المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

48- وأنزلنا إليك - أيها النبي - الكتاب الكامل ، وهو القرآن ، ملازماً الحقّ في كل أحكامه وأنبائه ، موافقاً ومصدِّقاً لما سبقه من كتبنا ، وشاهداً عليها بالصحة ، ورقيباً عليها بسبب حفظه من التغيير . فاحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك بما أنزل الله عليك ، ولا تتبع في حكمك شهواتهم ورغباتهم ، فتنحرف عما جاءك منا من حق . لكل أمة منكم - أيها الناس - جعلنا منهاجاً لبيان الحق ، وطريقاً واضحاً في الدين يمشي عليه ، ولو شاء الله لجعلكم جماعة متفقة ذات مشارب واحدة ، لا تختلف مناهج إرشادها في جميع العصور ، ولكنه جعلكم هكذا ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع ، ليتبين المطيع والعاصي . فانتهزوا الفرص ، وسارعوا إلى عمل الخيرات ، فإن رجوعكم جميعاً سيكون إلى الله - وحده - فيخبركم بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه ، ويجازى كلا منكم بعمله .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

قوله تعالى : { وأنزلنا إليك } ، يا محمد .

قوله تعالى : { الكتاب } ، القرآن .

قوله تعالى : { بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب } ، أي من الكتب المنزلة من قبل . قوله تعالى : { ومهيمناً عليه } ، روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي شاهداً عليه ، وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والكسائي . قال حسان :

إن الكتاب مهيمن لنبينا *** والحق يعرفه ذوو الألباب

يريد : شاهداً ومصدقاً ، وقال عكرمة : دالاً ، وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة : مؤتمناً عليه ، وقال الحسن : أميناً ، وقيل : أصله مؤيمن مفيعل ، من أمين ، كما قالوا : مبيطر من البيطار ، فقلبت الهمزة هاءً ، كما قالوا : أرقت الماء وهرقته ، وأيهات وهيهات ونحوها . ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدقوا ، وإلا فكذبوا ، وقال سعيد بن المسيب والضحاك : قاضياً ، وقال الخليل : رقيباً وحافظاً ، والمعاني متقاربة ، ومعنى الكل : أن الكل كتاب يشهد بصدق القرآن فهو كتاب الله تعالى ، وإلا فلا .

قوله تعالى : { فاحكم } ، يا محمد .

قوله تعالى : { بينهم } بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك .

قوله تعالى : { بما أنزل الله } . تعالى بالقرآن .

قوله تعالى : { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } ، أي لا تعرض عما جاءك من الحق ، ولا تتبع أهواءهم .

قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً } ، قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : أي سبيلاً وسنةً ، فالشرعة والمنهاج الطريق الواضح ، وكل ما شرعت فيه فهو شريعة ، وشرعة ، ومنه شرائع الإسلام لشروع أهلها فيها ، وأراد بهذا أن الشرائع مختلفة ، ولكل أهل ملة شريعة . قال قتادة : الخطاب للأمم الثلاث ، أمة موسى ، وأمة عيسى ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ، فالتوراة شريعة ، والإنجيل شريعة ، والفرقان شريعة ، والدين واحد وهو التوحيد .

قوله تعالى : { ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة } ، أي على ملة واحدة .

قوله تعالى : { ولكن ليبلوكم } ، ليختبركم .

قوله تعالى : { في ما آتاكم } ، من الكتب ، وبين لكم من الشرائع ، فيبين المطيع من العاصي ، والموافق من المخالف .

قوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات } ، فبادروا إلى الأعمال الصالحة .

قوله تعالى : { إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

{ 48 - 50 } { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }

يقول تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ْ } الذي هو القرآن العظيم ، أفضل الكتب وأجلها .

{ بِالْحَقِّ ْ } أي : إنزالا بالحق ، ومشتملا على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه . { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ْ } لأنه شهد لها ووافقها ، وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجوده مصداقا لخبرها .

{ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ْ } أي : مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة ، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية . فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه .

وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين ، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة ، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة ، فما شهد له بالصدق فهو المقبول ، وما شهد له بالرد فهو مردود ، قد دخله التحريف والتبديل ، وإلا فلو كان من عند الله ، لم يخالفه .

{ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ْ } من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك . { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ْ } أي : لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .

{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ْ } أيها الأمم جعلنا { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ْ } أي : سبيلا وسنة ، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها ، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ، فإنها لا تختلف ، فتشرع في جميع الشرائع . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ْ } تبعا لشريعة واحدة ، لا يختلف متأخرها و[ لا ] متقدمها .

{ وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ْ } فيختبركم وينظر كيف تعملون ، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته ، ويؤتي كل أحد ما يليق به ، وليحصل التنافس بين الأمم فكل أمة تحرص على سبق غيرها ، ولهذا قال : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ْ } أي : بادروا إليها وأكملوها ، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب ، من حقوق الله وحقوق عباده ، لا يصير فاعلها سابقا لغيره مستوليا على الأمر ، إلا بأمرين :

المبادرة إليها ، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها ، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به . ويستدل بهذه الآية ، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها ، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة ، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات ، التي يقدر عليها لتتم وتكمل ، ويحصل بها السبق .

{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ْ } الأمم السابقة واللاحقة ، كلهم سيجمعهم الله ليوم لا ريب فيه . { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ْ } من الشرائع والأعمال ، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } أي القرآن . { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } من جنس الكتب المنزلة ، فاللام الأولى للعهد والثانية للجنس . { ومهيمنا عليه } ورقيبا على سائر الكتب يحفظه عن التغيير ويشهد له بالصحة والثبات ، وقرئ على بنية المفعول أي هو من عليه وحوفظ من التحريف والحافظ له هو الله سبحانه وتعالى ، أو الحفاظ في كل عصر . { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي بما أنزل الله إليك . { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن صلة للاتتبع لتضمنه معنى لا تنحرف ، أو حال من فاعله أي لا تتبع أهواءهم مائلا عما جاءك . { لكل جعلنا منكم } أيها الناس . { شرعة } شريعة وهي الطريق إلى الماء شبه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية . وقرئ بفتح الشين . { ومنهاجا } وطريقا واضحا في الدين من نهج الأمر إذا وضح . واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة . { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل ، ومفعول لو شاء محذوف دل عليه الجواب ، وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه . { ولكن ليبلوكم فيما آتاكم } من الشرائع المختلفة المناسبة لكل عصر وقرن ، هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهية ، أم تزيغون عن الحق وتفرطون في العمل . { فاستبقوا الخيرات } فابتدروها انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم . { إلى الله مرجعكم جميعا } استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ووعد ووعيد للمبادرين والمقصرين . { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعامل والمقصر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (48)

وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن ، وقوله : { بالحق } يحتمل أن يريد مضمناً الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها ، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحاً لعباده ، وقوله : { من الكتاب } يريد من الكتب المنزلة . فهو اسم جنس ، واختلفت عبارة المفسرين في معنى «مهيمن » . فقال ابن عباس : { مهيمناً } شاهداً . وقال أيضاً مؤتمناً .

وقال ابن زيد : معناه مصدقاً ، وقال الحسن بن أبي الحسن أميناً ، وحكى الزجاج رقيباً ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده ، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم ، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم ، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف ، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين ، و «مهيمن » بناء اسم فاعل ، قال أبو عبيدة : ولم يجىء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف . وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر . وذكر أبو القاسم الزجّاج- في شرحه لصدر أدب الكتاب- ومبيقر . يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق ، وبيقر أيضاً لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها الصبيان ، وقال مجاهد قوله تعالى : { ومهيمناً عليه } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم هو مؤتمن على القرآن .

قال القاضي أبو محمد : وغلط الطبري رحمه الله في هذه الألفاظ على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس «مهيمِناً » بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ، ومجاهد رحمه الله إنما يقرأ هو وابن محيصن «ومهيمَناً » عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول . وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله : { مصدقاً } وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم و { عليه } في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله . هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه الله ، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع ، قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه الله : «مهيمن » أصله «مويمن » بني من أمين ، وأبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته ، قال الزجاج : وهذا حسن على طريق العربية ، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى «مهيمن » مؤتمن ، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه ، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلباً فقال : إن ما قال ابن قتيبة رديء ، وقال هذا باطل ، والوثوب على القرآن شديد ، وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب ، انتهى كلام ثعلب .

قال القاضي أبو محمد : ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائماً عليه أميناً ، ويحتمل أن يكون { مصدقاً ومهيمناً } حالين من الكاف في { إليك } . ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي . قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله : { أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] وقد تقدم ذكر ذلك . وقال الجمهور : إنه ليس بنسخ ، وإن المعنى فإن اخترت ان تحكم { فاحكم بينهم بما أنزل الله } ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس ، والنفس أمّارة بالسوء فهواها ُمْرٍد لا محالة ، وحسن هنا دخول عن في قوله : { عما جاءك من الحق } لما كان الكلام بمعنى : لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك .

واختلف المتأولون في معنى قوله عز وجل { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين : المعنى «لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً » أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك . .

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندهم في الأحكام ، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل ، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عدداً من الأنبياء شرائعهم مختلفة ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }{[4571]} فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط ، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } .

قال القاضي أبو محمد :

والتاويل الأول عليه الناس . ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { لكل جعلنا منكم } الأمم كما قدمنا . ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه ، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد ، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيراً فمن ذلك قول الشاعر :

وفي الشرائع من جلان مقتنص *** بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب{[4572]}

أراد في الطريق إلى المياه ، ومنه الشارع وهي سكك المدن ، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب ، والمنهاج أيضاً الطريق ، ومنه قول الشاعر :

ومن يك في شك فهذا نهج *** ماء رواه وطريق نهج{[4573]}

أراد واضحاً والمنهاج بناء مبالغة في ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : { شرعة ومنهاجاً } معناه سبيلاً وسنة .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام ، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد ، والقراء على «شِرعة » بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «شَرعة » بفتح الشين ، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، كذا قال ابن جريج وغيره ، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات ، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم ، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله { إلى الله مرجعكم جميعاً } والمعنى فالبدار البدار ، وقوله تعالى : { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار إيقاع ، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه .

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ، وكل كتاب الله كذلك ، إلا أنا بقصور أفهامنا َيبين في بعض لنا أكثر مما َيبين في بعض .


[4571]:- من الآية (90) من سورة (الأنعام)
[4572]:- في (اللسان) في مادة (زرب) نسب إلى ذي الرمة بقوله: وبالشمائل من جلاّن مقتنص رذل الثياب خفي الشخص منزرب وقال: انزرب الصائد في قُترته: دخل- وقال: وجلان: قبيلة، وابن عطية يفسر الشرائع هنا بأنها الطرق، ومندوب: به آثار جراح ونُدوب، فهو يصف صيّادا من قبيلة جلان بأن ثيابه بالية، وصوته خفي، وبه آثار ندوب، وهو يختفي في الطرق التي تمر بها فرائسه.
[4573]:- الماء الرّواء- بفتح الراء المشددة: العذب، وقد روي البيت في (اللسان) وفي (القرطبي): "فهذا فلج" بدلا من: "فهذا نهج".