البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ} (166)

تبرأ : تفعل ، من قولهم : برئت من الدين .

براءة : وهو الخلوص والانفصال والبعد .

تقطع : تفعل من القطع ، وهو معروف .

الأسباب : جمع سبب ، وهو الوصلة إلى الموضع ، والحاجة من باب ، أو مودة ، أو غير ذلك .

قيل : وقد تطلق الأسباب على الحوادث ، قال الشاعر :

ومن هاب أسباب المنية يلقها *** ولو رام أسباب السماء بسلم

وأصل السبب : الحبل ، وقيل : الذي يصعد به ، وقيل : الرابط الموصل .

{ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت العذاب بهم الأسباب } : لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم ، معتقدين أنهم سبب نجاتهم ، لم تغن شيئاً ، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم ، تبرأوا منهم .

وإذ : بدل من : إذ يرون العذاب .

وقيل : معمولة لقوله شديد العذاب .

وقيل : لمحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا ، هم رؤساؤهم وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم ، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج ، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحاً والقبيح حسناً ، قاله الحسن وقتادة أيضاً والسدي ؛ أو عام في كل متبوع ، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ .

وقراءة الجمهور : اتبعوا الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل .

وقراءة مجاهد بالعكس .

فعلى قراءة الجمهور : تبرؤ المتبوعون بالندم على الكفر ، أو بالعجز عن الدفع ، أو بالقول : إنا لم نضل هؤلاء ، بل كفروا بإرادتهم وتعلق العقاب عليهم بكفرهم ، ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على من أضلهم .

أقوال ثلاثة ، الأخير أظهرها ، وهو أن يكون التبرؤ بالقول .

قال تعالى : { تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } وتبرؤ التابعين هو انفصالهم عن متبوعيهم والندم على عبادتهم ، إذ لم يجد عنهم يوم القيامة شيئاً ، ولم يدفع عنهم من عذاب الله ، ورأوا العذاب الظاهر .

إن هذه الجملة ، هي وما بعدها ، قد عطفتا على تبرأ ، فهما داخلان في حيز الظرف .

وقيل : الواو للحال فيهما ، والعامل تبرأ ، أي تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب بهم ، ولأنها حالة يزداد فيها الخوف والتنصل ممن كان سبباً في العذاب .

وقيل : الواو للحال في : ورأوا العذاب ، وللعطف في : وتقطعت على تبرأ ، وهو اختيار الزمخشري .

{ وتقطعت بهم الأسباب } : كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب ، ولا مخلص ، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله ، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به .

وللمفسرين في الأسباب أقوال : الوصلات عن قتادة ، والأرحام عن ابن عباس وابن جريج ، أو الأعمال المتلزمة عن ابن زيد والسدي ، أو العهود عن مجاهد وأبي روق ، أو وصلات الكفر ، أو منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس ، أو أسباب النجاة ، أو المودّات .

والظاهر دخول الجميع في الأسباب ، لأنه لفظ عام .

وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع ، وهو أن يكون الكلام مسجوعاً كقوله تعالى : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } ، وهو في القرآن كثير ، وهو في هذه الآية في موضعين .

أحدهما : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله : اتبعوا ، إذ لو جاء اتبعوهم ، لفات هذا النوع من البديع .

والموضع الثاني : { ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } ، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب :

في تاجه قمر في ثوبه بشر*** في درعه أسد تدمي أظافره

وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد :

فالنحر مرمرة والنشر عنبرة***والثغر جوهرة والريق معسول

/خ167