محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (35)

/ [ 35 ] { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ( 35 ) } .

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا } - أي اطلبوا- { إليه الوسيلة } أي : القربة- كذا فسره ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وزيد وعطاء والثوري وغير واحد ، وقال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه . وقرأ ابن زيد : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } . قال ابن كثير : وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة ، لا خلاف بين المفسرين فيه . وفي ( القاموس وشرحه ) : الوسيلة والواسلة ، المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة . وقال الجوهري : الوسيلة ، ما يتقرب به إلى الغير . والتوسيل والتوسل واحد . يقال : وسل إلى الله تعالى توسيلا ، عمل عملا تقرب به إليه ، كتوسل . و ( إلى ) يجوز أن يتعلق ب { ابتغوا } وأن يتعلق ب { الوسيلة } . قدم عليها للاهتمام به { وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون } أي : بسبب المجاهدة في سبيله . وقد بين كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس .

تنبيه :

ما ذكرناه في تفسير { الوسيلة } هو المعول عليه . وقد أوضحه إيضاحا لا مزيد عليه ، تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة في ( كتاب الوسيلة ) فرأينا نقل شذرة منه ، إذ لا غنى للمحقق في علم التفسير عنه .

قال رحمه الله بعد مقدمات :

إن لفظ الوسيلة والتوسل ، فيه إجمال واشتباه ، يجب أن تعرف معانيه ويعطي كل ذي حق حقه . فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه . وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك . ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه . فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها ، / حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب . فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } . وفي قوله تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }{[3001]} . فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه ، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه ، هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات . فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب ، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك ، سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا . فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب واستحباب . وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول . فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها ، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول ، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك .

و ( الثاني ) لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم{[3002]} : " سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله . وأرجوا أن أكون أنا ذلك العبد . فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة " . وقوله : " من قال حين يسمع النداء{[3003]} : اللهم  ! رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة  ! آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة " . فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم / خاصة . وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة . وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله . وهو يرجوا أن يكون ذلك العبد . وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول صلى الله عليه وسلم . وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة . لأن الجزاء من جنس العمل . فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم فإن الشفاعة نوع من الدعاء . كما قال{[3004]} : " إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا " . وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم : والتوجه به في كلام الصحابة ، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته . والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به . كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح . فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين . ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة . فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء ، فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته . والثاني دعاؤه وشفاعته كما تقدم . فهذان جائزان بإجماع المسلمين . ومن هذا قول عمر بن الخطاب{[3005]} : " اللهم  ! إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " . أي : بدعائه وشفاعته . وقوله تعالى : { وابتغوا إليه الوسيلة } أي : القربة إليه بطاعته . وطاعة رسوله طاعته ؛ قال تعالى{[3006]} : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . فهذا التوسل الأول هو أصل الدين ، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين . وأما التوسل بدعائه وشفاعته- كما قال عمر- فإنه توسل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ؛ / ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس . فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس ، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته . بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له ، فإنه مشروع دائما . فلفظ التوسل يراد به ثلاث معان : ( أحدهما ) التوسل بطاعته . فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به . و ( الثاني ) التوسل بدعائه وشفاعته . وهذا كان في حياته ، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته . و ( الثالث ) التوسل به . بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته . فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته ، لا عند قبره ولا غير قبره . ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم . وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة . أو عن من ليس قوله حجة ، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه ؛ إنه لا يجوز . ونهوا عنه حيث قالوا : لا يسأل بمخلوق ، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك . قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى ب ( شرح الكرخي ) في باب الكراهة : وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة . قال بشر بن الوليد : حدثنا أبو يوسف قال : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو إلا به . وأكره أن يقول : بمعاقد العز من عرشك ، أو بحق خلقك . وهو قول أبي يوسف . قال أبو يوسف : بمعقد العز من عرشه هو الله . فلا أكره هذا . وأكره أن يقول : بحق فلان ، أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام .

قال القدوري : المسألة بخلقه لا تجوز . لأنه لا حق للخلق على الخالق . فلا تجوز وفاقا .

وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه- من أن الله لا يسأل بمخلوق- له معنيان : أحدهما هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق ، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق ، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق ، أولى وأحرى . وهذا بخلاف / إقسامه سبحانه بمخلوقاته- ك { الليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى }{[3007]} ، { والشمس وضحاها }{[3008]} ، { والنازعات غرقا }{[3009]} ، { والصافات صافا }{[3010]} – فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ، ما يحسن معه إقسامه . بخلاف المخلوق ، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها . كما في ( السنن ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال{[3011]} : " من حلف بغير الله فقد أشرك " . وقد صححه الترمذي وغيره . وفي لفظ " " فقد كفر " . وقد صححه الحاكم . وقد ثبت عنه في ( الصحيحين ) {[3012]} أنه قال : " من كان حالفا فليحلف بالله " . وقال : " لا تحلفوا بآبائكم . فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " . وفي ( الصحيحين ) عنه أنه / قال{[3013]} : " من حلف باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله " . وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة ، أو بما يعتقد هو حرمته- كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وسراويل الفتوة وغير ذلك . . . - لا ينعقد يمينه ، ولا كفارة في الحنث بذلك .

والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد . وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك . انتهى .


[3001]:- [17/ الإسراء/ 56 و57].
[3002]:- أخرجه مسلم في: 4- كتاب الصلاة، حديث 11 (طبعتنا) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
[3003]:- أخرجه البخاري في: 10- كتاب الأذان، 8- باب الدعاء عند النداء، حديث 392، عن جابر بن عبد الله.
[3004]:- أخرجه مسلم في: 4- كتاب الصلاة، حديث 11 (طبعتنا) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ضمن حديث طويل.
[3005]:- أخرجه البخاري في: 15- كتاب الاستسقاء، 3- باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث 572.
[3006]:- [4/ النساء/ 80] ونصها: {... ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80)}.
[3007]:- [92/ الليل/ 1 و2] ونصها: {والليل إذا يغشى (1) والنهار إذا تجلى}.
[3008]:- [91/ الشمس/ 1].
[3009]:- [79/ النازعات/ 1].
[3010]:- [37/ الصافات/ 1].
[3011]:- أخرجه الترمذي في: 18- كتاب النذور، 9- حدثنا قتيبة، ونصه: عن ابن عمر سمع رجلا يقول: لا، والكعبة ! فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
[3012]:- أخرجه البخاري في: 63- كتاب مناقب الأنصار، 26- باب أيام الجاهلية، حديث 1298 ونصه: عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا من كان حالفا، فلا يحلف إلا بالله" وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال: "لا تحلفوا بآبائكم". وأخرجه مسلم في: 27- كتاب الأيمان، حديث 3 و4 (طبعتنا).
[3013]:- أخرجه البخاري في: 83- كتاب الأيمان والنذور، 5 باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت، حديث 2052 ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق". وأخرجه مسلم في: 27- كتاب الأيمان، حديث 5 (طبعتنا).