والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالقانون وحده . إنما يرفع سيف القانون ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف . فأما اعتماده الأول فعلى تربية القلب ، وتقويم الطبع . وهداية الروح – ذلك إلى جانب إقامة المجتمع والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالقانون وحده . إنما يرفع سيف القانون ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلاّ السيف . فأما اعتماده الأول فعلى تربية القلب ، وتقويم الطبع . وهداية الروح - ذلك إلى جانب إقامة المجتمع الذي تنمو فيه بذرة الخير وتزكو ، وتذبل فيه نبتة الشر وتذوي - لذلك ما يكاد ينتهي السياق القرآني من الترويع بالعقوبة حتى يأخذ طريقه إلى القلوب والضمائر والأرواح ؛ يستجيش فيها مشاعر التقوى ؛ ويحثها على ابتغاء الوسيلة إلى الله والجهاد في سبيله رجاء الفلاح ؛ ويحذرها عاقبة الكفر به ؛ ويصور لها مصائر الكفار في الآخرة تصويراً موحياً بالخشية والاعتبار :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وابتغوا إليه الوسيلة ، وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون .
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ، ومثله معه ، ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم . ولهم عذاب أليم . يريدون أن يخرجوا من النار ، وما هم بخارجين منها ، ولهم عذاب مقيم } . .
إن هذا المنهج المتكامل يأخذ النفس البشرية من أقطارها جميعاً ؛ ويخاطب الكينونة البشرية من مداخلها جميعاً ؛ ويلمس أوتارها الحية كلها وهو يدفعها إلى الطاعة ويصدها عن المعصية . . إن الهدف الأول للمنهج هو تقويم النفس البشرية وكفها عن الانحراف . والعقوبة وسيلة من الوسائل الكثيرة . وليست العقوبة غاية ، كما أنها ليست الوسيلة الوحيدة .
وهنا نرى أنه يبدأ هذا الشوط بنبأ ابني آدم - بكل ما فيه من موحيات - ثم يثني بالعقوبة التي تخلع القلوب . ثم يعقب بالدعوة إلى تقوى الله وخشيته والخوف من عقابه . ومع الدعوة التصوير الرعيب للعقاب . .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } . .
فالخوف ينبغي أن يكون من الله . فهذا هو الخوف اللائق بكرامة الإنسان . أما الخوف من السيف والسوط فهو منزلة هابطة . لا تحتاج إليها إلا النفوس الهابطة . . والخوف من الله أولى وأكرم وأزكى . . على أن تقوى الله هي التي تصاحب الضمير في السر والعلن ؛ وهي التي تكف عن الشر في الحالات التي لا يراها الناس ، ولا تتناولها يد القانون . وما يمكن أن يقوم القانون وحده - مع ضرورته - بدون التقوى ؛ لأن ما يفلت من يد القانون حينئذ أضعاف أضعاف ما تناله . ولا صلاح لنفس ، ولا صلاح لمجتمع يقوم على القانون وحده ؛ بلا رقابة غيبية وراءه ، وبلا سلطة إلهية يتقيها الضمير .
اتقوا الله ؛ واطلبوا إليه الوسيلة ؛ وتلمسوا ما يصلكم به من الأسباب . . وفي رواية عن ابن عباس : ابتغوا إليه الوسيلة ؛ أى ابتغوا إليه الحاجة . والبشر حين يشعرون بحاجتهم إلى الله وحين يطلبون عنده حاجتهم يكونون في الوضع الصحيح للعبودية أمام الربوبية ؛ ويكونون - بهذا - في أصلح أوضاعهم وأقربها إلى الفلاح . وكلا التفسيرين يصلح للعبارة ؛ ويؤدي إلى صلاح القلب ، وحياة الضمير ، وينتهي إلى الفلاح المرجو .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُوَاْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } . .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعدهم من الثواب ، وأوعد من العقاب اتّقُوا اللّهَ يقول : أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك ، وحققوا إيمانكم وتصديقكم ربكم ونبيكم بالصالح من أعمالكم . وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ يقول : واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه . والوسيلة : هي الفعلية من قول القائل : توسلت إلى فلان بكذا ، بمعنى : تقرّبت إليه ، ومنه قول عنترة :
إنّ الرّجالَ لهُمْ إلَيْكِ وَسِيلَةٌ ***أنْ يأْخُذُوكِ تَكَحّلِي وتَخَضّبِي
يعني بالوسيلة : القُرْبة . ومنه قول الاَخر :
إذا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنا لِوَصْلِنا ***وَعادَ التّصَافِي بَيْنَنا وَالوَسائِلُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ( ح ) ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي وائل : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلةَ قال : القربة في الأعمال .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ( ح ) ، وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن طلحة ، عن عطاء : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : القُربة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : هي المسألة والقربة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَابْتَغُواإلَيْهِ الوَسِيلَةَ : أي تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ : القربة إلى الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : القربة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قوله : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : القربة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : المحبة ، تحببوا إلى الله . وقرأ : أولَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوَسِيلَةَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلكُمْ تُفْلِحُونَ .
يقول جلّ ثناؤه للمؤمنين به وبرسوله : وجاهدوا أيها المؤمنون أعدائي وأعداءكم في سبيلي ، يعني : في دينه وشريعته التي شرعها لعباده ، وهي الإسلام ، يقول : أتعبوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في الحنيفية المسلمة لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يقول : كيما تنجحوا فتدركوا البقاء الدائم ، والخلود في جناته . وقد دللنا على معنى الفلاح فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي ، من وسل إلى كذا إذا تقرب إليه وفي الحديث " الوسيلة منزلة في الجنة " . { وجاهدوا في سبيله } بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة . { لعلكم تفلحون } بالوصول إلى الله سبحانه وتعالى والفوز بكرامته .
اعتراض بين آيات وعيد المحاربين وأحكام جزائهم وبين ما بعده من قوله : { إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً } [ المائدة : 36 ] الآية . خاطب المؤمنين بالتّرغيب بعد أن حذّرهم من المفاسد ، على عادة القرآن في تخلّل الأغراض بالموعظة والتّرغيب والتّرهيب ، وهي طريقة من الخطابة لاصطياد النّفوس ، كما قال الحريري : « فلمّا دَفنوا الميْتْ ، وفاتَ قول ليتْ ، أقبل شَيخ من رِباوَة ، متأبّطاً لهراوة ، . فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون ، إلخ . فعُقّب حكم المحاربين من أهل الكفر بأمر المؤمنين بالتّقوى وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله . وقابل قتالاً مذموماً بقتال يحمد فاعله عاجلاً وآجلاً » .
والوسيلة : كالوصيلة . وفعل وَسَل قريب من فعل وَصَلَ ، فالوسيلة : القُربة ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ، أي متوسّل بها أي اتبعوا التقرّب إليه ، أي بالطاعة .
و { إليه } متعلّق ب { الوسيلة } أي الوسيلة إلى الله تعالى . فالوسيلة أريد بها ما يبلغ به إلى الله ، وقد علم المسلمون أنّ البلوغ إلى الله ليس بلوغ مسافة ولكنّه بلوغ زلفى ورضى . فالتّعريف في الوسيلة تعريف الجنس ، أي كلّ ما تعلمون أنّه يقرّبكم إلى الله ، أي ينيلكم رضاه وقبول أعمالكم لديه . فالوسيلة ما يقرّب العبد من الله بالعمل بأوامره ونواهيه . وفي الحديث القُدسي : " ما تَقَرّب إلَيّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه " الحديث . والمجرور في قوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } متعلّق ب { ابتغوا } . ويجوز تعلّقه ب { الوسيلة } ، وقدم على متعلّقه للحصر ، أي لا تتوسّلوا إلاّ إليه لا إلى غيره فيكون تعريضاً بالمشركين لأنّ المسلمين لا يظنّ بهم ما يقتضي هذا الحصر .