجل ذلك على زعماء المعاندين أعني اليهود ابتداء بقوله : { يا بني إسرائيل } [ البقرة : 40 ] مرتين ، وأدمج معهم النصارى استطراداً مقصوداً ، ثم أنصف المنصفون منهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته ، انتقل إلى توجيه التوبيخ والتذكير إلى العرب الذين يزعمون أنهم أفضل ذرية إبراهيم وأنهم يتعلقون بملته ، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه ، وكانوا قد وُخزوا بجانب من التعريض في خلال المحاورات التي جرت مع أهل الكتاب للصفة التي جمعتهم وإياهم من حسد النبيء والمسلمين على ما أنزل عليهم من خير ، ومن قولهم ليس المسلمون على شيء ، ومن قولهم { اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] ، ومن قولهم { لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] . فلما أخذ اليهود والنصارى حظهم من الإنذار والموعظة كاملاً فيما اختصوا به ، وأخذوا مع المشركين حظهم من ذلك فيما اشتركوا فيه ، تهيأ المقام للتوجه إلى مشركي العرب لإعطائهم حظهم من الموعظة كاملاً فيما اختصوا به ، فمناسبة ذكر فضائل إبراهيم ومنزلته عند ربه ودعوته لعقبه عقب ذكر أحوال بني إسرائيل ، هي الاتحاد في المقصد ، فإن المقصود من تذكير بني إسرائيل بالنعم والتخويف ، تحريضهم على الإنصاف في تلقي الدعوة الإسلامية والتجرد من المكابرة والحسد وترك الحظوظ الدنيوية لنيل السعادة الأخروية . والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعاً له ، لأن العرب أشد اختصاصاً بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه ، ومنتمين قديماً للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين .
فحقيق أن نجعل قوله { وإذ ابتلى } عطفاً على قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] كما دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من كفر المشركين بالخالق في قوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] ، عقبت تلك التذكرة بإنذار من يكفر بآيات الله من ذرية آدم بقوله : { فإما يأتينكم مني هدى } [ البقرة : 38 ] الآية ، ثم خص من بين ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عُهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقاً لما معهم ، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم . فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب ، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن ، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك ، ثم طوي بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله : { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } [ البقرة : 133 ] ليفضي إلى قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } [ البقرة : 135 ] فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء منها وكذلك اليهود والنصارى . وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم وإبراهيم ، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم . فتعين أن تقدير الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات .
ومن الناس من زعم أن قوله : { وإذ ابتلى } عطف على قوله { نعمتي } [ البقرة : 122 ] أي اذكروا نعمتي وابتلائي إبراهيم ، ويلزمه تخصيص هاته الموعظة ببني إسرائيل ، وتخلل { واتقوا يوماً } [ البقرة : 123 ] بين المعطوفين وذلك يضيق شمول الآية ، وقد أدمج في ذلك قوله : { ومن ذريتي } وقوله : { لا ينال عهدي الظالمين } .
وفي هذه الآية مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام ، لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه ، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيهاً على مزية هذا الدين .
والابتلاء افتعال من البلاء ، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار وتقدم في قوله : { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } [ البقرة : 49 ] ، وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمناً انتظار فعله أو تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز ، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه بأوامر ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به ، وليس في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إِشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف ، ولك أن تجعله استعارة تمثيلية ، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة ، وهذا يدل على أن إبراهيم أوحى إليه بنبوءة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل ما أمر به أوحى إليه بالرسالة وهي في قوله تعالى : { إني جاعلك للناس إماماً } فتكون جملة { إني جاعلك للناس إماماً } بدل بعض من جملة { وإذ ابتلى } ، ويجوز أن يكون الابتلاء هو الوحي بالرسالة ويكون قوله : { إني جاعلك للناس إماماً } تفسيراً لابتلى .
و ( إبراهيم ) اسم الرسول العظيم الملقب بالخليل وهو إبراهيم بن تارح ( وتسمي العرب تارح آزر ) بن ناحور بن سروج ، ابن رعو ، ابن فالح ، ابن عابر ابن شالح ابن أرفكشاد ، ابن سام ابن نوح هكذا تقول التوراة . ومعنى إبراهيم في لغة الكلدانيين أب رحيم أو أب راحم قاله السهيلي وابن عطية ، وفي التوراة أن اسم إبراهيم إبرام وأن الله لما أوحى إليه وكلمه أمره أن يسمى إبراهيم لأنه يجعله أباً لجمهور من الأمم ، فمعنى إبراهيم على هذا أبو أمم كثيرة .
ولد في أور الكلدانيين سنة 1996 ست وتسعين وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح ، ثم انتقل به والده إلى أرض كنعان ( وهي أرض الفنيقيين ) فأقاموا بحاران ( هي حوران ) ثم خرج منها لقحط أصاب حاران فدخل مصر وزوَّجه سارة وهنالك رام ملك مصر افتكاك سارة فرأى آية صرفته عن مرامه فأكرمها وأهداها جاريةً مصريةً اسمها هاجر وهي أم ولده إسماعيل ، وسماه الله بعد ذلك إبراهيم ، وأسكن ابنه إسماعيل وأمه هاجر بوادي مكة ثم لما شب إسماعيل بنى إبراهيم البيت الحرام هنالك .
وتوفي إبراهيم سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح .
وفي اسمه لغات للعرب : إحداها إبراهيم وهي المشهورة وقرأ بها الجمهور ، والثانية إبراهام وقعت في قراءة هشام عن ابن عامر حيثما وقع اسم إبراهيم ، الثالثة إبراهِم وقعت في رجز لزيد بن عمرو بن نفيل :
عذت بما عاذ به إبراهِمْ *** مستقبل الكعبة وهو قائمْ
وذكر أبو شامة في { شرح حرز الأماني } عن الفراء في إبراهيم ست لغات :
إبراهيم ، إبراهام ، إبراهوم ، إبراهِم ، ( بكسر الهاء ) ، إبراهُم ( بفتح الهاء ) إبراهم ( بضم الهاء ) .
ولم يقرأ جمهور القراء العشرة إلا بالأولى وقرأ بعضهم بالثانية في ثلاثة وثلاثين موضعاً سيقع التنبيه عليها في مواضعها ، ومع اختلاف هذه القراءات فهو لم يكتب في معظم المصاحف الأصلية إلا إبراهيم بإثبات الياء ، قال أبوعمرو الداني لم أجد في مصاحف العراق والشام مكتوباً إبراهم بميم بعد الهاء ولم يكتب في شيء من المصاحف إبراهام بالألف بعد الهاء على وفق قراءة هشام ، قال أبو زرعة سمعت عبد الله بن ذكوان قال : سمعت أبا خليد القارىء يقول في القرآن ستة وثلاثون موضعاً إبراهام قال أبو خليد : فذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك ، وقال أبو بكر ابن مهران روى عن مالك بن أنس أنه قيل له : إن أهل دمشق يقرأون إبراهام ويدعون أنها قراءة عثمان رضي الله عنه فقال مالك ها مصحف عثمان عندي ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ أهل دمشق .
وتقديمُ المفعول وهو لفظ ( إبراهيم ) لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز فلذلك لم يقل وإذ ابتلى اللَّهُ إبراهيم .
والكلمات الكلام الذي أوحَى الله به إلى إبراهيم إذ الكلمة لفظ يدل على معنى والمراد بها هنا الجمل كما في قوله تعالى : { كَلاَّ إنها كلمةٌ هو قائِلُها } [ المؤمنون : 100 ] ، وأَجْمَلَها هنا إذ ليس الغرض تفصيل شريعة إبراهيم ولا بسط القصة والحكاية وإنما الغرض بيان فضل إبراهيم ببيان ظهور عزمه وامتثاله لِتكاليف فأتَى بها كاملة فجوزي بعظيم الجزاء ، وهذه عادة القرآن في إجمال ما ليس بمحل الحاجة ، ولعل جمع الكلمات جمعَ السلامة يؤذن بأن المراد بها أصول الحنيفية وهي قليلة العدد كثيرة الكلفة ، فلعل منها الأمر بذبح ولده ، وأمره بالاختتان ، وبالمهاجرة بِهاجَر إلى شقة بعيدة وأعظم ذلك أَمْرُه بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا ، وقد سمي ذلك بلاء في قوله تعالى :
{ إن هذا لهو البلاء المبين } [ الصافات : 106 ] .
وقوله : { فأتمهن } جيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة العزم . والإتمام في الأصل الإتيان بنهاية الفعل أو إكمال آخر أجزاء المصنوع .
وتعدية فعل أَتم إلى ضمير ( كلمات ) مجاز عقلي ، وهو من تعليق الفعل بحاوي المفعول لأنه كالمكان له وفي معنى الإتمام قوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفَّى } [ النجم : 37 ] ، وقوله : { قد صدقت الرؤيا } [ الصافات : 105 ] ، فالإفعال هنا بمعنى إيقاع الفعل على الوجه الأتم وليس المراد بالهمز التصيير أي صيرها تامة بعد أن كانت ناقصة إذ ليس المراد أنه فعل بعضها ثم أتى بالبعض الآخر ، فدل قوله : { فأتمهن } مع إيجازه على الامتثال وإتقانِه والفورِ فيه . وهذه الجملة هي المقصود من جزء القصة فيكون عطفها للدلالة على أنه ابتُلي فامتثَل كقولك دعوت فلاناً فأجاب .
وجملة { قال إني جاعلك للناس إماماً } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما اقتضاه قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } من تعظيم الخبر والتنويه به ، لما يقتضيه ظرف ( إذْ ) من الإشارة إلى قصة من الأخبار التاريخية العظيمة فيترقب السامع ما يترتب على اقتصاصها ، ويجوز أن يكون الفصل على طريقة المقاولة لأن هذا القول مجاوبة لما دل عليه قوله : { ابتلى } .
والإمام مشتق من الأَم بفتح الهمزة وهو القصد وهو وزن فِعَال من صيغ الآلة سماعاً كالعِمَاد والنقاب والإزار والرداء ، فأصله ما يحصل به الأَم أي القصد ولما كان الدال على الطريق يقتدي به الساير دل الإمام على القدوة والهادي .
والمراد بالإمام هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة والرسول أكمل أفراد هذا النوع . وإنما عدل عن التعبير { برسولاً } إلى { إماماً } ليكون ذلك دالاً على أن رسالته تنفع الأمة المرسَل إليها بطريق التبليغ ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء ، فإن إبراهيم عليه السلام رحل إلى آفاق كثيرة فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى الشام والحجاز ومصر ، وكان في جميع منازله محل التبجيل ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء ، وقد قيل إن دين بَرْهَمَا المتَّبَع في الهند أصلُه منسوب إلى اسم إبراهم عليه السلام مع تحريف أدخل على ذلك الدين كما أدخل التحريف على الحنيفية ، وليتأتَّى الإيجاز في حكاية قول إبراهيم الآتي { ومن ذريتي } ، فيكون قد سأل أن يكون في ذريته الإمامةُ بأنواعها من رسالةٍ ومُلك وقدوة على حسب التهيُّؤ فيهم ، وأقل أنواع الإمامة كونُ الرجل الكاملِ قدوةً لبنيه وأهل بيته وتلاميذه .
وقوله : { قال ومن ذريتي } جواب صدر من إبراهيم فلذا حُكي بقال دون عاطف على طريق حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى :
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] والمقول معطوف على خطاب الله تعالى إياه يسمونه عطف التلقين وهو عطف المخاطَب كلاماً على ما وقع في كلام المتكلم تنزيلاً لنفسه في منزلة المتكلم يكمِّل له شيئاً ترَكَه المتكلم إما عن غفلة وإما عن اقتصار فيُلقنه السامعُ تدارُكَه بحيث يلتئم من الكلامين كلام تام في اعتقاد المخاطب .
وفي الحديث الصحيح قال جرير بن عبد الله « بايعت النبيء على شهادة أن لا إله إلا الله إلخ فشرط عليَّ والنصححِ لكل مسلم » ، ومنه قول ابن الزبير للذي سأله فلم يعطه فقال لعن الله ناقةً حملتنِي إليك فقال ابن الزبير « إِنَّ ورَاكِبهَا » ، وقد لقبوه عطف التلقين كما في « شرح التفتزاني على الكشاف » وذلك لأن أكثر وقوع مثله في موقع العطف ، والأَوْلى أن تحذف كلمة عطف ونُسميَ هذا الصنفَ من الكلام باسم التلقين وهو تلقين السامع المتكلمَ ما يراه حقيقاً بأن يُلحقه بكلامه ، فقد يكون بطريقة العطف وهو الغالب كما هنا ، وقد يكون بطريقة الاستفهام الإنكاري والحال كقول تعالى : { قالوا بل نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عليه آباءنا أَوْ لَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً } [ البقرة : 170 ] فإن الواو مع ( لو ) الوصلية واو الحال وليس واو العطف فهو إنكار على إلحاقهم المستفهم عنه بقولهم ودعواهم ، وقد يكون بطريقة الاستثناء كقول العباس لمَّا قال النبيء صلى الله عليه وسلم في حَرَم مكة « لاَ يُعْضَدُ شَجَرهُ » فقال العباس إِلاَّ الإذْخِرِ لِبيُوتنا وقَيْنِنَا ، وللكلام المعطوف عطفَ التلقين من الحُكم حُكْمُ الكلام المعطوف هو عليه خبراً وطلباً ، فإذا كان كما هنا على طريق العرض علم إمضاء المتكلم له إياه ، بإقراره كما في الآية أو التصريح به كما وقع في الحديث " إلا الإذخر " ، ثم هو في الإنشاء إذا عطف معمولُ الإنشاء يتضمن أن المعطوف له حكم المعطوف عليه ، ولما كان المتكلم بالعطف في الإنشاء هو المخاطب بالإنشاء لزم تأويل عطف التلقين فيه بأنه على إرادة العطف على معمول لازم الإنشاء ففي الأمر إذا عَطَف المأمورُ مفعولاً على مفعول الآمر كان المعنى زدني من الأمر فأَنا بصدد الامتثال وكذا في المنهي . والمعطوف محذوف دل عليه المقام أي وبعض من ذريتي أو وجاعلُ بعضٍ من ذريتي .
والذُّريَّة نسل الرجل وما تَوَالَد منه ومن أبنائه وبناتِه ، وهي مشتقة إما من الذَّرِّ اسماً وهو صغار النمل ، وإما من الذَّرِّ مصدراً بمعنى التفريق ، وإما من الذَّرْي والذَّرْو ( بالياء والواو ) وهو مصدر ذَرَتِ الريحُ إذا سَفَت ، وإما من الذرء بالهمز وهو الخَلْق ، فوزنها إما فُعْلِيَّة بوزن النسب إلى ذر وضم الذال في النسب على غير قياس كما قالوا في النسب إلى دَهْر دُهْرِيّ بضم الدال ، وإما فُعِّيلَة أو فُعُّولَة من الذري أو الذرو أو الذرء بإدغام اليائين أو الياء مع الواو أو الياء مع الهمزة بعد قلبها ياء وكل هذا تصريف لاشتقاق الواضع فليس قياس التصريف .
وإنما قال إبراهيمُ : { ومن ذريتي } ولم يقل وَذُريتي لأنه يعلَم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يُقتدَى بهم فلم يسأل ما هو مستحيل عادة لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء .
وإنما سأل لذريته ولم يقصر السؤال على عقبه كما هو المتعارف في عصبية القائل لأبناء دينه على الفطرة التي لا تقتضي تفاوتاً فيرى أبناء الابن وأبناء البنت في القرب من الجد بل هما سواء في حكم القرابة ، وأما مبنى القبلية فعلى اعتبارات عرفية ترجع إلى النصرة والاعتزاز فأما قول :
بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فَوهم جاهلي ، وإلا فإن بني الأبناء أيضاً بنوهم أبناء النساء الأباعد ، وهل يتكون نسل إلا من أب وأم . وكذا قول :
وإنما أمهات الناس أوْعِيَة *** فيها خلقن وللأبناء أبناء
فذلك سفسطة . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الأحق بالبر من أبويه " أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك " وقال الله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن } [ لقمان : 14 ] .
وقوله تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما لأن حكم أحد الضدين يثبت نقيضه للآخر على طريقة الإيجاز ، وإنما لم يُذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة لأن المقصد ذكر الصنف الآخر تعريضاً بأن الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم وهم أهل الكتاب ومشركو العرب هم الذين يُحرمون من دعوته ، قال تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } [ آل عمران : 67 ، 68 ] ولأن المربي يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح ، فبيان الذين لا تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين .
و { ينال } مضارع نال نيلاً بالياء إذا أصاب شيئاً والتحق به أي لا يصيب عهدي الظالمين أي لا يشملهم ، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد . وسمي وعد الله عهداً لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك فصار وعده عهداً ولذلك سماه النبيء عهداً في قوله " أَنشُدك عهدك ووعدك " ، أي لاينال وعدي بإجابة دعوتك الظالمين منهم ، ولا يحسن أن يفسر العهد هنا بغير هذا وإن كان في مواقع من القرآن أريد به غيره ، وسيأتي ذكر العهد في سورة الأعراف .
ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهداً بأنه مع ذريته ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين . والمراد بالظالمين ابتداء المشركون أي الذين ظلموا أنفسهم إذ أشركوا بالله قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] والظلم يشمل أيضاً عمل المعاصي الكبائر كما وقع في قوله تعالى : { ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } [ الصافات : 113 ] وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [ المائدة : 45 ] فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة وأعلاها الشرك بالله تعالى .
وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة لاتصافهم بأنواع من الظلم كالشرك وتحريف الكتاب وتأويله على حسب شهواتهم والانهماك في المعاصي حتى إذا عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم . وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله فيفهم من العلة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم العهد .
وفي الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقاً لإسناد الإمامة إليه أعني سائر ولايات المسلمين : الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك . قال فخر الدين : قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له . وفي « تفسير ابن عرفة » تسليم ذلك . ونقل ابن عرفة عن المازري والقرطبي عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصي فقال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي السفهاء والفساق في الأرض وهذا حكم كل ولاية في قول علماء السنة ، وما نقل عن أبي حنيفة من جواز كون الفاسق خليفة وعدم جواز كونه قاضياً قال أبو بكر الرازي الجصاص هو خطأ في النقل .
وقرأ الجمهور من العشرة ( عهديَ ) بفتح ياء المتكلم وهو وجه من الوجوه في ياء المتكلم وقرأه حمزة وحفص بإسكان الياء .