43- يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة في المساجد حال سكركم حتى تفقهوا ما تقولون ، ولا تدخلوا المساجد وأنتم على جنابة إلا إذا كنتم عابري المساجد عبوراً دون استقرار فيها ، حتى تطهروا بالاغتسال . وإن كنتم مرضى لا تستطيعون استعمال الماء خشية زيادة المرض أو بطء البرء ، أو مسافرين يشق عليكم وجود الماء ، فاقصدوا التراب الطيب ، وكذلك إذا جاء أحد منكم من المكان المعد لقضاء الحاجة أو آتيتم النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به لفقده ، فاقصدوا تراباً طيباً كذلك فاضربوا به أيديكم ، وامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله من شأنه العفو العظيم والمغفرة .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الآية ، والمراد من السكر : السكر من الخمر ، عند الأكثرين ، وذلك أن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه صنع طعاماً ، ودعا ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر ، وسكروا فحضرت صلاة المغرب ، فقدموا رجلاً ليصلي بهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون . بحذف ( لا ) هكذا إلى آخر السورة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلاة ، حتى نزل تحريم الخمر . وقال الضحاك بن مزاحم : أراد به سكر النوم ، نهى عن الصلاة عند غلبة النوم .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المفلس ، أنا هارون بن إسحاق الهمذاني ، أخبرنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس ، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) .
قوله تعالى : { حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً } ، نصب على الحال ، يعني : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب . يقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، ورجال جنب ، ونساء جنب . وأصل الجنابة : البعد ، وسمي جنباً لأنه يتجنب موضع الصلاة ، أو لمجانبته الناس وبعده منهم ، حتى يغتسل .
قوله تعالى : { إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } ، اختلفوا في معناه ، فقال :
إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمموا ، منع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ، ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد رضي الله عنهم . وقال الآخرون : بل المراد من الصلاة موضع الصلاة ، كقوله تعالى : { وبيع وصلوات } [ الحج :40 ] ومعناه : لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه ، مثل أن ينام في المسجد فيجنب ، أو يصيبه جنابة والماء في المسجد ، أو يكون طريقه عليه ، فيمر به ولا يقيم . وهذا قول عبد الله بن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، والضحاك ، والحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، والزهري ، وذلك أن قوماً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، ولا ممر لهم إلا في المسجد ، فرخص لهم في العبور . واختلف أهل العلم فيه : فأباح بعضهم المرور فيه على الإطلاق ، وهو قول الحسن ، وبه قال مالك ، والشافعي ، رحمهم الله ، ومنع بعضهم على الإطلاق ، وهو قول أصحاب الرأي ، وقال بعضهم : يتيمم للمرور فيه . أما المكث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم ، لما روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، فإني لا أحل المسجد لحائض ، ولا جنب ) وجوز أحمد المكث فيه ، وضعف الحديث لأن رواية مجهول ، وبه قال المزني . ولا يجوز للجنب الطواف ، كما لا يجوز له الصلاة ولا يجوز له قراءة القرآن .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا شعبة ، أخبرني عمر بن مرة قال : سمعت عبد الله بن سلمة يقول : دخلت على علي رضي الله عنه فقال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة ، ويأكل معنا اللحم ، ويقرأ القرآن ، وكان لا يحجبه أو لا يحجزه عن القرآن شيء إلا الجنابة " .
وغسل الجنابة يجب بأحد الأمرين : إما بنزول المني ، أو بالتقاء الختانين ، وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ، وكان الحكم في الابتداء أن من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ، ثم صار منسوخاً .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الختانين فقالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى الختانان ، أو مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل " .
قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى } ، جمع مريض ، وأراد به مرضاً يضره إمساس الماء ، مثل الجدري ونحوه ، أو كان على موضع الطهارة جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف ، أو زيادة الوجع ، فإنه يصلي بالتيمم ، وإن كان الماء موجوداً ، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحاً والبعض جريحاً غسل الصحيح منها وتيمم للجريح ، لما أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز الغاشاني ، أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي ، أنا داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، أنا موسى ابن عبد الرحمن الأنطاكي ، أنا محمد بن سلمة ، عن الزبير بن حزيق ، عن جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر ، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ، فاحتلم ، فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو قال يعصب -شك الراوي- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده .
ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل ، وقالوا : إن كان أكثر أعضائه صحيحاً غسل الصحيح ولا يتيمم عليه ، وإن كان الأكثر جريحاً اقتصر على التيمم . والحديث حجة لمن أوجب الجمع بينهما .
قوله تعالى : { أو على سفر } . أراد أنه إذا كان في سفر طويلاً كان أو قصيراً ، وعدم الماء فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه . لما روي عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشره ) .
فإذا ذلك خيرا أما إذا لم يكن الرجل مريضاً ، ولا في سفر ، لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء غالباً ، بأن كان في قرية انقطع ماؤها فإنه يصلي بالتيمم ، ثم يعيد إذا قدر على الماء عند الشافعي ، وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنهما يؤخر الصلاة حتى يجد الماء .
قوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ، أراد به إذا أحدث ، والغائط : اسم للمطمئن من الأرض ، وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكني عن الحدث بالغائط .
قوله تعالى : { أو لامستم النساء } ، قرأ حمزة والكسائي { لامستم } هاهنا وفي المائدة ، وقرأ الباقون { لامستم النساء } . واختلفوا في معنى اللمس والملامسة ، فقال قوم : المجامعة ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وكني باللمس عن الجماع ، لأن الجماع لا يحصل إلا باللمس ، وقال قوم : هما التقاء البشرتين ، سواء كان بجماع أو غير جماع ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر ، والشعبي ، والنخعي . واختلف الفقهاء في حكم هذه الآية .
فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما ينتقض وضوءهما ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، وبه قال الزهري ، والأوزاعي ، والشافعي رضي الله عنهما . وقال مالك ، والليث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق : إن كان اللمس بشهوة نقض الطهر ، وإن لم يكن بشهوة فلا ينتقض . وقال قوم : لا ينتقض الوضوء باللمس بحال . وهو قول ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والثوري . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا ينتقض إلا إذا أحدث الانتشار . واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : " كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، وإذا قام بسطتهما ، قالت : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أن أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كنت نائمةً إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل ، فلمسته بيدي ، فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول : " أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .
واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم ، والبنت ، والأخت ، أو لمس أجنبية صغيرة ، أصح القولين أنه لا ينقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة ، كما لو لمس رجلاً . واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين : أحدهما : ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ . كما يجب الغسل عليهما بالجماع ، والثاني : لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد ، ولو لمس شعر امرأة أو سنها ، أو ظفرها ، لم ينتقض وضوءه عنده .
واعلم أن المحدث لا تصح صلاته ما لم يتوضأ إذا وجد الماء ، أو يتيمم إذا لم يجد الماء .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) .
والحدث : هو خروج الخارج من أحد الفرجين عيناً كان أو أثراً : أوالغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان . وأما النوم : فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء ، إلا أن ينام قاعداً ممكناً فلا وضوء عليه ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثقة عن حميد الطويل ، عن أنس رضي الله عنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون ، أحسبه قال : قعوداً ، حتى تخفق رؤوسهم ، ثم يصلون ولا يتوضؤون .
وذهب قوم إلى النوم يوجب الوضوء بكل حال ، وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه ، وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن ، وإسحاق ، والمزني . وذهب قوم : إلى أنه لو نام قائماً ، أو قاعداً ، أو ساجداً ، فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعاً . وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي . واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره : فذهب جماعة إلى أنه يوجب الوضوء . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وابن عباس وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وعائشة رضي الله عنها . وبه قال سعيد بن المسيب ، وسليمان ابن يسار ، وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب الأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وكذلك المرأة تمس فرجها ، غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول : لا ينتقض إلا أن يمس ببطن الكف ، أو بطون الأصابع . واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء فقال مروان : من مس الذكر الوضوء ، فقال عروة : ما علمت ذلك . فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ ) .
وذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء ، وحذيفة ، وبه قال الحسن ، وإليه ذهب الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، واحتجوا بما روي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره ، فقال : ( هل هو إلا بضعة منك ؟ ) ويروى هل هو إلا بضعة أو مضغة منه ؟
ومن أوجب الوضوء منه قال : هذا منسوخ بحديث بسرة ، لأن أبا هريرة يروي أيضاً أن الوضوء من مس الذكر ، وهو متأخر الإسلام ، وكان قدوم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد ، واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه ، فذهب جماعة : إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وبه قال عطاء ، وطاووس ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، رحمهما الله ، وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء ، والرعاف ، والفصد ، والحجامة ، منهم سفيان الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وأحمد ، وإسحاق . واتفقوا على أن القليل منه ، وخروج الريح من غير السبيلين لا يوجب الوضوء ، ولو أوجب الوضوء كثيره لأوجب قليله كالفرج .
قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة .
روى حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) .
وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؛ فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : أحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت : فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمم { فتيمموا } ، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت عائشة رضي الله عنها : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبيد بن إسماعيل ، أنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أنها استعارت من أسماء قلادةً فهلكت ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها ، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم . فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً ، فوا الله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً ، وجعل للمسلمين فيه بركة ، { فتيمموا }أي : اقصدوا .
قوله تعالى : { صعيداً طيباً } . أي : تراباً طاهراً نظيفاً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصعيد : هو التراب ، واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم ، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وجعلت تربتها لنا طهوراً " . وجوز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ ، والجص ، والنورة ، وغيرها من طبقات الأرض حتى قالوا : لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها ، أو على التراب ، ثم نفخ فيه حتى زال كله ، فمسح به وجهه ويديه صح تيممه . وقالوا : الصعيد . وجه الأرض ، لما روي عن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا ) . وهذا مجمل ، وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسر ، والمفسر من الحديث يقضي على المجمل ، وجوز بعضهم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ، ونبات ، ونحوهما وقال : إن الصعيد اسم لما تصاعد على وجه الأرض ، والقصد إلى التراب شرط لصحة التيمم ، لأن الله تعالى قال : { فتيمموا } ، والتيمم : القصد ، حتى لو وقف في مهب الريح فأصاب الغبار وجهه ونوى لم يصح .
قوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفوراً } .
اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم ، واختلفوا في كيفيته فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدان مع المرفقين بضربتين ، يضرب كفيه على التراب فيمسح بهما جميع وجهه ، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور ، ثم يضرب ضربةً أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين . لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن أبي الصمة قال : مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فتحه بعصاً كانت معه ، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ، ثم رد علي السلام . ففيه دليل على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين ، ودليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حت الجدار بالعصا ، ولو كان مجرد الضرب كافياً لما كان حته ، وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، لما روي عن عمار أنه قال : تيممنا إلى المناكب ، وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم . كما روي أنه قال : أجنبت فتمكعت في التراب ، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين . وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين . وهو قول علي ، وابن عباس رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، ومكحول ، وإليه ذهب الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق . واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أخبرنا الحكم ، عن ذر ، عن سعيد ابن عبد الرحمن عن أبزى ، عن أبيه قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء ؟ فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر ، إنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمكعت فصليت ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كان يكفيك هكذا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه ؟
وقال محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن كثير ، عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه : تمكعت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يكفيك الوجه والكفان .
وفي الحديث دليل على الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم ، وكذا الحائض والنفساء إذا طهرتا وعدمتا الماء . وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل ، وحملا قوله تعالى : { أو لمستم النساء } على اللمس باليد دون الجماع .
وحديث عمار رضي الله عنه حجة ، وكان عمر نسي ما ذكر له عمار فلم يقنع بقوله ، وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوز التيمم للجنب ، والدليل عليه أيضاً : ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن عباد بن منصور ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا كان جنباً أن يتيمم ثم يصلي ، فإذا وجد الماء اغتسل .
وأخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي اللؤلؤي ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر رضي الله عنهم قال : اجتمعت غنيمه من الصدقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أبا ذر ابد فيها ، فبدوت إلى الربذة ، وكانت تصيبني الجنابة ، فامكث الخمس والست ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر ؟ فسكت ، فقال : " ثكلتك أمك يا أبا ذر ، لأمك الويل ، فدعا بجارية سوداء ، فجاءت بعس فيه ماء ، فسترتني بثوب ، واستترت بالراحلة ، فاغتسلت فكأني ألقيت عني جبلا فقال : الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير " .
ومسح الوجه واليدين في التيمم ، تارة يكون بدلاً عن غسل بعض أعضاء الطهارة ، بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحة لا يمكنه غسل محلها ، فعليه أن يتيمم بدلاً عن غسله ، ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت ، ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحد ، لأن الله تعالى قال : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } إلى أن قال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة ، إلا أن الدليل قد قام في الوضوء ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد ، فبقي التيمم على ظاهره ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ، ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث . وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن ، والزهري ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل ، قبل الفريضة وبعدها ، وأن يقرأ القرآن إن كان جنباً . وإن كان تيممه بعذر السفر ، وعدم الماء ، فيشترط طلب الماء ، وهو أن يطلبه في رحله ، ومن رفقائه ، وإن كان في صحراء ولا حائل دون نظره ينظر حواليه ، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار عدل عنه ، لأن الله تعالى قال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، ولا يقال : لم يجد ، إلا لمن طلب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ، طلب الماء ليس بشرط ، فإن رأي الماء ولكن بينه وبين الماء حائل من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه ، أو كان الماء في البئر وليس معه آلة الاستقاء ، فهو كالمعدوم ، يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا }
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى ، حتى يعلموا ما يقولون ، وهذا شامل لقربان مواضع الصلاة ، كالمسجد ، فإنه لا يمكَّن السكران من دخوله . وشامل لنفس الصلاة ، فإنه لا يجوز للسكران صلاة ولا عبادة ، لاختلاط عقله وعدم علمه بما يقول ، ولهذا حدد تعالى ذلك وغياه إلى وجود العلم بما يقول السكران . وهذه الآية الكريمة منسوخة بتحريم الخمر مطلقا ، فإن الخمر -في أول الأمر- كان غير محرم ، ثم إن الله تعالى عرض لعباده بتحريمه بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }
ثم إنه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضور الصلاة كما في هذه الآية ، ثم إنه تعالى حرمه على الإطلاق في جميع الأوقات في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } الآية .
ومع هذا فإنه يشتد تحريمه وقت حضور الصلاة لتضمنه هذه المفسدة العظيمة ، بعد حصول مقصود الصلاة الذي هو روحها ولبها وهو الخشوع وحضور القلب ، فإن الخمر يسكر القلب ، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلاة في حال النعاس المفرط ، الذي لا يشعر صاحبه بما يقول ويفعل ، بل لعل فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطع عنه كل شاغل يشغل فكره ، كمدافعة الأخبثين والتوق لطعام ونحوه كما ورد في ذلك الحديث الصحيح .
ثم قال : { وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } أي : لا تقربوا الصلاة حالة كون أحدكم جنبا ، إلا في هذه الحال وهو عابر السبيل أي : تمرون في المسجد ولا تمكثون فيه ، { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } أي : فإذا اغتسلتم فهو غاية المنع من قربان الصلاة للجنب ، فيحل للجنب المرور في المسجد فقط .
{ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا }
فأباح التيمم للمريض مطلقًا مع وجود الماء وعدمه ، والعلة المرض الذي يشق معه استعمال الماء ، وكذلك السفر فإنه مظنة فقد الماء ، فإذا فقده المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب ونحوه ، جاز له التيمم .
وكذلك إذا أحدث الإنسان ببول أو غائط أو ملامسة النساء ، فإنه يباح له التيمم إذا لم يجد الماء ، حضرًا وسفرًا كما يدل على ذلك عموم الآية . والحاصل : أن الله تعالى أباح التيمم في حالتين :
حال عدم الماء ، وهذا مطلقا في الحضر والسفر ، وحال المشقة باستعماله بمرض ونحوه .
واختلف المفسرون في معنى قوله : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } هل المراد بذلك : الجماع فتكون الآية نصا في جواز التيمم للجنب ، كما تكاثرت بذلك الأحاديث الصحيحة ؟ أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد ، ويقيد ذلك بما إذا كان مظنة خروج المذي ، وهو المس الذي يكون لشهوة فتكون الآية دالة على نقض الوضوء بذلك ؟
واستدل الفقهاء بقوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } بوجوب طلب الماء عند دخول الوقت ، قالوا : لأنه لا يقال : " لم يجد " لمن لم يطلب ، بل لا يكون ذلك إلا بعد الطلب ، واستدل بذلك أيضا على أن الماء المتغير بشيء من الطاهرات يجوز بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } وهذا ماء . ونوزع في ذلك أنه ماء غير مطلق وفي ذلك نظر .
وفي هذه الآية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به الله على هذه الأمة ، وهو مشروعية التيمم ، وقد أجمع على ذلك العلماء ولله الحمد ، وأن التيمم يكون بالصعيد الطيب ، وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض سواء كان له غبار أم لا ، ويحتمل أن يختص ذلك بذي الغبار لأن الله قال : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وما لا غبار له لا يمسح به .
وقوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } هذا محل المسح في التيمم : الوجه جميعه واليدان إلى الكوعين ، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة ، ويستحب أن يكون ذلك بضربة واحدة ، كما دل على ذلك حديث عمار ، وفيه أن تيمم الجنب كتيمم غيره ، بالوجه واليدين .
اعلم أن قواعد الطب تدور على ثلاث قواعد : حفظ الصحة عن المؤذيات ، والاستفراغ منها ، والحمية عنها . وقد نبه تعالى عليها في كتابه العزيز .
أما حفظ الصحة والحمية عن المؤذي ، فقد أمر بالأكل والشرب وعدم الإسراف في ذلك ، وأباح للمسافر والمريض الفطر حفظا لصتحهما ، باستعمال ما يصلح البدن على وجه العدل ، وحماية للمريض عما يضره .
وأما استفراغ المؤذي فقد أباح تعالى للمحْرِم المتأذي برأسه أن يحلقه لإزالة الأبخرة المحتقنة فيه ، ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى منها من البول والغائط والقيء والمني والدم ، وغير ذلك ، نبه على ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى .
وفي الآية وجوب تعميم مسح الوجه واليدين ، وأنه يجوز التيمم ولو لم يضق الوقت ، وأنه لا يخاطب بطلب الماء إلا بعد وجود سبب الوجوب والله أعلم .
ثم ختم الآية بقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } أي : كثير العفو والمغفرة لعباده المؤمنين ، بتيسير ما أمرهم به ، وتسهيله غاية التسهيل ، بحيث لا يشق على العبد امتثاله ، فيحرج بذلك .
ومن عفوه ومغفرته أن رحم هذه الأمة بشرع طهارة التراب بدل الماء ، عند تعذر استعماله . ومن عفوه ومغفرته أن فتح للمذنبين باب التوبة والإنابة ودعاهم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم . ومن عفوه ومغفرته أن المؤمن لو أتاه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا ، لأتاه بقرابها مغفرة .
يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون }
هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة ، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ ، وإلى قَرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضاً . ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها ، فوقعت في موقعِ وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات . تضمّنت حكماً أوَّلَ يتعلّق بالصلاة ابتداء ، وهو مقصود في ذاته أيضاً بحسب الغاية ، وهو قوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ، ذلك أنّ الخمر كانت حَلالا لم يحرّمها الله تعالى ، فبقيت على الإباحة الأصلية ، وفي المسلمين من يشربها . ونزل قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } [ البقرة : 219 ] في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين : نحن نشربها لمنافعها لا لإثْمها ، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة ، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراماً لأنّ ما يشتمل على الإثم مُتّصف بوصف مناسب للتحريم ، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم ، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها ، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا خمراً وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ : قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل ، لأنّ ( قَرُب ) حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال : قرب منه بضم الراء وقرِبه بكسر الراء وهما بمعنى ، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة ، ولا يصحّ .
وإنّما اختير هذا الفعل دون لا تُصَلُّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة ، وصاحبُها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام ، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر ، والتنفير منها ، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيماناً وأعلقهم بالصلاة ، فلا يرمُقون شيئاً يمنعهم من الصلاة إلاّ بعَين الاحتقار . ومن المفسّرين مَن تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالى : { وصلوات ومساجد } [ الحج : 40 ] ، ونقل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن قالوا : كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار .
وقوله : { حتى تعلموا ما تقولون } غاية للنهي وإيماء إلى علّته ، واكتفى بقوله ( تقولون ) عن { تفعلون } لظهور أنّ ذلك الحدّ من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة ، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول .
وفي الآية إيذان بأنّ السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ ؛ أو أريد من الغاية أنّها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة . وسكارى جمع سكران ، والسكران من أخَذ عقله في الانغلاق ، مشتقّ من السَّكْر ، وهو الغلق ، ومنه سكْر الحوض وسكْر الباب { وسكرت أبصارنا } [ الحجر : 15 ] .
ولمّا نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلاّ بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما ، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة .
{ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جا أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا }
عطف على جملة { وأنتم سكارى } لأنّا في محلّ الحال ، وهذا النصب بعد العطف دليل بيِّنٌ على أنّ جملة الحال معَتبرة في محلّ نصب .
والجنُب فُعُل ، قيل : مصدر ، وقيل : وصف مثل أُجُد ، وقد تقدّم الكلام فيه آنفاً عند قوله : { والجار الجنب } [ النساء : 36 ] ، والمراد به المباعد للعبادةِ من الصلاة إذا قارف امرأته حتى يغتسل .
ووصفُ جنُب وصفٌ بالمصدر فلذلك لم يجمع إذْ أخبر به عن جمع ، مِن قوله : { وأنتم سكارى } . وإطلاق الجنابة على هذا المعنى من عهد الجاهلية ، فإنّ الاغتسال من الجنابة كان معروفاً عندهم ، ولعلّه من بقايا الحنيفية ، أو ممّا أخذوه عن اليهود ، فقد جاء الأمر بغسل الجنابة في « الاصحاح » 15 من سفر اللاويين من التوراة . وذكر ابن إسحاق في « السيرة » أنّ أبا سفيان ، لما رجع مهزوماً من بدر ، حلف أن لا يمسّ رأسَه غسلٌ من جنابة حتّى يغزوَ محمّداً . ولم أقف على شيء من كلام العرب يدلّ على ذكر غسل الجنابة .
والمعنى لا تُصَلُّوا في حال الجنابة حتّى تغتسلوا إلخ . والمقصود من قوله : { ولا جنباً } التمهيد للتخلّص إلى شرع التَّيمّم ، فإنّ حكم غسل الجنابة مقرّر من قبل ، فذكره هنا إدماج . والتيمّم شرع في غزوة المُرَيْسيع على الصحيح ، وكانت سنة ستّ أو سنة خمسسٍ على الأصحّ . وظاهر حديث مالك عن عائشة أنّ الآية التي نزلت في غزوة المرَيْسيع هي آية التيمّم ، فيظهر أن تكون هذه الآية التي في سورة النساء لأنّها لم يذكر منها إلاّ التيمّم . ووقع في حديث عمرو عن عائشة أنّ الآية التي نزلت هي قوله : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } التي في سورة المائدة ( 6 ) ، أخرجه البخاري وقد جزم القرطبي بأنّ الآية التي نزلت في غزوة المريسيع هي آية سورة النساء ، قال : لأنّ آية سورة المائدة تسمّى آية الوضوء . وكذلك الواحدي أورد في أسباب النزول حديث عائشة في سبب نزول آية سورة النساء . وقال ابن العربي هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء لا نعلم أيّ الآيتين عنت عائشة .
وسورة المائدة قيل : نزلت قبل سورة النساء ، وقيل بعدها ، والخطب سهل ، والأصحّ أنّ سورة النساء نزلت قبل سورة المائدة .
والاستثناء في قوله : { إلا عابري سبيل } استثناء من عموم الأحوال المستفادِ من وقوع ( جنبا ) ، وهو حال نكرة ، في سياق النفي . وعابر السبيل ، في كلام العرب : المسافر حين سيره في سفره ، مشتقّ من العبر وهو القطع والاجتياز ، يقال : عبر النهر وعبر الطريق . ومن العلماء من فسّر { عابري سبيل } بمارّين في طريق ، وقال : المراد منه طريق المسجد ، بناء على تفسير الصلاة في قوله : { لا تقربوا الصلاة } بالمسجد ، وجعلوا الآية رخصة في مرور الجنب في المسجد إذا كان قصده المرور لا المكث ، قاله الذين تأوّلوا الصلاة بالمسجد . ونسب أيضاً إلى أنس بن مالك ، وأبي عبيدة ، وابن المسّيب ، والضحّاك ، وعطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، والنخعي ، وزيد بن أسْلم ، وعمرو بن دينار ، وعكرمة ، وابن شهاب ، وقتادة ، قالوا : كان ذلك أيام كان لكثير من المهاجرين والأنصار أبواب دُور في المسجد ، ثم نسخ ذلك بعدَ سدّ الأبواب كلّها إلاّ خوخة أبي بكر ، فكان المرور كذلك رخصة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ، وفي رواية ولعلي ، وقيل : أبقيت خوخة بنت عليّ في المسجد ، ولم يصحّ .
وفائدة هذا الاستثناء عند من فسّر { تقربوا الصلاة } بدخول المسجد ، وفسّر { عابري سبيل } بالمارّين في المسجد ظاهرة ، وهو استثناء حقيقي من عموم أحوال الجنب باستثناء عابري السبيل . وعابرُ السبيل المأخوذ من الاستثناء مطلق ، وهو عند أصحاب هذا المحمل باق على إطلاقه لا تقييد فيه ، وأمّا عند الجمهور الذين حملوا الآية على ظاهرها في معنى تقربوا الصلاة ، وفي معنى عابري السبيل فلا تظهر له فائدة ، للاستغناء عنه بقوله بعده { أو على سفر } ولأنّ في عموم الحصر تخصيصاً ، فالذي يظهر لي أنّه إنّما قدّم هنا لأنّه غالب الأحوال التي تحول بين المرء وبين الاغتسال من جهة حاجة المسافر استبقاءَ الماء . ولندور عروض المرض . والاستثناء على محمل الجمهور يحتمل أنْ يكون متّصلا عند من يرى المتيمّم جنباً ، ويرى التيمّم غير رافع للحدث ، ولكنّه مبيح للصلاة للضرورة في الوقت ، وهذا قول الشافعي ، فهو عنده بدل ضروري يقدّر بقدر الضرورة ، ودَليله ظاهر الاستثناء ، ويحتمل أن يكون منقطعاً عند من يرى المتيمّم غير جنب ، ويرى التيمّم رافعاً للحدث حتّى ينتقض بناقض ويزول سببه . وهذا قول أبي حنيفة ، فلذلك إذا تيمّم الجنب وصلّى وصار منه حدث ناقض للوضوء يتوضّأ لأنّ تيمّمه بدل عن الغسل مطلقاً ، وهذا هو الظاهر بحسب المعنى وليس في السنّة ما يقتضي خلافه . وعن مالك في ذلك قولان : فالمشهور من رواية ابن القاسم أنّ التيمّم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث ، فلذلك لا يصلّي المتيمّم به إلاّ فرضاً واحداً ، ولو تيمّم لجنابة لعذر يمنع من الغسل وانتقض وضوءه تيمّم عن الوضوء .
وعن مالك ، في رواية البغداديين : أنّ المريض الذي لا يقدر على مسّ الماء يتيمّم ويصلّي أكثر من صلاة ، حتّى ينتقض تيمّمه بناقض الوضوء ، وكذلك فيمن ذكر فوائت يصلّيها بتيمّم واحد ، فعلى هذا ليس تجديد التيمّم لغيرهما إلاّ لأنَّه لا يدري لعلّه يجد الماء فكانت نيّة التيمّم غيرَ جازمة في بقائه ، ولم ينقل عن مالك قول بأنّ المتيمّم للجنابة بعذر مانع من الغسل إذا انتقض وضوءه يتوضأ .
وفي مفهوم هذا الاستثناء ، عند القائلين بالمفاهيم من الجمهور ، على هذا المحمل تفصيل . فعابر السبيل مُطلق قيده قوله : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وبقي عموم قوله { ولا جنباً } في غير عابر السبيل ، لأنّ العامّ المخصوص يبقى عامّا فيما عدا ما خُصّص ، فخَصَّصه الشرط تخصيصاً ثانياً في قوله : { وإن كنتم مرضى } . ثم إن كان قد تقرّر عند المسلمين أنّ الصلاة تقع بدون طهارة يبق قوله : { إلا عابري سبيل } مجملاً لأنّهم يترقّبون بيانَ الحكم في قربان الصلاة على غير طهارة للمسافر ، فيكون في قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } بيان لهذا الإجمال ، وإن كان ذلك لم يخطر ببالهم فلا إجمال ، ويكون قوله : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } استئنافا لأحكام التيمّم .
وتقديم المُستثنى في قوله : { إلا عابري سبيل } قبل تمام الكلام المقصود قصره بقوله : { حتى تغتسلوا } للاهتمام وهو جار على استعمال قليل ، كقول موسى بن جابر الحنفي أموي :
لاَ أشتهي يا قوم إلاَّ كارها *** بابَ الأمير ولا دفاع الحاجب
وقوله : { حتى تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن الصلاة إذا كانوا جنباً ، فهو تشريع للغسل من الجنابة وإيجاب له ، لأنّ وجوب الصلاة لا يسقط بحال ، فلمّا نهوا عن اقترابها بدون الغسل علم من ذلك فرض الغسل . والحكمة في مشروعية الغسل النظافة ، ونيطَ ذلك بأداء الصلاة ليكون المصلّي في حالة كمال الجسد ، كما كان حينئذ في حال كمال الباطن بالمناجاة والخضوع . ومن أبدع الحِكم الشرعية أنّها لم تنط وجوب التنظّف بحال الوسخ لأنّ مقدار الحال من الوسخ الذي يستدعي الاغتسال والتنظف ممّا تختلف فيه مدارك البشر في عوائدهم وأحوالهم ، فنيطَ وجوب الغسل بحالة لا تنفكّ عن القوة البشرية في مدّة متعَارف أعمار البشر ، وهي حالة دفع فواضل القوة البشرية ، وحيث كان بَيْن تلك الحالة وبين شدّة القوّة تناسب تامّ ، إذ بمقدار القوة تندفع فضلاتها ، وكان أيضاً بين شدّة القوة وبين ظهور الفضلات على ظاهر البدن المعبّر عنها بالوسخ تناسبٌ تامّ ، كان نوْط الاغتسال بالجنابة إناطة بوصف ظاهر منضبط فجُعل هو العلّة أو السبب ، وكان مع ذلك محصّلا للمناسبة المقتضية للتشريع ، وهي إزالة الأوساخ عند بلوغها مقدارا يناسب أن يزال مع جعل ذلك مرتبطاً بأعظم عبادة وهي الصلاة ، فصارت الطهارة عبادة كذلك ، وكذلك القول في مشروعية الوضوء ، على أنّ في الاغتسال من الجنابة حكمة أخرى ، وهي تجديد نشاط المجموع العصبي الذي يعتريه فتورٌ باستفراغ القوة المأخوذة من زبد الدم ، حسبما تفطّن لذلك الأطباء فقُضيت بهذا الانضباط حِكَمٌ عظيمة .
ودلّ إسناد الاغتسال إلى الذوات في قوله : { حتى تغتسلوا } على أنّ الاغتسال هو إحاطة البدن بالماء ، وهذا متّفق عليه ، واختلف في وجوب الدلك أي إمرار اليد على أجزاء البدن : فشرطه مالك رحمه الله بناء على أنّه المعروف من معنى الغسل في « لسان العرب » ، ولأنّ الوضوء لا يجزىء بدون ذلك باتّفاق ، فكذلك الغسل .
وقال جمهور العلماء : يجزىء في الغسل إحاطة البدن بالماء بالصبّ أو الانغماس ؛ واحتجّوا بحديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما في غسل النبي صلى الله عليه وسلم أنّه أفاض الماء على جسده ، ولا حجّة فيه لأنّهما لم تذكرا أنّه لم يتدلّك ، ولكنّهما سكتتا عنه ، فيجوز أن يكون سكوتهما لعلمهما بأنّه المتبادر ، وهذا أيضاً رواية عن مالك رواها عنه أبو الفرج ، ومروان بن محمد الطاطري ، وهي ضعيفة .
وقوله : { وإن كنتم مرضى } إلخ ذكرُ حالةِ الرخصة في ترك الاغتسال وترك الوضوء الذي لم يذكر في هذه السورة ، وذُكر في سورة المائدة ، وهي نازلة قبل هذه السورة . فالمقصود بيان حكم التيمّم بحذافره . وفي جمع هذه الأشياء في نسق حصل هذا المقصود ، وحصل أيضاً تخصيص لعموم قوله : { ولا جنباً } كما تقدّم .
وقوله : { أو على سفر } بيان للإجمال الواقع في قوله : { إلا عابري سبيل } إن كان فيه إجمال ، وإلاّ فهو استئناف حكم جديد كما تقدّم .
وقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } زيادة على حكم التيمّم الواقع بدلا من الغسل ، بذكر التيمّم الواقع بدلا عن الوضوء إيعاباً لنوعَي التيمّم . وغير ذلك من أسبابه يؤخذ بالقياس على المذكور . فالمريض أريد به الذي اختلّ نظام صحتِه بحيث صار الاغتسال يضرّه أو يزيد عِلَّتَه . { أو جاء . . . من الغائط } كناية عن قضاء الحاجة البشرية ، شاع في كلامهم التكنّي بذلك لبشاعة الصريح .
والغائط : المنخفض من الأرض ، وما غاب عن البصر ، يقال : غَاط في الأرض إذا غاب يغوط ، فهمزته منقلبة عن الواو ، وكانت العرب يذهبون عند قضاء الحاجة إلى مكان منخفض من جهة الحي بعيد عن بيوت سكناهم ، فيكنون عنه : يقولون ذهب إلى الغائط أو تغوّط ، فكانت كناية لطيفة ثم استعملها الناس بعد ذلك كثيراً حتّى ساوت الحقيقة فسمَجَت ، فصار الفقهاء يطلقونه على نفس الحدث ويعلّقونه بأفعال تناسب ذلك .
وقوله : { أو لامستم النساء } قرىء ( لامستم ) بصيغة المفاعلة ، وقرىء ( لمستم ) بصيغة الفعل كما سيأتي ، وهما بمعنى واحد على التحقيق . ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل . وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد ، وقد أطلق مجازاً وكناية على الافتقاد ، قال تعالى :
{ وأنا لمسنا السماء } [ الجن : 8 ] وعلى النزول ، قال النابغة :
ليَلْتَمِسَنْ بالجيش دارَ المحارب
وعلى قربان النساء ، لأنّه مرادف المسّ ، ومنه قولهم : « فلانة لا تردّ يد لامس » ، ونظيره { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] . والملامسة هنا يحتمل أن يكون المراد منها ظاهرها ، وهو الملامسة بمباشرة اليد أو بعضضِ الجسد جسدَ المرأة ، فيكون ذكر سببا ثانياً من أسباب الوضوء التي توجب التيمّم عند فقد الماء ، وبذلك فسّره الشافعي ، فجعل لمس الرجل بيده جسد امرأته موجباً للوضوء ، وهو محمل بعيد ، إذ لا يكون لمس الجسد موجباً للوضوء وإنَّما الوضوء ممّا يخرج خروجاً معتاداً . فالمحمل الصحيح أنّ الملامسة كناية عن الجماع . وتعديد هذه الأسباب لجمع ما يغلب من موجبات الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى ، وإنّما لم يستغن عن { لمستم النساء } بقوله آنفاً { ولا جنباً } لأنّ ذلك ذكر في معرض الأمر بالاغتسال ، وهذا ذكر في معرض الإذن بالتيمّم الرخصة . والمقام مقام تشريع يناسبه عدم الاكتفاء بدلالة الالتزام ، وبذلك يكون وجه لذكره وجيه . وأمّا على تأويل الشافعي ومن تابعه فلا يكون لذكر سبب ثان من أسباب الوضوء كبير أهمية . وإلى هذا مال الجمهور فلذلك لم يجب عند مالك وأبي حنيفة الوضوء من لمس الرجل امرأته ما لم يخرج منه شيء ، إلاّ أنّ مالكاً قال : إذا التذ اللامس أو قَصَد اللذّة انتقض وضوءه ، وحمل الملامسة في هذه الآية على معنييها الكنائي والصريح ، لكن هذا بشرط الالتذاذ ، وبه قال جمع من السلف ، وأرى مالكاً اعتمد في هذا على الآثار المروية عن أيّمة السلف ، ولا أراه جعله المراد من الآية .
وقرأ الجمهور { لامستم } بصيغة المفاعلة ؛ وقرأه حمزة والكسائي وخلف { لمستم } بدون ألف .
وقوله : { فلم تجدوا ماء } عطف على فعل الشرط ، وهو قيد في المسافر ، ومن جاء من الغائط ، ومن لامس النساء ، أمّا المريض فلا يتقيّد تَيمّمه بعدم وجدان الماء لأنّه يتيمّم مطلقاً ، وذلك معلوم بدلالة معنى المرض ، فمفهوم القيد بالنسبة إليه معطّل بدلالة المعنى ، ولا يكون المقصود من المريض الزمن ، إذ لا يعدم الزمن مناوِلاً يُناوله الماء إلاّ نادرا .
وقوله { فتيمموا } جواب الشرط والتيمّم القصد والصعيد وجه الأرض ، قال ذو الرمّة يصف خشفا من بقر الوحش نائماً في الشمس لا يكاد يفيق :
كأنَّه بالضحى تَرْمِي الصعيدَ به *** دَبَّابَةٌ في عظام الرأس خُرطوم
والطيّب : الطاهر الذي لم تلوّثه نجاسة ولا قذر ، فيشمل الصعيدُ الترابَ والرملَ والحجارة ، وإنّما عبّر بالصعيد ليصرف المسلمين عن هوس أن يتطلّبوا التراب أو الرمل ممّا تحت وجه الأرض غلوّا في تحقيق طهارته .
وقد شُرع بهذه الآية حكم التيمّم أو قرّر شرعه السابق في سورة المائدة على الأصحّ ، وكان شرع التيمم سنة ستّ في غزوة المريسيع ، وسبب شرعه ما في « الصحيح » عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناسُ إلى أبي بكر الصديق فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله والناسسِ وليسوا على ماء وليس معهم ماء .
فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حَبَسْتِ رسول الله والناسَ وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فعاتَبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرّك إلا مَكانُ رسول الله على فَخِذي ، فقام رسول الله حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمّم . فقال أسَيْد بنُ الحُضَيْر : ما هي بأوّلِ بركتكم يا آلَ أبي بكر ، فوالله ما نَزل بكِ أمْر تكرهينَه إلاّ جعل الله ذلك لكِ وللمسلمين فيه خيراً . قالت : فبعثْنَا البعيرَ الذي كنتُ عليه فأصبنا العِقْد تحته .
والتيمّم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أعْطِيتُ خمسا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحد قبلي فذكر منها وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً » . والتيمّم بدل جعله الشرع عن الطهارة ، ولم أر لأحد من العلماء بيانا في حكمة جعل التيمّم عوضاً عن الطهارة بالماء وكان ذلك من همّي زمنا طويلاً وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك .
وأحسب أنّ حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين ، وتقرير حُرمة الصلاة ، وترفيع شأنها في نفوسهم ، فلم تُترك لهم حالة يعدّون فيها أنفسهم مُصلّين بدون طهارة تعظيماً لمناجاة الله تعالى ، فلذلك شَرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهّرين ، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صَعيدَ الأرض التي هي منبع الماء ، ولأنّ التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها ، ينظّفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وماعونهم ، وما الاستجمار إلاّ ضرب من ذلك ، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنّه مطالب به عند زوال مانعه ، وإذ قد كان التيمّم طهارة رمزية اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى ، كما دلّ عليه حديث عمّار بن ياسِر ، ويؤيّد هذا المقصد أنّ المسلمين لما عَدِموا الماء في غزوة المريسيع صلَّوْا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم . هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر ، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّدِ بنَوعه ، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير ، مثل عدد الركعات في الصلوات ، وكأنَّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه ، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار ، إلاّ أنّ هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف ، وهو ما سبق إلى خاطر عَمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يكفيك من ذلك الوجهُ والكفَّان " . ولأجل هذا أيضاً اختلف السلف في حكم التيمّم ، فقال عُمر وابن مسعود : لا يقع التيمّم بدلا إلاّ عن الوضوء دون الغسل ، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يَغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر . وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود : روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود : أرأيتَ إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع ؟ قال عبدُ اللَّه : لا يُصلّي حتّى يجد الماء . فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي : كان يكفيك هكذا ، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه ، قال ابن مسعود : ألم تر عُمَرَ لم يقنَعْ منه بذلك ، قال أبو موسى . فدَعْنَا من قول عمّار ، كيف تصنع بهذه الآية { وإن كنتم مرضى أو على سفر } فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : إنَّا لو رخَّصْنا لهم في هذا لأوْشَكَ إذا بَرَد على أحدهم الماءُ أن يدَعَه ويتيمّم ، ولا شك أنّ عمر ، وابن مسعود ، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله : { إلا عابري سبيل } رخصة لمرور المسجد ، وجعلا { أو لامستم النساء } مراداً به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي ، وخالف جميعُ علماء الأمّة عمرَ وابنَ مسعود في هذا ، فقال الجمهور : يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نَزْلَة أو حمّى . وقال الشافعي : لا يتيمّم إلاّ فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته ، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة ، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول ، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة . وقد تيمّم عَمْرو بن العاص رضي الله عنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس ، « فذكروا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فسأله فقال عمرو : إني سمعت الله يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ] فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه .
وقوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } جعل التيمّم قاصرا على مسح الوجه واليدين ، وأسقط مسح ما سواهما من أعضاء الوضوء بَلْهَ أعضاء الغسل ، إذ ليس المقصود منه تطهيراً حسيَّا ، ولا تجديد النشاط ، ولكن مجرّد استحضار استكمال الحالة للصلاة ، وقد ظنّ بعض الصحابة أنّ هذا تيمّم بدل عن الوضوء ، وأنّ التيمّم البدل عن الغسل لا يجزىء منه إلاّ مسح سائر الجسد بالصعيد ، فعلّمه النبي صلى الله عليه وسلم أن التيمّم للجنابة مثل التيمّم للوضوء ، فقد ثبت في « الصحيح » عن عمّار بن ياسر ، قال : كنت في سفر فأجنبت فتمعَّكْت في التَراب ( أيْ تمرّغت ) وصلّيت فأتيت النبي فذكرت ذلك فقال « يكفيك الوجه والكفان » وقد تقدّم آنفاً .
والباء للتأكيد مثل : « وهزّي إليك بجذع النخلة » وقول النابغة يرثي النعمان بن المنذر :
لكَ الخيرُ إن وارتْ بك الأرضُ واحدا *** وأصْبَحَ جَدُّ الناس يظْلَعَ عَاثِرا
أراد إن وارتْك الأرض مواراة الدفن . والمعنى : فامسحوا وجوهكم وأيديكم ، وقد ذُكرت هذه الباء مع الممسوح في الوضوء ومع التيمّم للدلالة على تمكّن المسح لئلا تزيد رخصةٌ على رخصة .
وقوله : { إن الله كان عفواً غفوراً } تذييل لحكم الرخصة إذ عفا عن المسلمين فلم يكلّفهم الغسل أو الوضوء عند المرض ، ولا ترقّبَ وجود الماء عند عدمه ، حتّى تكثر عليهم الصلوات فيعسر عليهم القضاء .