أهم ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة الكلام عن البعث والقيامة ، وإقامة الأدلة على وقوعها ، وتهديد من يكذب بهما ، وتكرير ذلك التهديد بالويل عشر مرات ، وتخويفه بما يذوق من الذلة والعذاب ، وتبشير المتقين بما يلقونه من الرفاهة والنعيم ، وختامها الويل للكافرين الذين لا مؤمنون بالقرآن .
1 - أقسم بالآيات المرسلة على لسان جبريل إلى محمد للعرف والخير ، فالآيات القاهرات لسائر الأديان الباطلة تنسفها نسفاً ، وبالآيات الناشرات للحكمة والهداية في قلوب العالمين نشراً عظيماً ، فالفارقات بين الحق والباطل فرقاً واضحاً ، فالملقيات على الناس تذكرة تنفعهم - إعذاراً لهم وإنذاراً - فلا تكون لهم حُجة : إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لنازل لا ريب فيه .
{ 1 - 15 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ }
أقسم تعالى على البعث والجزاء بالأعمال{[1320]} ، بالمرسلات عرفا ، وهي الملائكة التي يرسلها الله تعالى بشئونه القدرية وتدبير العالم ، وبشئونه الشرعية ووحيه إلى رسله .
و { عُرْفًا } حال من المرسلات أي : أرسلت بالعرف والحكمة والمصلحة ، لا بالنكر والعبث .
بسم الله الرحمن الرحيم والمرسلات غرقا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا إقسام بطوائف من الملائكة أرسلهن الله تعالى بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في امتثال أمره ونشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم ففرقن بين الحق والباطل فألقين إلى الأنبياء ذكرا عذرا للمحقين ونذرا للمبطلين أو بآيات القرآن المرسلة بكل عرف إلى محمد صلى الله عليه وسلم فعصفن سائر الكتب والأديان بالنسخ ونشرن آثار الهدى والحكم في الشرق والغرب وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق فيما بين العالمين أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن ما سوى الحق ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء ففرقن بين الحق بذاته والباطل في نفسه فيرون كل شيء هالكا إلا وجهه فألقين ذكرا بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلا ذكر الله تعالى أو برياح عذاب أرسلن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن فألقين ذكرا أي تسببن له فإن العاقل إذا شاهد هبوبها وآثارها ذكر الله تعالى وتذكر كمال قدرته وعرفا إما نقيض النكر وانتصابه على العلة أي أرسلن للإحسان والمعروف أو بمعنى المتتابعة من عرف الفرس وانتصابه على الحال .
لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى .
وسميت في عهد الصحابة سورة { والمرسلات عرفا } ففي حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية الحديث .
وفي الصحيح عن ابن عباس قال قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أم الفضل امرأة العباس فبكت وقالت : بني أذكرتني بقرائتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب .
وسميت { سورة المرسلات } ، روى أبو داود عن ابن مسعود كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة ، واقتربت والحاقة في ركعة ثم قال وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة فجعل هذه الألفاظ بدلا من قوله السورتين وسماها المرسلات لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه .
واشتهرت في المصاحف باسم { المرسلات } وكذلك في التفاسير وفي صحيح البخاري .
وذكر الخفاجي وسعد الله الشهير بسعدي في حاشيتيهما على البيضاوي أنها تسمى { سورة العرف } ولم يسنداه ، ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم .
وفي الإتقان عن كتاب ابن الضريس عن ابن عباس في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم { المرسلات } . وفيه عن دلائل النبوة للبيهقي عن عكرمة والحسن في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم { المرسلات } .
وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف ، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفا ، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولا لأنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه .
وعن ابن عباس وقتادة : أن آية { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } مدنية نزلت في المنافقين ، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظرا إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرن بالصلاة ، وليس في ذلك حجة لكون الآية مدنية فإن الضمير في قوله { وإذا قيل لهم } وارد على طريقة الضمائر قبله وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون . ومعنى { قيل لهم اركعوا } : كناية عن أن يقال لهم أسلموا . ونظيره قوله تعالى { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } فهي في المشركين وقوله { قالوا لم نك من المصلين } إلى قوله { وكنا نكذب بيوم الدين } .
وعن مقاتل نزلت { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا نجبي فإنها مسبة علينا . فقال لهم : لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود .
وهذا أيضا أضعف ، وإذا صح ذلك فإنما أراد مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم الآية .
وهي السورة الثالثة والثلاثون في عداد ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد .
وأتفق العادون على عد آيها خمسين .
اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عقب فناء الدنيا ووصف بعض أشراط ذلك .
والاستدلال على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض .
ووعد منكريه بعذاب الآخرة ووصف أهواله .
والتعريض بعذاب لهم في الدنيا كما استؤصلت أمم مكذبة من قبل . ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين .
فأما { المرسلات } فإذا جعل وصفاً للملائكة كان المعنيُّ بهم المرسلين إلى الرسل والأنبياء مثل جبريل في إرساله بالوحي ، وغيره من الملائكة الذين يبعثهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكرياء : { فنادَتْه الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } الآية [ آل عمران : 39 ] ، أو { المرسلات } بتنفيذ أمر الله في العذاب مثل المرسلين إلى قوم لوط ، و { عُرْفاً } حال مفيدة معنى التشبيه البليغ ، أي مثل عرف الفرس في تتابع الشعر بعضه ببعض ، يقال : هم كعرف الضبع ، إذا تألبوا ، ويقال : جاءوا عرفاً واحداً . وهو صالح لوصف الملائكة ولوصف الريح .
وفسر { عُرفاً } بأنه اسمٌ ، أي الشعرَ الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ ، أي كالعُرف في تتابع البعض لبعض ، وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول ، أي معرُوف ( ضد المنكَر ) ، وأن نصبه على المفعول لأجله ، أي لأجل الإِرشاد والصلاح .