قوله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } . الآية ، قيل : نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين . وقال الآخرون : نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلاً أربعة من المهاجرين ، حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش ، وسائرهم من الأنصار .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال : سألنا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما عن هذه الآية ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) . الآية قال : إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :أرواحهم كطير خضر . ويروى في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعةً فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا شيئاً قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان ، أنا جسعويه ، أنا صالح بن محمد ، أنا سليمان بن عمرو عن إسماعيل بن أمية عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إنه لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ورأوا ما أعد الله لهم من الكرامة ، قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم ، وما يصنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عنه ، فقال الله عز وجل : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ) . إلى قوله ( لا يضيع أجر المؤمنين ) .
وسمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي قال : سمعت الحسن بن أحمد القتيبي قال : سمعت محمد بن عبد الله بن يوسف قال : سمعت محمد بن إسماعيل البكري قال : سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال : سمعت موسى ابن إبراهيم قال : سمعت طلحة بن خراش قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا جابر ما لي أراك منكسراً ؟ قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالاً وديناً ، قال : أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : ما كلم الله تعالى أحداً إلى من وراء حجاب ، وأنه أحيا أباك فكلمه كفاحاً ، قال : يا عبدي تمن علي أعطك ! قال : يا رب أحيني فأقتل فيك الثانية ، قال الرب تبارك وتعالى إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون . فأنزلت فيهم ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ،
أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا حميد عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يموت ، له عند الله خير ، يحب أن يرجع إلى الدنيا ، وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرةً أخرى " . وقال قوم نزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة ، وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال : قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة -وكان سيد بني عامر بن صعصعة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى إليه هدية ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها ، وقال : لا أقبل هدية مشرك ، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك ، ثم عرض عليه الإسلام ، وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين ، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ، ولم يبعد وقال : يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أخشى عليهم أهل نجد . فقال أبو براء : أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء ابن الصلت السلمي ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، فساروا حتى نزلوا بئر معونة ، وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، فلما نزلوها قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال حرام بن ملحان أنا . فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال حرام بن ملحان : يا أهل بئر معونة إني رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله ، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جبنه حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ، ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا : لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقداً وجواراً ، ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سليمة عصية ورعلاً وذكوان فأجابوا فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث بين القتلى ، فضلوه فيهم فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر فقالا : والله إن لهذا الطير لشأناً ، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة ، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية : ماذا ترى ؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره ، فقال الأنصاري : الله أكبر ! لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، ثم قاتل القوم حتى قتل ، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل ، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه ، فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً . فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره . وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة ، فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول : من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه ؟ قالوا : هو عامر بن فهيرة ، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الأعلى بن حماد ، أنا يزيد بن زريع ، أنا سعيد عن قتادة ، عن أنس بن مالك أن رعلاً وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوهم فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل ، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب ، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان . قال أنس رضي الله عنه فقرأنا فيهم قرآناً ، ثم إن ذلك رفع ( بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) ثم نسخت فرفع بعدما قرأناه زماناً وأنزل الله تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ) الآية . وقيل : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء ، وقالوا نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ؟ فأنزل الله تعالى تنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم ( ولاتحسبن ) ولا تظنن . ( لذين قتلوا في سبيل الله ) . قرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد والآخرون بالتخفيف أمواتا كأموات من لم يقتل في سبيل الله .
قوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم } . قيل أحياء في الدين ، وقيل في الذكر ، وقيل لأنهم يرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء ، وقيل لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة ، وقيل لأن الشهيد لا يبلى في القبر ، ولا تأكله الأرض . وقال عبيد بن عمير : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من احد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، ألا فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم ، فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه . قوله تعالى : { يرزقون } . من ثمار الجنة وتحفها .
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }
هذه الآيات الكريمة{[172]} فيها فضيلة{[173]} الشهداء وكرامتهم ، وما منَّ الله عليهم به من فضله وإحسانه ، وفي ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم وتعزيتهم ، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة ، فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } أي : في جهاد أعداء الدين ، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله { أمواتا } أي : لا يخطر ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا ، وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها ، الذي يحذر من فواته ، من جبن عن القتال ، وزهد في الشهادة . { بل } قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون . فهم { أحياء عند ربهم } في دار كرامته .
ولفظ : { عند ربهم } يقتضي علو درجتهم ، وقربهم من ربهم ، { يرزقون } من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه ، إلا من أنعم به عليهم ،
قوله : { ولا تحسبن } عطف على { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت } [ آل عمران : 168 ] ، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى ، فقيل لهم : إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له ، وليُعلِّم المسلمين ، ويجوز أن يكون جارياً على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن .
والحسبان : الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهياً عن الجزم بأنَّهم أموات .
وقرأ الجمهور : الذين قُتِلوا بتخفيف التاء وقرأه ابن عامر بتشديد التاء أي قُتِّلوا قتلاً كثيراً .
وقوله : { بل أحياء } للإضراب عن قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا } فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد ، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تُضرب عن مفردٍ من الجملة ، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر ، فالتقدير : بل هم أحياء ، ولذلك قرأه السبعة بالرفع ، وقرىء بالنصب على أنّ الجملة فعلية ، والمعنى : بل أحسبتم أحياء ، وأنكرها أبو علي الفارسي .
وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً بقوله : { قتلوا } ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله : { عند ربهم } دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة . فإن علّقنا { عند ربهم } بقوله : أحياء كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله : { يرزقون } فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة ، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق .