قوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب } . هذا في يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقال السدي : هم الشياطين يتبرأون من الإنس .
قوله تعالى : { وتقطعت بهم } . أي عنهم .
قوله تعالى : { الأسباب } . أي الصلات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصداقات وصارت مخالطتها عداوة ، وقال ابن جريج : الأرحام كما قال الله تعالى : ( فلا أنساب بينهم يومئذ ) وقال السدي : يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا كما قال الله تعالى ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً ) . وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة ، أو قرابة أو مودة ، ومنه يقال للحبل سبب ، وللطريق سبب .
وتبرأ المتبوعون من التابعين ، وتقطعت بينهم الوصل ، التي كانت في الدنيا ، لأنها كانت لغير الله ، وعلى غير أمر الله ، ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له ، فاضمحلت أعمالهم ، وتلاشت أحوالهم ، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين ، وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها ، انقلبت عليهم حسرة وندامة ، وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا ، فهل بعد هذا الخسران خسران ؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل ، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو ، وتعلقوا بغير متعلق ، فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها ، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها ، فضرتهم غاية الضرر ، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين ، وأخلص العمل لوجهه ، ورجا نفعه ، فهذا قد وضع الحق في موضعه ، فكانت أعماله حقا ، لتعلقها بالحق ، ففاز بنتيجة عمله ، ووجد جزاءه عند ربه ، غير منقطع كما قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }
ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين ، فقال : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [ وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ ]{[3041]} } تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في دار الدنيا ، فتقول الملائكة : { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] ويقولون : { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] والجن أيضًا تتبرأ منهم ، ويتنصلون من عبادتهم لهم ، كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] وقال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 81 ، 82 ] وقال الخليل لقومه : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ سبأ : 31 - 33 ] وقال تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] .
وقوله : { وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } أي : عَاينوا عذاب الله ، وتقطَّعت بهم الحيَلُ وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار مَعْدلا ولا مَصْرفا .
قال عطاء عن ابن عباس : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ } قال : المودة . وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح .
إذ ظرف وقع بدل اشتمال من ظرف { إذ يرون العذاب } [ البقرة : 165 ] أي لو تراهم في هذين الحالين حال رؤيتهم العذاب وهي حالة فظيعة وتشتمل على حال اتخاذ لهم وتبرىء بعضهم من بعض وهي حالة شنيعة وهما حاصلان في زمن واحد .
وجيء بالفعل بعد ( إذ ) هنا ماضياً مع أنه مستقبل في المعنى لأنه إنما يحصل في الآخرة تنبيهاً على تحقق وقوعه فإن درجتَ على أن إذ لا تخرج عن كونها ظرفاً للماضي على رأي جمهور النحاة فهي واقعة موقع التحقيق مثل الفعل الماضي الذي معها فتكون ترشيحاً للتبعية ، وإن درجت على أنها ترد ظرفاً للمستقبل وهو الأصح ونسبه في « التسهيل » إلى بعض النحاة ، وله شواهد كثيرة في القرآن قال تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } [ آل عمران : 152 ] على أن يكون { إذ تحسونهم } هو الموعود به وقال : { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } [ غافر : 71 ] فيكون المجاز في فعل { تَبرَّأ } خاصة .
والتبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قُرْبه أن يكون مضراً ولذلك يقال تبارآ إذا أبعد كلٌ الآخر من تبعةٍ محققة أو متوقعة .
و { الذين اتبعوا } بالبناء إلى المجهول هم الذين ضللوا المشركين ونصبوا لهم الأنصاب مثل عمرو بن لُحَيَ ، فقد أشعر قوله { اتُّبِعُوا } أنهم كانوا يَدْعُون إلى متابعتهم ، وأيدَّ ذلك قوله بعده { فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا } أي نجازيهم على إِخلافهم .
ومعنى براءتهم منهم تنصلهم من مواعيد نفعهم في الآخرة الذي وعدوهم في الدنيا والشفاعة فيهم ، وصَرْفُهم عن الالتحاق بهم حين هَرَعُوا إليهم .
وجملة { ورأوا العذاب } حاليَّة أي تبرءوا في حال رؤيتهم العذاب ، ومعنى رؤيتهم إياه أنهم رأوا أسبابه وعلموا أنه أُعِد لمن أضلَّ الناسَ فجعلوا يتباعدون من أَتباعهم لئلا يحق عليهم عذاب المضللين ، ويجوز أن تكون رؤية العذاب مجازاً في إحساس التعذيب كالمجاز في قوله : { يمسهم العذاب } [ الأنعام : 49 ] فموقع الحال هنا حسن جداً وهي مغنية عن الاستئناف الذي يقتضيه المقام لأن السامع يتساءل عن موجب هذا التبرؤ فإنه غريب فيقال رأوا العذاب فلما أريد تصوير الحال وتهويل الاستفظاع عدل عن الاستئناف إلى الحال قضاء لحق التهويل واكتفاءً بالحال عن الاستئناف لأن موقعهما متقارب ، ولا تكون معطوفة على جملة { تبرأ } لأن معناها حينئذٍ يصير إعادةً لمعنى جملة : { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } فتصير مجردَ تأكيد لها ويفوت ما ذكرناه من الخصوصيات .
وضمير { رَأوا } ضميرٌ مبهم عائد إلى فريقي الذين اتُّبعوا والذين اتَّبعوا .
وجملة { وتقطعت بهم الأسباب } معطوفة على جملة { تبرأ } أي وإذْ تقطعت بهم الأسباب ، والضمير المجرور عائد إلى كلا الفريقين .
والتقطع الانقطاع الشديد لأن أصله مطاوع قطَّعهُ بالتشديد مضاعف قَطع بالتخفيف .
والأسباب جمع سبب وهو الحَبْل الذي يُمد ليُرتقى عليه في النخلة أو السطح ، وقوله { وتقطعت بهم الأسباب } تمثيلية شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدةَ حياتهم وقد جاءَ إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب ، بحال المرتقي إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب عند ارتقائه فسقط هالكاً ، فكذلك هؤلاء قد علم كلهم حينئذٍ أن لا نجاة لهم فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة ، وهي تمثيلية بديعة لأنها الهيئة المشبهة تشتمل على سبْعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشَّبهاً بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبه بها وهي : تشبيه المشرك في عبادته الأصنام واتباع دينها بالمرتقي بجامع السعي ، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل ، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل لها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر ، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول ، وتشبيه الحرمان من الموصول للنعيم بتقطع الحبل ، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة ، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك . وقلما تأتي في التمثيلية صلوحية أجزاء التشبيه المركب فيها لأن تكون تشبيهات مستقلة ، والوارد في ذلك يكون في أشياء قليلة كقول بشار الذي يُعد مثالاً في الحُسن
كأنَّ مُثار النَّقْع فوقَ رؤسِنا *** وأسيافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَواكِبُهْ
فليس في البيت أكثر من تشبيهات ثلاثة .
فالباء في ( بهم ) للملابسة أي تقطعت الأسباب ملتبسة بهم أي فسقطوا ، وهذا المعنى هو محل التشبيه لأن الحبل لو تقطع غير ملابس للمرتقى عليه لما كان في ذلك ضر إذ يمسك بالنخلة ويتطلب سبباً آخر ينزل فيه ، ولذلك لم يقل وتقطعت أسبابُهم أو نحوه ، فمن قال إن الباء بمعنى عَن أو للسببية أو التعدية فقد بَعد عن البلاغة ، وبهذه الباء تقوَّم معنى التمثيلية بالصاعد إلى النخلة بحبل وهذا المعنى فائت في قول امرىء القيس :
تقطَّعَ أسبابُ اللُّبانة والهَوى *** عَشِيَّةَ جاوَزْنا حَمَاةَ وشَيْزَرَا . . .