قوله تعالى : { وإن تجهر بالقول } ، أي : تعلن به ، { فإنه يعلم السر وأخفى } ، قال الحسن : ( السر ) ما أسره الرجل إلى غيره ، وأخفى من ذلك ما أسر في نفسه . وعن ابن عباس ، و سعيد بن جبير : السر ما تسر في نفسك ، وأخفى من السر : ما يلقيه الله عز وجل في قلبك من بعد ، ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك ، لأنك تعلم ما تسر به اليوم ولا تعلم ما تسر به غداً ، والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر به غداً . قال بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : السر ما أسر ابن آدم في نفسه ، وأخفى ما خفي عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه . وقال مجاهد : السر العمل الذي تسرون من الناس وأخفى الوسوسة . وقيل : السر هو العزيمة وأخفى ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه . وقال زيد بن أسلم : ( يعلم السر وأخفى ) أي يعلم أسرار العباد وأخفى سره من عباده ، فلا يعلمه أحد .
{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ } الكلام الخفي { وَأَخْفَى } من السر ، الذي في القلب ، ولم ينطق به . أو السر : ما خطر على القلب . { وأخفى } ما لم يخطر . يعلم تعالى أنه يخطر في وقته ، وعلى صفته ، المعنى : أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، دقيقها ، وجليلها ، خفيها ، وظاهرها ، فسواء جهرت بقولك أو أسررته ، فالكل سواء ، بالنسبة لعلمه تعالى .
ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على سواء فقال : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } أي وإن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى منه ، وهو ضمير النفس . وفيه تنبيه على أن شرع الذكر والدعاء والجهر فيهما ليس لإعلام الله بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها ومنعها عن الاشتغال بغيره وهضمها بالتضرع والجؤار .
وقوله { وإن تجهر بالقول } معناه وإن كنتم أيها الناس إذ أردتم إعلام أحد بأمر أو مخاطبة أوثانكم وغيرها فأنتم تجهرون بالقول فإن الله الذي هذه صفاته { يعلم السر وأخفى } فالمخاطبة ب { تجهر } لمحمد عليه السلام وهي مراد جميع الناس إذ هي آية اعتبار ، واختلف الناس في ترتيب { السر } وما هو { أخفى } منه ، فقالت فرقة { السر } هو الكلام الخفي كقراءة السر في الصلاة ، و «الأخفى » هو ما في النفس ، وقالت فرقة وهو ما في النفس متحصلاً ، و «الأخفى » هو ما سيكون فيها في المستأنف ، وقالت فرقة { السر } هو ما في نفوس البشر ، وكل ما يمكن أن يكون فيها في المستأنف بحسب الممكنات من معلومات البشر ، و «الأخفى » هو ما من معلومات الله لا يمكن أن يعلمه البشر البتة ع : فهذا كله معلوم لله عز وجل .
وقد تؤول على بعض السلف أنه جعل { أخفى } فعلاَ ماضياً وهذا ضعيف .
عطف على جملة { له ما في السموات وما في الأرض } [ طه : 6 ] لدلالة هذه الجملة على سعة علمه تعالى كما دلّت الجملة المعطوف عليها على عظيم سلطانه وقدرته . وأصل النظم : ويعلم السر وأخفى إن تجهر بالقول ؛ فموقع قوله : { وإن تَجْهَر بالقَوْلِ } موقع الاعتراض بين جملة { يعلم السر وأخفى وجملة الله لا إله إلاّ هو . فصيغ النظم في قالب الشرط والجزاء زيادة في تحقيق حصوله على طريقة ما يسمى بالمذهب الكلامي ، وهو سوق الخبر في صيغة الدليل على وقوعه تحقيقاً له .
والمعنى : إنه يعلم السر وأخفى من السرّ في الأحوال التي يجهر فيها القائل بالقول لإسماع مخاطبه ، أي فهو لا يحتاج إلى الجهر لأنه يعلم السر وأخفى . وهذا أسلوب متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة . وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق كقول أبي كبير الهذيلي :
فأتت به حُوش الفؤاد مبطّنا *** سُهُداً إذَا ما نَام ليلُ الهَوْجل
أي سُهُداً في كلّ وقت حين ينام غيره ممن هو هَوْجل . وقول بشامة بن حزن النهشلي :
إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم *** حَدّ الظُبات وصَلناها بأيدينا
وقول إبراهيم بن كُنيف النبهاني :
فإن تكن الأيام جَالت صروفها *** ببؤسَى ونُعمى والحوادث تفعل
فما ليَّنَتْ منا قناةً صَليبةً *** وما ذللتنا للّتي ليس تَجْمُل
فمن تكن الحضارة أعجبته *** فأيّ رجال بادية ترانا
فالخطاب في قوله { وإنْ تَجْهَر } يجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعم غيره . ويجوز أن يكون لغير معيّن ليعم كلّ مخاطب .
واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات لأنّ السر أخفى الأشياء عن علم الناس في العادة . ولمّا جاء القرآن مذكراً بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم . وفي « صحيح البخاري » عن عبدالله بن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقهُ قلوبِهم فقال أحدهم : أترون أنّ الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جَهَرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر : إنْ كان يسمع إذا جهرنا ( أي وهو بعيد عنا ) فإنه يسمع إذا أخفينا . فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا قلوبكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } [ فصلت : 22 ] . وقد كثر في القرآن أنّ الله يعلم ما يسرّ الناس وما يعلنون ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرتْ الآية الآنفة الذكر . وقال تعالى : { ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور } [ هود : 5 ] .
يبقى النظر في توجيه الإتيان بهذا الشرط بطريقة الاعتراض ، وتوجيه اختيار فرض الشرط بحالة الجهر دون حالة السر مع أن الذي يتراءى للناظر أنّ حالة السر أجدر بالذكر في مقام الإعلام بإحاطة علم الله تعالى بما لا يحيط به علم الناس ، كما ذكر في الخبر المروي عن ابن مسعود في الآية الآنفة الذكر .
وأحسب لفرض الشرط بحالة الجهر بالقول خصوصية بهذا السياق اقتضاها اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر بالقرآن في الصلاة أو غيرها ، فيكون مورد هذه الآية كمورد قوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول } [ الأعراف : 205 ] فيكون هذا مما نسخَه قوله تعالى : { فاصدَع بما تؤمر } [ الحجر : 94 ] ، وتعليم للمسلمين باستواء الجهر والسر في الدعاء ، وإبطال لتوهم المشركين أن الجهر أقرب إلى علم الله من السر ، كما دل عليه الخبر المروي عن أبي مسعود المذكور آنفاً .
والقول : مصدر ، وهو تلفظ الإنسان بالكلام ، فيشمل القراءة والدعاء والمحاورة ، والمقصود هنا ما له مزيد مناسبة بقوله تعالى : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] الآيات .
وجواب شرط { وإن تجهر بالقول } محذوف يدل عليه قوله : { فإنه يعلم السر وأخفى . والتقدير : فلا تشقّ على نفسك فإنّ الله يعلم السر وأخفى ، أي فلا مزية للجهر به .
وبهذا تعلم أن ليس مساق الآية لتعليم الناس كيفية الدعاء ، فقد ثبت في السُّنّة الجهر بالدعاء والذكر ، فليس من الصواب فرض تلك المسألة هنا إلاّ على معنى الإشارة .
وأخفى اسم تفضيل ، وحذف المفضل عليه لدلالة المقام عليه ، أي وأخفى من السر . والمراد بأخفى منه : ما يتكلم اللسان من حديث النفس ونحوه من الأصوات التي هي أخفى من كلام السر .