الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (35)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة}: في طاعته بالعمل الصالح، {وجاهدوا} العدو {في سبيله}: في طاعته، {لعلكم}: لكي {تفلحون}: تسعدون، ويقال: تفوزون.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعدهم من الثواب، وأوعد من العقاب "اتّقُوا اللّهَ": أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك، وحققوا إيمانكم وتصديقكم ربكم ونبيكم بالصالح من أعمالكم.

"وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ": واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه. والوسيلة: هي الفعلية من قول القائل: توسلت إلى فلان بكذا، بمعنى: تقرّبت إليه... عن قتادة قوله: "وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ": أي تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.

"وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلكُمْ تُفْلِحُونَ": وجاهدوا أيها المؤمنون أعدائي وأعداءكم في سبيلي، يعني: في دينه وشريعته التي شرعها لعباده، وهي الإسلام، يقول: أتعبوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في الحنيفية المسلمة "لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ": كيما تنجحوا فتدركوا البقاء الدائم، والخلود في جناته. وقد دللنا على معنى الفلاح فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} أي ابتغوا بتقوى الله عن معاصيه القربة، والوسيلة: القربة. وكذلك الزلفة. يقال: توسل إلي بكذا أي تقرب،... وقوله تعالى: {وجاهدوا في سبيله} الآية؛ يحتمل هذا وجهين: أحدهما: {جاهدوا} أنفسكم في صرفها عن معاصيه إلى طاعته... والثاني: {وجاهدوا} مع أنفسكم وأموالكم أعداء الله في نصرة دينه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ابتغاء الوسيلة: التبري عن الحول والقوة، والتحقق بشهود الطول والمِنَّة. ويقال ابتغاء الوسيلة هو التقريب إليه بما سبق لك من إحسانه. ويقال ابتغاء الوسيلة: استدامة الصدق في الولاء إلى آخر العمر. ويقال ابتغاء الوسيلة: تجريد الأعمال عن الرياء، وتجريد الأحوال عن الإعجاب، وتخليص النَّفْسِ عن الحظوظ...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه الآية وعظ من الله تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعظ لأنه يرد على النفوس وهي خائفة وجلة، وعادة البشر إذا رأى وسمع أَمْرَ مُمَتحَن ببشيع المكاره أن يرق ويخشع، فجاء الوعظ في هذه الحال، {ابتغوا} معناه اطلبوا، و {الوسيلة} القربة وسبب النجاح في المراد.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في النظم وجهان: الأول: اعلم أنا قد بينا أنه تعالى لما أخبر رسوله أن قوما من اليهود هموا أن يبسطوا أيديهم إلى الرسول وإلى إخوانه من المؤمنين وأصحابه بالغدر والمكر ومنعهم الله تعالى عن مرادهم، فعند ذلك شرح للرسول شدة عتيهم على الأنبياء وكمال إصرارهم على إيذائهم، وامتد الكلام إلى هذا الموضع، فعند هذا رجع الكلام إلى المقصود الأول وقال: {يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} كأنه قيل: قد عرفتم كمال جسارة اليهود على المعاصي والذنوب وبعدهم عن الطاعات التي هي الوسائل للعبد إلى الرب، فكونوا يا أيها المؤمنون بالضد من ذلك، وكونوا متقين عن معاصي الله، متوسلين إلى الله بطاعات الله.

الوجه الثاني في النظم: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} أي نحن أبناء أنبياء الله، فكان افتخارهم بأعمال آبائهم، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم، فاتقوا وابتغوا إليه الوسيلة، والله أعلم.

المسألة الثانية: اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما: أحدهما: ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله {اتقوا الله} وثانيهما: فعل المأمورات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة} ولما كان ترك المنهيات مقدما على فعل المأمورات بالذات لا جرم قدمه تعالى عليه في الذكر. وإنما قلنا: إن الترك مقدم على الفعل لأن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصلي، والفعل هو الإيقاع والتحصيل، ولا شك أن عدم جميع المحدثات سابق على وجودها؛ فكان الترك قبل الفعل لا محالة...

{وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان، منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر. والمقام الأول: هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله {وجاهدوا في سبيله} أي من سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته. والمقام الثاني: دون الأول، وإليه الإشارة بقوله {لعلكم تفلحون} والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

وقيل: معنى الوسيلة: المحبة أي تحببوا إلى الله عز وجل.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بالطاعة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}..والوسيلة: هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود. والوسيلة أيضًا: علم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش..

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

الوجه في التناسب عندي أن يبنى على أسلوب القرآن الذي امتاز به على سائر الكلام، من حيث كونه مثاني للهداية والموعظة والعبرة، لا تبلى جدته، ولا تمل قراءته، والركن الأول لهذا الأسلوب أن يكون الكلام في كل موضوع مختصرا مفيدا تتخلله أسماء الله وصفاته والتذكير بوحدانيته، ووجوب تقواه والإخلاص له والتوجه إليه وحده، وبالدار الآخرة والجزاء فيها على الأعمال. فبناء على هذا الأسلوب قفى الله تعالى على قصة ابني آدم وما ناسبها من بيان حدود الذين يبغون على الناس ويفسدون في الأرض- بالأمر بالتقوى ومنها اتقاء الحد والبغي والفساد الذي هو سبب الخزي والعذاب في الدنيا ولآخرة – وبابتغاء الوسيلة إليه تعالى والجهاد في سبيله، رجاء الفلاح والفوز بالسعادة- ووعيد الكفار الذين لا يتقون الله ولا يتوسلون إليه لما يرضيه فقال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ} اتقاء الله هو اتقاء سخطه وعقابه، وسخطه وعقابه أثر لازم لمخالفة سننه في الأنفس والأفاق، ومخالفة دينه وشرعه الذي يعرج بالأرواح إلى سماء الكمال، والوسيلة إليه هي ما يتوسل به إليه، أي ما يرجى أن يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه، واستحقاق المثوبة في دار الكرامة، ولا يعرف ذلك على الوجه الصحيح إلا بتعريفه تعالى، وقد تفضل علينا بهذا التعريف بوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الراغب: والوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوسيلة، يتضمنها معنى الرغبة... وحقيقة الوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة. اه وروي تفسير الوسيلة بالقربة عن حذيفة وصححه الحاكم عنه. ورواه ابن جرير عن عطاء ومجاهد والحسن وعبد الله بن كثير، وروى هو وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية أنه قال: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وروي عن ابنه زيد تفسيرها بالمحبة قال: أي تحببوا إلى الله، وقرأ {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} [الإسراء: 57] وعن السدي أنها المسألة والقربة. وروى ابن الأنباري أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الوسيلة فقال الحاجة... وتفسير الوسيلة بما فسرناها به أعم، وهو المطابق للغة. قال في لسان العرب: الوسيلة في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به إليه، وذلك بعد أن نفسر الوسيلة بالمنزلة عند الملك وبالقربة. وقال: وسل فلان إلى الله وسيلة، إذا عمل عملا تقرب به إليه.

ثم ذكر من معانيها الوصلة والقربى وإنما يؤخذ عن أهل اللغة أصل المعنى ويرجح به بعض التفسير المأثور على بعض. وللوسيلة معنى في الحديث غير معناها هنا.

روى أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء أي الإذن: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته: حلت له شفاعتي يوم القيامة) وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة) وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوسيلة يؤيده قول نقلة اللغة إن من معانيها المنزلة عند الملك. فيظهر أن هذه الوسيلة الخاصة هي أعلى منازل الجنة. فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كافأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشفاعة وهي دعاء أيضا. والجزاء من جنس العمل. فالوسيلة في الحديث اسم لمنزلة في الجنة معينة، وفي القرآن اسم لكل ما يتوصل به إلى مرضاة الله من علم وعمل.

{وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن الأهواء، وحملها على التزام الحق في جميع الأحوال، وجاهدوا أعداء الإسلام، الذين يقاومون دعوته وهدايته للناس. فالجهاد من الجهد وهو المشقة والتعب، وسبيل الله هي طريق الحق والخير والفضيلة، فكل جهد يحمله الإنسان في الدفاع عن الحق والخير والفضيلة، أو في تقديرها وحمل الناس عليها، فهو في سبيل الله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اتقوا ما يجب تركه، وابتغوا ما يجب فعله. من أسباب مرضاة الله وقربه، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيله، رجاء الفوز والفلاح، والسعادة في المعاش والمعاد.

فصل في التوسل والوسيلة عند عامة المتأخرين:

بينا معنى الوسيلة في الآية وما قاله رواة التفسير المأثور عن السلف فيها. ولم يؤثر عن صحابي ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أو عامتهم أن الوسيلة إلى الله تعالى تبتغى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل ومنه الدعاء. إلا كلمة رويت عن الإمام مالك لم تصح عنه بل صح عنه ما ينافيها. وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين والمتقين، أي تسميتهم وسائل إلى الله تعالى، والإقسام على الله بهم، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم وحال البعد عنها. وشاع هذا وكثر حتى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم مع الله تعالى، أو يدعونهم من دون الله تعالى. و (الدعاء هو العبادة) كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن النعمان بن بشير، والله تعالى يقول: {فلا تدعوا مع الله أحد} [الجن:18] ويقول: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} [الأعراف:194] ويقول: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير. إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم. ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر:13، 14] لكن بعض المصنفين زعم أنهم يسمعون، ويستجيبون للداعي، والعوام يأخذون بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى لعموم الجهل، ومن المشتغلين بالعلم من يتأول لهم بأن هذا من التوسل بهم. وقد حقق شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الموضوع بجميع فروعه، فكان ما كتبه في ذلك مصنفا حافلا أطلق عليه اسم (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)..

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذا أمر من الله لعباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله والحذر من سخطه وغضبه، وذلك بأن يجتهد العبد، ويبذل غاية ما يمكنه من المقدور في اجتناب ما يَسخطه الله، من معاصي القلب واللسان والجوارح، الظاهرة والباطنة. ويستعين بالله على تركها، لينجو بذلك من سخط الله وعذابه. {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي: القرب منه، والحظوة لديه، والحب له، وذلك بأداء فرائضه القلبية، كالحب له وفيه، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل. والبدنية: كالزكاة والحج. والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها، من أنواع القراءة والذكر، ومن أنواع الإحسان إلى الخلق بالمال والعلم والجاه، والبدن، والنصح لعباد الله، فكل هذه الأعمال تقرب إلى الله. ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي [بها] ويستجيب الله له الدعاء. ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه، الجهاد في سبيله، وهو: بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال، والنفس، والرأي، واللسان، والسعي في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد، لأن هذا النوع من أجل الطاعات وأفضل القربات. ولأن من قام به، فهو على القيام بغيره أحرى وأولى {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إذا اتقيتم الله بترك المعاصي، وابتغيتم الوسيلة إلى الله، بفعل الطاعات، وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته. والفلاح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب، والنجاة من كل مرهوب، فحقيقته السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فالخوف ينبغي أن يكون من الله. فهذا هو الخوف اللائق بكرامة الإنسان. أما الخوف من السيف والسوط فهو منزلة هابطة. لا تحتاج إليها إلا النفوس الهابطة.. والخوف من الله أولى وأكرم وأزكى.. على أن تقوى الله هي التي تصاحب الضمير في السر والعلن؛ وهي التي تكف عن الشر في الحالات التي لا يراها الناس، ولا تتناولها يد القانون. وما يمكن أن يقوم القانون وحده -مع ضرورته- بدون التقوى؛ لأن ما يفلت من يد القانون حينئذ أضعاف أضعاف ما تناله. ولا صلاح لنفس، ولا صلاح لمجتمع يقوم على القانون وحده؛ بلا رقابة غيبية وراءه، وبلا سلطة إلهية يتقيها الضمير. {وابتغوا إليه الوسيلة}.. اتقوا الله؛ واطلبوا إليه الوسيلة؛ وتلمسوا ما يصلكم به من الأسباب.. وفي رواية عن ابن عباس: ابتغوا إليه الوسيلة؛ أي ابتغوا إليه الحاجة. والبشر حين يشعرون بحاجتهم إلى الله وحين يطلبون عنده حاجتهم يكونون في الوضع الصحيح للعبودية أمام الربوبية؛ ويكونون -بهذا- في أصلح أوضاعهم وأقربها إلى الفلاح. وكلا التفسيرين يصلح للعبارة؛ ويؤدي إلى صلاح القلب، وحياة الضمير، وينتهي إلى الفلاح المرجو. {لعلكم تفلحون}..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

اعتراض بين آيات وعيد المحاربين وأحكام جزائهم وبين ما بعده من قوله: {إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً} [المائدة: 36] الآية. خاطب المؤمنين بالتّرغيب بعد أن حذّرهم من المفاسد، على عادة القرآن في تخلّل الأغراض بالموعظة والتّرغيب والتّرهيب، وهي طريقة من الخطابة لاصطياد النّفوس، كما قال الحريري: « فلمّا دَفنوا الميْتْ، وفاتَ قول ليتْ، أقبل شَيخ من رِباوَة، متأبّطاً لهراوة،. فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، إلخ. فعُقّب حكم المحاربين من أهل الكفر بأمر المؤمنين بالتّقوى وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله. وقابل قتالاً مذموماً بقتال يحمد فاعله عاجلاً وآجلاً».

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} النداء موجه للمؤمنين بوصف أنهم مؤمنون، لأن مقتضى الإيمان أن يربوا أنفسهم على الخير، وينزعوا منها نوازع الشر، وقد ذكر سبحانه وتعالى الطريق لتربية النفس وتغليب جانب الخير فيها على جانب الشر، وجانب الصلاح على جانب الفساد، وتلك الطريق المثلى مكونة من نقط ثلاث يتكون منها الخط المستقيم الموصل للغاية الفضلى، وهذه النقط الثلاث هي التقوى وابتغاء الوسيلة، والجهاد في سبيله والغاية الحسنى هي الفلاح في الدنيا والآخرة، ولنشر بكلمة موجزة إلى معاني التربية في كل نقطة من هذه النقط. {اتقوا الله} أي: اجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، بحيث تكون نفوسكم في حصن لا يدخل إليها الشر وهي فيه، وهذا الحصن هو التقوى التي تملأ القلب بذكر الله تعالى فلا تحس النفس إلا به سبحانه مسيطرا على كل ما في هذا الوجود، وتحس به رقيبا لا تخفى عليه خافية من خلجاتها، يعلم ما يخفي كل إنسان وما يعلن، وما يسر به وما يجهر، فيتجه إليه سبحانه وتعالى كأنه يرى ربه في كل عمل يعمله، فإن لم يكن يراه سبحانه فإنه يراه، كما قال النبي صلى الله عليه ونسلم:"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ولا شك أن النفس إذا امتلأت بالتقوى ذلك الامتلاء، جانبها الهوى والحقد والحسد، وحب الاستعلاء الباطل، وصار صاحبها ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى في أوصاف أهل الإيمان: {...لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا... (83)} (القصص). {وابتغوا إليه الوسيلة} هذه هي النقطة الثانية من الخط المستقيم الذي لا عوج فيه، فالنقطة الأولى ملء القلب بذكر الله تعالى وخشيته وجعلها دائما في إحساس برقابته، وإنه يترتب على إدراك هذا الجزء من الخط المستقيم الوصول إلى النقطة الثانية، وهي طلب ما يتوسل به إليه لنيل رضاه وإدراك حق طاعته، فالوسيلة: هي ما يتوسل بها إلى رضا الله تعالى، وهي طاعته راغبا فيها محبا لها، قاصدا إليها، وزكى لذلك طلبها بقوله تعالى: {وابتغوا} أي اطلبوا رضاه وطاعته سبحانه طلب من يحبه ويبغيه لثواب، وتلك أعلى الدرجات ومن دون ذلك له فضل كبير ما دام قد طلب رضا الله تعالى.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يأتي بأمور الدين كأبواب منفصلة، باب للصلاة، وآخر للصوم وثالث للزكاة لا بل يمزج كل ذلك في عجينة واحدة، ولذلك فعندما أنزل بالمفسدين المحاربين لله عقاب التقتيل والتصليب والتقطيع والنفي كان ذلك لتربية مهابة الرعب في النفس البشرية، وساعة يستيقظ الرعب في النفس البشرية يقول الحق:

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (35)}.

لقد أخرجنا من جو صارم وحديث في عقوبات إلى تقوى الله والتقوى كما نعرف أن يجعل الإنسان بينه وبين ما يؤذيه وقاية.

وعرفنا أن الحق سبحانه الذي يقول: "اتقوا الله "هو بعينه الذي يقول "اتقوا النار"، وعرفنا كيف نفهم تقوى الله بأن نجعل بيننا وبين الله وقاية، وإن قال قائل: إن الحق سبحانه يطلب منا أن نلتحم بمنهجه وأن نكون دائما في معيته، فلنجعل الوقاية بيننا وبين عقابه ومن عقابه النار.

إذن فقوله الحق:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله "أي أن نتقي صفات الجلال، والنار من خلق الله وجنده وقوله سبحانه:"وابتغوا إليه الوسيلة "أي نبحث عن الوصلة التي توصلنا إلى طاعته ورضوانه وإلى محبته وهل هناك وسيلة إلا ما شرعه الله سبحانه وتعالى؟ وهل يتقرب إنسان إلى أي كائن إلا بما يعلم أنه يحبه؟.

وعلى المستوى البشري نحن نجد من يتساءل: ماذا يحب فلان؟ فيقال له: فلان يحب ربطات العنق، فيهديه عددا من ربطات العنق، ويقال أيضا: فلان يحب المسبحة الجيدة فيحضر له مسبحة رائعة، إذن كل إنسان يتقرب إلى أي كائن بما يحب، فما بالنا بالتقرب إلى الله؟ وما يحبه سبحانه أوضحه لنا في حديثه القدسي:"من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه).

فالحق سبحانه وتعالى يفسح الطريق أمام العبد فيقول سبحانه في الحديث القدسي: (ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل).

أي أن العبد يتقرب إلى الله بالأمور التي لم يلزمه الحق بها ولكنها من جنس ما افترضه سبحانه فلا ابتكار في العبادات إذن فابتغاء الوسيلة من الله هي طاعته والقيام على المنهج في "افعل "و "لا تفعل".

والوسيلة عندنا أيضا هي منزلة من منازل الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم طلب منا أن نسأل الله له الوسيلة فقال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)...

" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون" ولنر الإيثار الإيماني الذي يرد الحق أن يربيه في النفس المؤمنة بتقوى الله التي تتمثل في الابتعاد عن محارمه وابتغاء الوسيلة إلى الله في إتباع أوامره.

إن الدين لم يأتك من أجل نفسك فحسب، ولكن إيمانك لن يصبح كاملا إلا أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، فإن كنت قد أحببت لنفسك أن تكون على المنهج فاحرص جيدا على أن يكون ذلك لإخوانك أيضا، وإخوانك المؤمنون ليسوا هم فقط الذين يعيشون معك، ولكن هم المقدر لهم أن يوجدوا من بعد ذلك، ولذلك عليك أن تجاهد في سبيل الله لتعلو كلمة الله وهكذا تتسع الهمة الإيمانية فلا تنحصر في النفس أو المعاصرين للإنسان المؤمن ولذلك يضع لنا حق الطريق المستقيم ويوضحه ويبينه لنا.

وكانت بداية الطريق أن المؤمن بالله حينما وثق بأن لله نعيما وجزاء في الآخرة هو خير مما يعيشه قدم دمه واستشهد لذلك قال صحابي جليل: أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فإما أن أقتلهم وإما أن يقتلوني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.

وألقى الصحابي تمرات كان يأكلها ودخل المعركة.

لا بد إذن أنه قد عرف أن الحياة التي تنتظره خير من الحياة التي يعيشها ومع ذلك لم يضع الله الجهاد كوسيلة في أول الأمر، بل ظل يأمرهم بالانتظار والصبر حتى يربي من يحملون الدعوة، فلن يجعلها سبحانه عملية انتحارية.

وبعد ذلك نرى أثناء رحلة الدعوة للإسلام أن صحابيا يحزن لأنه في أثناء القتال قد أفلت منه عمرو بن العاص، وأن خالد بن الوليد قد هرب وتثبت الأيام أن البشر لا يعرفون أن علم الله قد ادخر خالدا وأنجاه من سيف ذلك الصحابي من أجل أن ينصر الإسلام بخالد، وكذلك عمرو بن العاص قد ادخره الله إلى نصر آخر للإسلام.

إذن فالجهاد في سبيل الله ضمان للمؤمن أن يظل المنهج الذي آمن به موصلا إلى أن تقوم الساعة وذلك لا يتأتى إلا بإشاعة المنهج في العالم كله والنفس المؤمنة إذا وقفت نفسها على أن تجاهد في سبيل الله كان عندها شيء من الإيثار الإيماني وتعرف أنها أخذت خير الإيمان وتحب أن توصله إلى غيرها ولا تقبل أن تأخذ خير الإيمان وتحرم منه المعاصرين لها في غير ديار الإسلام، وتحرص على أن يكون العالم كله مؤمنا، وإذا نظرنا إلى هذه المسألة نجدها تمثل الفهم العميق لمعنى الحياة، فالناس إذا كانوا أخيارا استفاد الإنسان من خيرهم كله، وإذا كانوا أشرارا يناله من شرهم شيء.

إذن فمن مصلحة الخير أن يشيع خيره في الناس، لأنه إن أشاع خيره فهو يتوقع أن ينتفع بجدوى هذا الخير وأن يعود عليه خيره، لأن الناس تأمن جانب الرجل الطيب ولا ينالهم منه شر، لأنه يحب أن يكون كل الناس طيبين وعلى ميزان الإيمان، لأنهم إن كانوا على ميزان الإيمان فالطيب يستفيد من خيرهم أما إن بقي الناس على شرهم وبقي الإنسان الطيب على خيره فسيظل خير الطيب مبذولا لهم ويظل شرهم مبذولا للطيب.

إذن من حكمة الإيمان أن "يعدي" الإنسان الخير للغير، وإن دعوة المؤمن إلى سبيل الله، ومن أجل انتشار منهج الله لا بد من الإعداد لذلك قبل اللقاء في ساحات المعارك فقبل اللقاء مع الخصم في ساحة المعركة لا بد من حسن الإعداد، وعندما يعد المؤمن نفسه يجد أن حركة الحياة كلها تكون معه، لأن الدعوة إلى الله تقتضي سلوكا طيبا، والسلوك الطيب ينتشر بين البشر، وهنا يقوي معسكر الإيمان فيرتقي سلوكا وعملا، وعندما يقوى معسكر الإيمان يمكنه أن يستخرج كنوز الأرض ويحمي أرض الإيمان بالتقدم الصناعي والعلمي والعسكري والحق يقول: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس (من الآية25سورة الحديد).

سبحانه أنزل القرآن وأنزل الحديد، ويتبع ذلك:

{وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} (من الآية25سورة الحديد).

وجاء معنى البأس من أجل ذلك، وهذا هو السبب الثاني الذي أوصانا به الحق:

إياكم أن تأخذوا منهج الله فقط الذي ينحصر في "افعل ولا تفعل" ولكن خذوا منهج الله بما يحمي منهج الله وهو التقدم العلمي باستخراج كنوز الأرض وتصنيعها كالحديد مثلا، فسبحانه كما أنزل القرآن يحمل المنهج، فقد أنزل الحديد وعلى الإنسان مهمة استنباط الحديد والمواد الخام التي تسهل لنا صناعة الأجهزة العلمية، ونقيم المصانع التي تنتج لنا من حديد فولاذا ونحول الفولاذ إلى دروع ونصنع أدق الأجهزة التي تهيئ للمقاتل فرصة النصر وكذلك ندخر المواد الغذائية لتكفي في أيام الحرب.

إذن حركة الحياة كلها جهاد، وإياك أن تقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة، ولكن أعد نفسك للمعركة، لأنك إن أعددت نفسك جيدا وعلم خصمك أنك أعددت له، ربما امتنع عن أن يحاربك والذي يمنع العالم الآن من معركة ساخنة تدمره هو الخوف من قبل الكتل المتوازنة لأن كل دولة تعد نفسها للحرب ولو أن قوة واحدة في الكون لهدمت الدنيا.

وقول الحق: "وجاهدوا في سبيله" نأخذه على أنه جهاد في سبيل منهج الله، وندرس هذا المنهج ونفهمه وبعد ذلك نجاهد فيه باللسان وبالسنان ونجاهد فيه بالكتاب ونجاهد فيه بالكتيبة.

إذن فقوله الحق: "وجاهدوا في سبيله" يصنع أمة إيمانية متحضرة حتى لا تترك الفرصة للكافر بالله ليأخذ أسباب الله وأسراره في الكون، فمن يعبد الإله الواحد أولى بسر الله في الوجود ولو فرضنا أنه لن تقوم حرب لكننا نملك المصانع التي تنتج، وعندنا الزراعة التي تكفي حاجات الناس، عندئذ سنحقق الكفاية وما لا تستعمله في الحرب سيعود على السلام، ويجب أن تفهموا أن كل اختراعات الحياة التقدمية تنشأ أولا لقصد الحرب، وبعد ذلك تهدأ النفوس وتأخذ البشرية هذه الإنجازات لصالح السلام.