اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (35)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{[11648]} }

في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان :

أحدهما : أنَّه لما أخبر رسُولَه صلى الله عليه وسلم أن قوماً من اليَهُود هَمُّوا أن يَبْسُطُوا أيديهم إلى الرَّسُول وإلى أصحابه بالغدر والمكر ، ومَنَعَهُم الله تعالى من مُرَادهم ، وشرح للرَّسُول شدَّة تَعَصُّبِهم على الأنْبِيَاء وإصْرَارهم على إيذَائهم ، وامتدَّ الكلامُ إلى هذا الموضع ، فعند هذا رَجَع إلى المَقْصُود الأوَّل وقال { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ [ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ ]{[11649]} } ، كأنه قيل : قد عَرَفْتُمْ كمال جَسَارَةِ اليَهُودِ على المَعَاصِي والذُّنُوب ، وبُعْدهم عن الطَّاعَات الَّتِي هي الوَسَائِلُ للعبد إلى الرَّبِّ ، فكُونُوا يا أيُّها المُؤمِنُون بالضَّدِّ من ذلك فاتَّقوا معَاصِي اللَّه ، وتوسَّلُوا إليه بالطَّاعات .

والثاني : أنهم لما قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .

أي : أبْنَاء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعْمَال آبَائِهِم كأنَّه{[11650]} تعالى قال : " يا أيها الذين آمنوا [ اتّقوا الله ]{[11651]} ولتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم ، فاتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " .

في قوله تعالى : " إليه " ثلاثةُ أوجُه :

أحدها : أنه مُتعلِّق بالفِعْل قبله .

الثاني : أنه متعلِّق بنفس " الوَسيلَة " .

قال أبو البقاء{[11652]} : لأنَّها بمعنى المتوسَّل به ، فلذلك عَمِلَت فيما قبلها .

يعني : أنَّها ليست بِمَصْدَر ، حتى يمتَنِع أن يتقدَّم مَعْمُولها عليها .

الثالث : أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حال من " الوَسِيلَة " ، وليس بالقَوِي .

و " الوسيلة " أي : القُرْبة ، فَعِيلَة مِنْ توسَّل إليه فلانٍ بكذا إذا تقرَّب إليه ، وجمعها : وَسَائِل .

قال لبيد : [ الطويل ]

أرى النَّاسَ لا يَدْرُونَ ما قَدْرُ أمْرِهِمْ *** ألاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلى الله وَاسلُ{[11653]}

أي : متوسّل ، فالوسِيلة هي التي يتوسَّلُ بها إلى المَقْصُودِ .

فصل

قال ابن الخطيب{[11654]} : التَّكْلِيفُ نوعان : ترك المَنْهِيَّات : وهو قوله تعالى " اتَّقُوا الله " ، وفعل الطَّاعات : وهو قوله { وابْتَغُوا إليْهِ الوسِيلَة } ، والتَّرك مُقَدَّم على الفِعْل بالذَّات ؛ لأنه بَقَاء على العَدَم [ الأصلي ]{[11655]} ، والفعل إيجاد وتَحْصِيل ، والعَدَمُ سابق ، ولذلك قُدِّمَت التَّقْوى فإن قيل : لِمَ اختصّت الوسِيلَة بالفعل ، مع أنَّ ترك المَعَاصي قد يكون وَسِيلة ؟

فالجوابُ : أن التَّرك بقاء على العدم ، وذلك لا يُمْكِن التَّوَسُّل به ، بل من دَعَتْهُ الشهْوة [ إلى فعل القَبِيح ]{[11656]} ، فتركه مرضاة اللَّه حصل التَّوسُّل إلى اللَّه بذلك الامْتِنَاع ، لكنَّه من باب الأفْعَال ، ولذلك قال المُحَقِّقُون : تَرْك [ الشَّيء ]{[11657]} عبارة عن فعل ضِدِّه .

ثم قال - تعالى - : { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، لمّا أمر بِتَرْك ما لا يَنْبَغِي بقوله : " اتَّقُوا اللَّه " وفعل ما يَنْبَغِي بقوله { وابْتَغُوا إلَيه الوَسِيلة } وكل واحد منهما شاقٌّ ثَقِيل على النَّفْس فإن النَّفْس تَدْعُو إلى اللَّذَّات المَحْسُوسَة ، والعَقْل يدعو إلى خِدْمَة اللَّه وطاعتهِ والإعْرَاض عن المَحسُوسَات ؛ فكان بَيْن الحَالَتيْن تضَادٌّ وتناف ، وإذا كان الأمْر كذلك فالانْقِيَادُ لقوله تعالى { وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } من أشقِّ الأشْيَاء على النَّفْس وأشدها ثقلا على الطَّبع ، فلهذا أرْدَف ذلك التَّكْليف بقوله { وجاهدوا في سبيل الله لعلكم تفلحون } ، ولمّا أرشد المُؤمِنِين في هذه الآية إلى معاقدِ الخَيْرَات ومَفَاتِح السَّعاداتِ ، أتْبَعَهُ بشرح حَالِ الكُفَّار .


[11648]:سقط في أ.
[11649]:سقط في أ.
[11650]:في أ: فقال.
[11651]:سقط في أ.
[11652]:ينظر: الإملاء 1/215.
[11653]:ينظر: البيت في ديوانه (256)، وينظر: الكشاف 1/628.
[11654]:ينظر: تفسير الرازي 11/173.
[11655]:سقط في أ.
[11656]:في أ: للقبيح.
[11657]:سقط في أ.