الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ} (166)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم أخبر سبحانه عنهم، فقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا}: يعني القادة

{من الذين اتبعوا}: يعني الأتباع.

{ورأوا العذاب}: يعني القادة والأتباع.

{وتقطعت بهم الأسباب}: يعني المنازل والأرحام التي كانوا يجتمعون عليها من معاصي الله، ويتحابون عليها في غير عبادة الله، انقطع عنهم ذلك وندموا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله:"إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا"؛

فقال بعضهم: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتُّبِعُوا وهم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرك، مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وهم الأتباع الضعفاء، ورَأَوُا العَذَابَ... تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.

وقال آخرون: الشياطين تبرّءوا من الإنس.

والصواب من القول عندي في ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن المتّبَعينَ على الشرك بالله يتبرؤون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله، ولم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض، بل عمّ جميعهم، فدخل في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتبعونه على الضلال في الدنيا إذا عاينوا عذاب الله في الاَخرة.

وأما دلالة الآية فإنها إنما تدلّ على أن الأنداد الذين اتخذهم من دون الله مَن وصف تعالى ذكره صفته بقوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا "هم الذين يتبرؤون من أتباعهم. وإذا كانت الآية على ذلك دالة، صحّ التأويل أن الأنداد في هذا الموضع إنما أريد بها الأنداد من الرجال الذين يطيعونهم فيما أمروهم به من أمر، ويعصون الله في طاعتهم إياهم، كما يطيع الله المؤمنون ويعصون غيره، وفسد تأويل قول من قال: إنهم الشياطين تبرّءوا من أوليائهم من الإنس لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن متخذي الأنداد.

"وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ": يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا، وإذ تقطعت بهم الأسباب.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب؛

فقال بعضهم: "وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ": الوصال الذي كان بينهم في الدنيا... بالمودة. [و] عن الربيع: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ يقول: الأسباب: الندامة.

وقال بعضهم: بل معنى الأسباب: المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا.

وقال آخرون: الأسباب: الأرحام.

وقال آخرون: الأسباب: الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا... أسباب أعمالهم، فأهل التقوى أعطوا أسباب أعمالهم وثيقة فيأخذون بها فينجون، والآخرون أعطوا أسباب أعمالهم الخبيثة فتقطع بهم فيذهبون في النار. والأسباب: الشيء يتعلق به . والسبب الحبل، والأسباب جمع سبب، وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طلبته وحاجته، فيقال للحبل سبب لأنه يتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به، ويقال للطريق سبب للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه، وللمصاهرة سبب لأنها سبب للحرمة، وللوسيلة سبب للوصول بها إلى الحاجة، وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة فهو سبب لإدراكها.

فإذا كان ذلك كذلك فالصواب من القول في تأويل قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن الذين ظلموا أنفسهم من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار يتبرأ عند معاينتهم عذاب الله المتبوع من التابع، وتتقطع بهم الأسباب. وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بعضهم يلعن بعضا، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: (ما أنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) وأخبر تعالى ذكره أن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضا، فقال تعالى ذكره: (وَقِفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْئُولُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرون) وأن الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه، وإن كان نسيبه لله وليا، فقال تعالى ذكره في ذلك: "ومَا كانَ اسْتِغْفارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ لِلّهِ تَتَبّرأ مِنْهُ"، وأخبر تعالى ذكره أن أعمالهم تصير عليهم حسرات. وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب، فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها فلا خِلال بعضهم بعضا ينفعهم عند ورودهم على ربهم ولا عبادتهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم، ولا دافعت عنهم أرحام فنصرتهم من انتقام الله منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم بل صارت عليهم حسرات، فكل أسباب الكفار منقطعة، فلا معنى أبلغ في تأويل قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ من صفة الله، وذلك ما بينا من جميع أسبابهم دون بعضها على ما قلنا في ذلك. ومن ادّعى أن المعنى بذلك خاص من الأسباب سئل عن البيان على دعواه من أصل لا منازع فيه، وعورض بقول مخالفه فيه، فلن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والتبرؤ: التباعد للعداوة، فاذا قيل تبرأ الله من المشركين معناه باعدهم من رحمته، وكذلك إذا تبرء الرسول منهم معناه باعدهم -للعداوة- عن منازل من لا يحب له الكراهة. والتبرؤ في أصل اللغة، والتزيل، والتفصي نظائر. وضد التبرؤ التولي.

والاتباع: طلب الاتفاق في مكان، أو مقال، أو فعال، فاذا قيل اتبعه ليلحقه، فمعناه ليتفق معه في المكان، واذا تبعه في مذهبه أو في سيره أو غير ذلك من الأحوال، فمعناه طلب الاتفاق...

والسبب: الوصلة إلى [الأمر المتعذر] بما يصلح من الطلب...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...

المسألة الثانية: معنى الآية أن المتبوعين يتبرؤون من الأتباع ذلك اليوم فبين تعالى ما لأجله يتبرؤون منهم وهو عجزهم عن تخليصهم من العذاب الذي رأوه لأن قوله:

{وتقطعت بهم الأسباب} يدخل في معناه أنهم لم يجدوا إلى تخليص أنفسهم وأتباعهم سببا، والآيس من كل وجه يرجو به الخلاص مما نزل به وبأوليائه من البلاء يوصف بأنه تقطعت به الأسباب...

واختلفوا في المراد بهؤلاء المتبوعين على وجوه.

(أحدها): أنهم السادة والرؤساء من مشركي الإنس، عن قتادة والربيع وعطاء... [وهو] الأقرب... لأن الأقرب في الذين اتبعوا أنهم الذين يصح منهم الأمر والنهي حتى يمكن أن يتبعوا وذلك لا يليق بالأصنام، ويجب أيضا حملهم على السادة من الناس لأنهم الذين يصح وصفهم من عظمهم بأنهم يحبونهم كحب الله دون الشياطين ويؤكده قوله تعالى: {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا}

المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير التبرؤ وجوها.

(أحدها): أن يقع منهم ذلك بالقول.

(وثانيها): أن يكون نزول العذاب بهم، وعجزهم عن دفعهم عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤوا.

(وثالثها): أنه ظهر فيهم الندم على ما كان منهم من الكفر بالله والإعراض عن أنبيائه ورسله فسمي ذلك الندم تبرؤا والأقرب هو الأول، لأنه هو الحقيقة في اللفظ... أما قوله تعالى: {ورأوا العذاب} الواو للحال، أي يتبرؤون في حال رؤيتهم العذاب وهذا أولى من سائر الأقوال، لأن في تلك الحالة يزداد الهول والخوف...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

والكلام متصل لاحقه بسابقه في موضوع اتخاذ الأنداد. وقد نطقت الآية السابقة أن عذاب الله تعالى سيحل بمتخذي الأنداد من دونه، وهو عام في التابع في الاتخاذ والمتبوع فيه، وفي الاتباع المذموم من التشريع بالرأي والهوى والتقليد فيه وغير ذلك من الضلال. وبين في هاتين الآيتين تفصيل حال التابعين والمتبوعين في ذلك، وأورده بصيغة الماضي تمثيلا لحال الفريقين في ذلك اليوم الذي ينكشف فيه الغطاء ويرى الناس فيه العذاب بأعينهم، ويعرفون أسبابه من تأثير العقائد الباطلة والأعمال السيئة في أنفسهم، كأن الأمر قد وقع، والبلاء قد نزل، ورأى الرؤساء المضلون الذين اتبعوا أن إغواءهم للناس الذين اتبعوا رأيهم، وقلدوهم دينهم، قد ضاعف عذابهم، وحملهم مثل أوزار الذين أضلوهم فوق أوزارهم، فتبرؤا منهم، وتنصلوا من ضلالتهم...

[ف] في مثل هؤلاء المتبوعين والتابعين نزل قوله تعالى في سورة الأعراف: {كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذ أداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون *} (الأعراف: 38، 39) فكل يؤاخذ بعمله، فإذا حمل الأول الآخر على رأيه ودعاه إلى إتباعه فيه أو في رأي غيره الذي يقلده هو فهو من الأئمة المضلين، وعليه إثمه ومثل إثم من أضلهم من غير أن ينقص من إثمهم شيء، إذ حرم الله عليهم اتخاذ الأنداد من دون الله فاتخذوهم. وأما من يبدي في الدين فهما، ويقرر بحسب ما ظهر له من الدليل حكما، يريد أن يفتح به للناس أبواب الفقه، ويسهل لهم طريق العلم، ثم هو يأمر الناس بأن يعرضوا قوله على كتاب الله وسنة رسوله، وينهاهم أن يأخذوا به إلا أن يقتنعوا بدليله، فهو من أئمة الهدى، وأعلام التقى، وليس يضره أن يقلد فيه بغير علمه، ويجعل ندا لله من بعد موته، فإنه إذا كان مخطئا وجاء ذلك المقلد له على غير بصيرة يوم القيامة ينسب ضلاله إليه، فإنه يتبرأ منه بحق ويقول ما أمرتك أن تأخذ بقولي على علاته ولا أعرفك. فالذين يتخذون أندادا يتبرؤون كلهم يوم القيامة ممن اتخذوهم، ولكنهم يكونون على قسمين: قسم عبدهم الناس كالمسيح وبعض أولي العلم والتقوى من هذه الأمة ومن الأمم قبلها أو قلدوهم في الدين من غير دليل شرعي كبعض الأئمة المهتدين من غير أن يأمرهم هؤلاء بعبادتهم أو تقليدهم، بل مع نهيهم إياهم عن عبادة غير الله تعالى وعن الاعتماد على غير وحيه في الدين فهذا القسم غير مراد هنا لأن الذين عبدوا أولئك الأخيار أو قلدوهم دينهم لم يتبعوهم في الحقيقة، إذ اتباعهم في اتباع طريقتهم في الدين وما كانوا يشركون بالله أحدا ولا شيئا، ولا يقلدون في دينه أحدا وإنما كانوا يأخذون دينه عن وحيه فقط وقسم أضلوا الناس بأحوالهم وأقوالهم فاتبعوهم على غير بصيرة ولا هدى فهؤلاء هم الذين يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، إذ تتقطع بهم أسباب الأهواء والمنافع الدنيوية التي تربط هنا بعضهم ببعض...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وتبرأ المتبوعون من التابعين، وتقطعت بينهم الوصل، التي كانت في الدنيا، لأنها كانت لغير الله، وعلى غير أمر الله، ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له، فاضمحلت أعمالهم، وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين، وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها، انقلبت عليهم حسرة وندامة، وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل، فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو، وتعلقوا بغير متعلق، فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها، ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها، فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين، وأخلص العمل لوجهه، ورجا نفعه، فهذا قد وضع الحق في موضعه، فكانت أعماله حقا، لتعلقها بالحق، ففاز بنتيجة عمله، ووجد جزاءه عند ربه، غير منقطع كما قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}.